بقلم: أ. د. عبد المجيد بوشبكة
أوضحنا في مقال سابق كيف عبر الشيخ سعيد النورسي رحمه الله عن السياسة التي فصل في ذكر صفاتها تعبيرا بليغا فقال في إحدى كلماته: (… وهكذا نبتت شجرة زقوم على قمة هذا الوجه من “أنا” غطت بضلالها نصف البشرية وحادت بهم عن سواء السبيل.
أما الثمرات التي قدمتها تلك الشجرة الخبيثة، شجرة الزقوم، إلى أنظار البشر فهي الأصنام والآلهة في غصن القوة البهيمية الشهوانية؛ إذ الفلسفة تحبذ أصلاً القوة، وتتخذها أساسا وقاعدة مقررة لنهجها، حتى إن مبدأ “الحكم للغالب” دستور من دساتيرها، وتأخذ بمبدأ “الحق في القوة” فأعجبت ضمناً بالظلم والعدوان، وحثت الطغاة والظلمة والجبابرة العتاة حتى ساقتهم إلى دعوى الألوهية…
وبناء على ما سلف طرحنا تساؤلات عدة:
هل الشيخ النورسي ترك السياسة اختيارا أم اضطرارا؟ وهل استعاذته من الشيطان والسياسة كانت قناعة أم موقفا أملته ظروف معينة؟ وما موقف تلاميذه وإخوانه بعده من السياسة وأهلها؟
لن نتعب في الجواب لأنه رحمه الله أجاب عن ذلك في حياته حين قال في المكتوب السادس عشر: (قيل: لِمَ انسحبت من ميدان السياسة ولا تتقرب إليها قط؟ الجواب: لقد خاض سعيد القديم غمار السياسة ما يقارب العشر سنوات علّه يخدم الدين والعلم عن طريقها. فذهبت محاولته أدراج الرياح…) وإذا كانت الواجهة السياسية وأهلها لم يتحملوا محاولات سعيد القديم في الإصلاح وضاقوا به ذرعا، فلا شك أن الحرص عليها سيكون عبثا في وجود بديل لها. وبذلك رجع الشيخ أدراجه إلى كنف خدمة الإيمان والقرآن التي وجد فيها ضالته، حيث قال في المكتوب الثالث عشر: (إن خدمة القرآن الكريم هي التي منعتني بشدة عن عالم السياسة بل أنستني حتى التفكير فيها. وإلا فإن تاريخ حياتي كلها تشهد بأن الخوف لم يكبلني ولا يمنعني في مواصلة سيري فيما أراه حقاً. ثم ممَّ يكون خوفي؟ فليس لي مع الدنيا علاقة غير الأجل…).
لكن هل استعاذ الشيخ النورسي من الشيطان والسياسة قناعة أم لموقف أملته ظروف معينة؟ لقد نبه رحمه الله في لمعة من كتابه المعنون بـ”اللمعات” إلى كون السياسة الحاضرة الدائرة رحاها على المصالح وحشٌ رهيبٌ، فالتودد إلى وحش جائع لا يدرّ عطفه بل يثير شهيته أكثر، ثم يعود ويطلب منك أجرة أنيابه وأظفاره! وعبر ذلك يبدو أنه رحمه الله، اقتنع بأن ممارسة العمل السياسي في الظروف التي وصفها ستؤدي إلى نتائج عكسية، فتضيع بذلك المصالح التي كانت سببا لولوجه عالم السياسة في ظروف سابقة. بل إن السياسة مع المضايقات التي عاشها رحمه الله باتت قرينة الشيطان بالنسبة إليه حتى قال: (…السياسة الحاضـرة شيطان في عالم الأفكار ينبغي الاستعاذة منها..). ثم إنه لم يجد سبيلا غير التبرؤ منهما معا فقال في المكتوب الثالث عشر: (ولذلك، قلت: “أعوذ بالله من الشيطان والسياسة” لكي أحافظ على نور القرآن. واعتصمت بكلتا يدي بذلك النور، ملقياً مطرقة السياسة جانباً…)
إن العقوق السياسي الذي بدا للشيخ النورسي في سلوك وممارسة السياسيين الذين عايشهم، قد أوصله إلى نتائج قد تكون محيرة بل مفزعة بالنسبة لمن ركنوا إلى ممارسة العمل السياسي أو اطمأنوا إلى السياسيين. وهذه الحيرة قد تزداد حين نجد رجلا في مستوى ومكانة الشيخ النورسي، يتجاوز المواقف إلى ما يعادل قواعد ومعايير في التدبير السياسي للدولة المعاصرة من قبيل قوله: (…من دساتير السياسة الظالمة هو “يمكن أن يضحى بالأشخاص أو بحقوقهم في سبيل الحفاظ على الدولة واستتباب النظام في البلاد..) ومثل هذه القواعد التي تدخل فيما يصطلح على تسميته “اللعبة السياسية” قد أوجد لها السياسيون قديما مبررات ومسوغات لا تنتهي، أما حديثا فقد أبدعوا وتفننوا في ذلك. وهناك من يبطشون بكل مخالف أو مشاكس فضلا عن المعارض وصاحب المبدأ.
وهذا الذي عبر عنه النورسي رحمه الله بقوله: (صرنا في زمان يُخفي فيه الضدُّ ضدَّهُ، وإذا باللفظ ضد المعنى في لغة السياسة. وإذا بالظلم يلبس قلنسوة العدالة، وإذا بالخيانة ترتدي رداء الحمية بثمن زهيد. ويُطلق اسم البغي على الجهاد في سبيل الله ويسمّى الأسر للشهوات الحيوانية والاستبداد الشيطاني حرية..)
لكن المثير في الموضوع هو أن سعيد الجديد لم يسلم من كيد أهل السياسة وألاعيبهم رغم الاستعاذة منها وابتعاده عن ميادينها. حيث لازمته المكائد وطالته الاتهامات ووصل الأمر إلى المتابعات القضائية، التي دون كثيرا من أحداثها في مرافعاته التاريخية. الشيء الذي يطرح تساؤلات جوهرية حول الأسباب الحقيقية وراء المضايقات والاتهامات التي طالت سعيد الجديد، ولماذا لم يسلم الرجل من تبعات أعمال واهتمامات سعيد القديم، رغم أن كل تلك الأعمال والأفعال لا تعدو أن تكون ممارسة لحق من حقوق أي مواطن عادي فضلا عن مواطن من طبقة الشيخ النورسي. بل السؤال الجوهري هو أن المشروع الذي يحمله سعيد الجديد هو نفس المشروع الذي كان يهفو إليه سعيد القديم، وأن تغييره لموقفه من السياسة أو لموقعه من أهلها لن يغير شيئا من نظرتهم إليه، بل هو أمر لا يلتفت إليه بمنطق السياسيين.
فإذا كانت هذه مواقف الشيخ النورسي- وهو من هو في العلم والفقه والخلق- من السياسة والسياسيين، فكيف ستكون مواقف تلاميذه وإخوانه بعده منها؟ كيف سيكون موقف من تعلق بدعوة ومنهج الشيخ النورسي وأمثاله، وآمن بعدالة قضيته، ثم تسمم بلفحات السياسيين من بعده، أو من يدور في فلكهم؟ كما روي عن الشيخ النورسي في أحد مكتوباته:(… رأيت ذات يوم رجلاً عليه سمات العلم يقدح بعالم فاضل، بانحياز مغرض حتى بلغ به الأمر إلى حد تكفيره، وذلك لخلاف بينهما حول أمور سياسية، بينما رأيته قد أثنى في الوقت نفسه على منافق يوافقه في رأيه السياسي! فأصابتني من هذه الحادثة رعدة شديدة، واستعذت بالله مما آلت إليه السياسة وقلت: أعوذ بالله من الشيطان والسياسة).
بعد كل هذا كيف يستقيم حال المؤمنين بكون المجال السياسي مدخلا معقولا للإصلاح والتغيير، فضلا عن المشككين فيه؟ وهل الممارسات السياسية الحالية مختلفة عن التي عانى منها الشيخ النورسي وقرر بشأنها ما سبق ذكره، أم هي أختها من الرضاعة؟ ثم هل المشكل في السياسة وفلسفتها وقيمها وأهدافها، أم المشكل في السياسيين وقيمهم وأهدافهم؟
لايجادل من له حد أدنى بمعرفة الأنظمة الدولية اليوم أن الإنسان المعاصر لايزال يئن تحت وطأة نتائج السياسات المتبعة في جل أصقاع العالم، كما لا يختلف اثنان عن الإقرار بأن عصر السعادة الذي يطمح إليه المسلمون اليوم لايزال بعيد المنال. لكن المخاض الذي تعرفه الأمة في عصرنا، يشد الأعصاب بين متفائل ومن يعض أصابعه ألما وحسرة على ما يحصل نتيجة ممارسات سياسية غريبة ومستفزة. وإذا كانت الاختيارات السياسية المتبعة من طرف عدد من الدول الإسلامية التقليدية معروفة ومألوفة، فإن الحكومات المحسوبة على الإسلاميين اليوم تعيش تحديا بل مخاضا حقيقيا وامتحانا صعبا. وبقدر ما طال أمد التنظير لغد أفضل فقد تعددت الأطروحات لمشاريع بديلة. وفي ظل توالي النكسات استجابت الجماهير لهذه الدعوات ومنحت ثقتها لأصحابها.
إلا أن السؤال الذي يحير الأعداء ويستفز الأولياء اليوم: إلى أي حد استطاعت هذه التجارب إرضاء الجماهير والوفاء بوعودها في تحقيق التنمية، وتوفير الحقوق والحريات والكرامة؟