دمشق (زمان التركية)ــ رأي الكاتب أنس وهيب في مقاله المنشور بصحيفة الوطن السورية أن إيران وتركيا تكشفت رغبتيهما المشتركة في العودة إلى التدخل بسياسات الشرق الأوسط بعد انقطاع طويل للغاية، رغم اختلاف التوجهات، الذي ينذر بوقع صراعات حتمية بين الدولتين.
بعد الحرب العالمية الأولى تم خفض قوة تركيا واحتوائها مع إيران بالانتدابين البريطاني والفرنسي، ولم تكن لدى طهران أو أنقرة القدرة على أكثر من زعزعة استقرار هذين الانتدابين لقاء تحقيق مطالبهما من لندن وباريس القوتين المتحكمتين بالنظام الدولي والإقليمي الشرق أوسطي الناشئين على أنقاض الحرب العالمية الأولى والسلطنة العثمانية.
بشكل خاص برع مصطفى كمال أتاتورك القائد العسكري الفذ ومؤسس الدولة التركية الحديثة، في ابتزاز الفرنسيين والبريطانيين المحتلين لسورية والعراق، مقابل التراجع عن تقسيم الأناضول واحتلاله بموجب اتفاقية سايكس بيكو، وإلغاء بنود اتفاقية «سيفر» وتوسيع نطاق الدولة التركية الوليدة، وقام الأتراك بقيادة أتاتورك، بدعم وتزكية الاضطرابات في مواجهة الفرنسيين بسورية من إدلب وحلب والرقة وحتى درعا، ولقد أوقف أتاتورك دعمه لكل التحركات في سورية بعيد انتصاراته في مرسين وأزمير، والتي أعقبها اتفاق مع الفرنسيين حول الوضع في تركيا وتكرس في معاهدة لوزان.
في العراق، توالت ضغوط أتاتورك على بريطانيا من أجل ضم ولاية الموصل إلى تركيا، وكانت بريطانيا القوة العالمية الأولى في عالم ما بين الحربين، وتهيمن بشكل مباشر أو غير مباشر على مجمل الشرق الأوسط من الهند وباكستان وأفغانستان وإيران والعراق والخليج وعمان وعدن وشبه الجزيرة العربية وفلسطين والأردن ومصر والسودان، أقنعت حقائق القوة الزعيم التركي بأن معاداة الإنكليز خطرة وأن تحالفاً مع الاتحاد السوفييتي الضعيف لن تفيد أكثر من تعزيز موقفه الدبلوماسي، فرضخ للأمر الواقع البريطاني في الموصل ووقع اتفاقية أنقرة لعام 1926، التي ألمحت إلى إمكانية إعادة الولاية لتركيا إذا ما أنشأ الأكراد فيها دولة وطنية لهم.
في ذلك الوقت اقتصر النشاط الإيراني في العراق على جهود رجال الدين، الذين استهدفوا زعزعة الهيمنة البريطانية في البلاد وجوارها، بينما ركزت السلطات الرسمية كامل طاقتها على سبل احتواء الصراع الدولي حول إيران، ودفع العدو القريب بالعدو البعيد.
انتقل تركيز الأتراك والإيرانيين على التعامل مع الطموحات والتهديدات النابعة من الاتحاد السوفييتي بمساعدة الأميركيين وحلف شمال الأطلسي «الناتو»، وهكذا، غدت الدولتان بمنزلة ترسين في آلة الأمن العالمية التي أسستها واشنطن حول العالم خلال الحرب الباردة، لاحتواء الاتحاد السوفييتي، واستمرتا بهذا الشكل أو بآخر، حتى الثورة الإسلامية بالنسبة لإيران، وانهيار الاتحاد السوفييتي بالنسبة لتركيا.
أثبتت إيران وتركيا بعد حرب العراق والأزمة السورية، رغبتيهما المشتركة في العودة إلى التدخل بسياسات الشرق الأوسط بعد انقطاع طويل للغاية، وتمكنت طهران من بناء إستراتيجية إقليمية متماسكة قادرة على نشر نفوذها بالمنطقة، وإن تعرضت للضغوط بشكل دائم، وأيضاً، بنت تركيا منذ وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة عام 2002، إستراتيجية إقليمية لنشر نفوذها بالشرق الأوسط، وأدخلت عليها تعديلات بعد 2011، وزودتها بأذرع عسكرية منذ 2016، كان آخر فصل فيها الهجوم العسكري على منطقة عفرين.
نجاح الدولتين في اجتراح إستراتيجيتين إقليميتين للعودة إلى المنطقة، مدعومة من اقتصادين قويين نسبيا، وقوة عسكرية متناظرة وغير متناظرة، ترك تأثيراته على واضعي الاستراتيجيات في الدول الكبرى، ومع تزايد الصراع ما بين القوى الكبرى روسيا والصين والولايات المتحدة وابتعاد أوروبا وبريطانيا عن واشنطن، ازداد هوامش المناورة أمام الأتراك والإيرانيين في المنطقة، والآن، هدأت تركيا وإيران من صراعاتهما في الشرق الأوسط بهدف احتواء الطموحات الكردية وإحباط السياسات الأميركية في شرق سورية والتي تشكل تهديداً للخطط التركية والإيرانية تجاه سورية والعراق.
لكن، بحكم اختلاف التوجهات الجيوسياسية والسياسية ما بين طهران وأنقرة ستدخل الدولتان في مرحلة ما بصراع حول مواقع نفوذهما بالشرق الأوسط، وعندها ستبحثان عن ظهير دولي يساندهما في مواجهة بعضهما البعض، وبالتالي، يتزايد التداخل ما بين الصراع على المستوى الإقليمي والآخر المستعر على المستوى الدولي، وهذا ما سيعيد الشرق الأوسط إلى القرن السادس عشر عندما ظهرت بشكل متزامن الدولتان الفارسية والعثمانية على مسرح الأحداث، وتصارعتا على السيطرة على الهلال الخصيب، واستعانتا بالأوروبيين في مرحلة لاحقة من القرن السابع عشر.