بقلم: د. يحيى وزيري
“لماذا يهتم الأتراك بتلك الزهرة بالذات؟ ولماذا أخذت هذه المكانة في رؤية وفكر الحضارة العثمانية، وفي العديد من فنونهم المرئية أو المسموعة؟”، وكأن هذا الصديق أراد أن يقول لي أنها زهرة كأي زهرة أخرى، فلماذا تلك المكانة والأهمية؟ قلت له: “نعم أخي العزيز هي زهرة، ولكنها ليست مثل باقي الأزهار، كما أنه يوجد “رجال ولا كأي رجال”(1).
فزهرة “اللاله” ترمز في فكر الحضارة العثمانية إلى الحب الإلهي، لأن حروفها هي نفس حروف اسم الجلاله “الله”(2)، من هنا نجد انتشار استخدامها في فنون الحضارة العثمانية بأشكال متعددة ومتنوعة. فيمكن أن تجدها مرسومة على بلاطات من السيراميك بأسلوب فني راق، أو منسوجة على قطعة من القماش معلقة على الحائط أو على بساط مفروش على الأرض، أو معنى مستلهمًا في قصيدة شعر أو في لوحة فنان تشكيلي.
لقد وجد فيها -مَن عرفوها- رمزًا للصدق والصفاء والوفاء والعطاء… لقد أضحت ملهمة لأصحاب القلوب الرقيقة والعقول المنيرة، فتجلّت في أعمالهم رمزًا للإيمان وحبًّا للجمال… فهل فهمتَ أخي وصديقي العزيز؟!
إن بعض الرجال يشبهون زهرة التوليب (اللاله) في كونها رمزًا للعطاء والإلهام، فكما أن ألوانها مختلفة فمنها الحمراء والصفراء والبيضاء، فهم أيضًا مختلفون في درجة الغنى أو الثقافة أو المكانة الاجتماعية… ولكن يجمعهم كلهم مشروع إيماني دعوي واحد، ألا وهو “الخدمة”.
و”الخدمة” لمن لا يعرف، هي جوهر المشروع الدعوي للمرشد والمربي “هُوجا أفَندي” أو “الأستاذ المعلم” محمد فتح الله كولن، أيْ خدمة الإيمان والقرآن عن طريق رجال وفرسان الخدمة، ولا سيما رجال الأعمال الذين يطلق عليهم “الأصناف” الذين يقومون بالعديد من أعمال الخير التي أمر بها الإسلام، كبناء المدارس والجامعات والمستشفيات، أو بكفالة طالب علم أو بإطعام (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ)(البلد:15-16).
وقد كان الإطار الذي انتظم تنفيذ هذا المشروع الدعوي التربوي، هو مبدأ “التلطّف” تنفيذًا لقوله تعالى: (وَلْيَتَلَطَّفْ)(الكهف:19)(3)، الكلمة التي تتوسط القرآن الكريم.
التقيت بعض هؤلاء “الأصناف” خلال زيارتي لإسطنبول وبورصة، فيحكي أحدهم مشاعره الإنسانية وهو ذاهب في إحدى المرات إلى جلسة من جلسات “الهمّة”، وفيها يلتقي المنفقون في سبيل الله للتباري بالمنح للطلبة، أو في جمع الأموال للإنفاق في أوجه الخير المختلفة، فيوضح حديث النفس الداخلي بالتعلل بعدم استطاعته المشاركة إلا بقدر يسير من المال. ثم يخبرنا بأنه ما إن وطئت قدمه جلسة “الهمّة” ورأى باقي إخوانه من الأصناف، حتى دبّت فيه روح إيمانية مختلفة، فيجد نفسه وقد تبرّع بأكثر مما قرر قبل أن يلتحق بالجلسة.
ومنهم من حكى لنا أنه قد أخرج أموالاً كثيرة جدًّا، وفي كل مرة كان يفعل ذلك يجد أن الله يخلف عليه أكثر مما أنفق وأخرج في سبيل الله.
أما الأستاذ حسن؛ نعم فأنا أتذكّر اسمه جيدًّا ربما لأنه كان يبكي وهو يروي لنا ما حدث له في عيد الأضحى بإحدى السنوات الماضية، حيث خرج من تركيا ذاهبًا لقضاء العيد في إحدى البلاد الأفريقية هو ومجموعة من “الأصناف”، وبعد صلاة العيد وذبْح الأضاحي، كان ومن معه يطرقون أبواب المنازل يوزّعون من لحوم الأضاحي… فطرقوا أحد الأبواب ففتحت لهم امرأة، فأخبرها بأنه مسلم ويطلب منها أن تأخذ منه بعضًا من لحم الأضحية… فبكت المرأة وقالت له: “أنا مسيحية، فكيف تعطيني هذا اللحم”، فقال لها: “لا بأس نحن لا نفرّق بين مسلم ومسيحي”، وقام بإعطائها نصيبًا من لحم الأضحية.
“قصص من واقع الخدمة تفوق الخيال” كما روى بعضها الدكتور محمد باباعمي في كتابه “ذى قربتي”(4)، كقصة علي، وصاحبة الدَّين، وعرَبة العمّ رمضان، وغيرها من القصص التي توضح لحظات الاختيار بين المصلحة والواجب، وبين الإنفاق والبخل، وبين الدنيا والآخرة.
لقد شاهدتُ بعيني العديد من المدارس والجامعات في إسطنبول وبورصة، وكذلك في تِيرانا (عاصمة ألبانيا)، والتي تعتبر أزهارًا وثمارًا لمشروع “الخدمة”، وهي أيضًا ليست كالمدارس العادية التي نشاهدها في أماكن أو بلاد أخرى، فقد جمعتْ بين تعليم اللغة العربية والقرآن الكريم إلى جانب أحدث المعارف الإنسانية.
وعندما سألتُ عن عدد تلك المدارس، أخبرتُ أنها تزيد عن ألفَي مدرسة تنتشر في حوالي مائة وستّين دولة بقارات المعمورة المختلفة.
إن دور مشروع الخدمة يمتدّ أيضًا إلى رعاية الكثير من الطلبة، ليس فقط على المستوى المادي، ولكن الأهمّ والأبقى، على مستوى رعاية التربية والسلوك.
رأيت مشهدًا بسيطًا من مشاهد تلك الرعاية والعناية؛ عندما دعيتُ أنا وبعض الزملاء لتناول وجبة العشاء في شقة يقطنها بعض طلبة الجامعات بإسطنبول في إطار مشروع الخدمة. التقيتُ بهؤلاء الأبناء الأعزّاء، واستمعتُ منهم كيف تأثّروا وتغيّرت العديد من سلوكياتهم إلى الأفضل… كيف أصبحوا يعتمدون على أنفسهم ويتعايشون معًا كإخوة متحابّين متعاونين.
لقد عرفت مِن بعضهم أنهم عندما يزورون ذويهم من حين لآخر، فإن الآباء والأمهات يشعرون بالتغيير الملحوظ في سلوكيات هؤلاء الأبناء. لقد أصبحوا أكثر اعتمادًا على أنفسهم، تحسّنت وارتقت سلوكياتهم. إنهم يسيرون في الطريق الصحيح.
نسيت أن أقول لكم إنني في تلك الليلة الممتعة مع هؤلاء الأبناء، أكلتُ طعام العشاء وهو طبق “المقلوبة” المعروف في تركيا، وكانت دهشتي أن تلك المأدبة الرائعة كانت من صنع أيديهم.
إن ما لفت نظري عندما تعاملت مع فرسان ورجال الخدمة، حبّهم واحترامهم الشديد للأستاذ كولن، ومن مظاهر هذا الحب التي لمستُها بنفسي، أنني قمتُ بإهداء أحد مؤلفاتي لأحدهم (لا أريد أن أذكر اسمه، فأنا أعرف أنه لا يحب ذلك)، ففُوجئتُ أنه يقول لي “اكتب الإهداء على صفحات الكتاب للأستاذ، وسوف أوصله له في أمريكا حيث مكان إقامته الحالية”.
تلاميذ الأستاذ كولن يستشهدون دائمًا بكلماته وأفكاره، كلما جلستُ معهم يحدّثونك عن مواقف الأستاذ وعطائه لكل مَن يعرف أو لا يعرف بلا حدود… أنا لم أقابل الأستاذ ولو مرة واحدة في حياتي، ولكن أستطيع أن أوكّد أنني رأيتُه في كل تلاميذه ومحبيه وكل مَن ينتسب إلى مشروع “الخدمة”. فهنيئًا للأستاذ بأزهار “اللاله” التي زرعها في حدائق الإيمان.
في محاضرة لي بمدينة بورصة، وقفتْ طالبة تركية تسألني: “لماذا يقِف البعض موقفًا سلبيًّا من حركة الخدمة؟” فأجبتُها مبتسمًا: “يا بنيّتى! من ذاق عرَف… هم لم يذوقوا، فأنّى لهم أن يعرفوا؟!”.
هي زهرة، ولكنها ليست مثل باقي الأزهار… كما أنهم “رجال ولا كأيّ رجال”(5).
(*) كلية الآثار، جامعة القاهرة / مصر.
الهوامش
(1) مقتبس عن كتاب الأستاذ فريد الأنصاري بنفس العنوان، ويقصد تحديدًا رجال وفرسان الخدمة. (انظر: رجال ولا كأيّ رجال، أ.د. فريد الأنصاري، دار النيل، القاهرة 2013).
(2) مقال “حبيبتى يا زهرة اللاله” محمد باباعمي، مجلة حراء، العدد:37 (يوليو-أغسطس 2013).
(3) فتح الله كولن.. رائد النهضة الراشدة في تركيا المعاصرة، أ.د. عبد الحليم عويس. دار النيل للطباعة والنشر، القاهرة 2013.
(4) ذي قربتي.. مقالات وخواطر وقصص من واقع الخدمة، محمد باباعمّي، دار النيل، القاهرة 2013.
(5) “رجال ولا كأيّ رجال” هو مقال ألّفه العالم الفاضل الأديب المغربي المرحوم فريد الأنصاري حول رجال الخدمة، ونشر هذا المقال في مجلة حراء، العدد:13 (أكتوبر-ديسمبر 2008).
من موقع مجلة حراء