عبد الحميد بيليجي
عندما درست العلوم السياسية في الجامعة بصفتي ابن عائلة متدينة من وسط محافظ عشتُ تجربة فريدة من نوعها حين تعلمتُ النظرية السياسية والتاريخ السياسي القريب في تركيا على يد أساتذة كبار مثل إيلكاي سونار وبيناز طوبراك وأوستون أرجودر وصونا كيلي.
ومعظم هؤلاء الأساتذة الذين نالوا الدكتوراه من أهم جامعات العالم، والذين كانوا ولا يزالون يحظون بمكانة كبيرة على الساحة الفكرية في بلدنا. وقد كانوا يحدثوننا عن المحاولات الإصلاحية في أواخر الدولة العثمانية، وعهد الاتحاد والترقي، والانتقال من حقبة الحزب الواحد في السنوات الـ25 الأولى من الجمهورية إلى مرحلة التعدد الحزبي، وكل المراحل الحرجة بإيجابياتها وسلبياتها على حد سواء.
وكنا نحن الطلاب الشباب آنذاك منحازين كما كان كل الشباب من أقراننا، حيث كنا ننظر إلى كل شيء إيديولوجياً ونراه إما أبيض أو أسود. فكان المحافظون منّا يعتقدون بأن الاستبداد في عهد السلطان عبد الحميد، والاستبداد في السنوات الأخيرة في عهد رئيس الوزراء الأسبق عدنان مندريس كان مجرد افتراء من قبل اليساريين والكماليين. وربما لم نكن نود مواجهة تلك الأخطاء. في حين كان اليساريون والكماليون من بيننا لا يريدون الاعتراف بمحاكم “الاستقلال” التي أصدرت قرارات إعدام بحق عديد من العلماء وشيوخ الطرق الصوفية، مجزرة”درسيم” التي استهدفت الأكراد، والانتهاكات المرتكبة ضد المسلمين تحت مسمى “قانون تقرير السكون” أو كانوا يعمدون إلى الإتيان بتأويلات وتفسيرات من شأنها تبرير هذه المظالم. أجل كنا نفضّل ربط الحقائق المؤلمة بإيديولوجيات الأساتذة. فإذا ذكروا أخطاء عبد الحميد أو مندريس، كنا نظن بأنهم يفعلون ذلك لأنهم علمانيون وكماليون.
وأنا حين أشاهد اليوم حكومة محافظة تدعي التدين، وهي تنشر في البلاد أجواء الضغط والقمع، وتتهم كل من يخالفها بالإرهاب، وتطلق حملات لتغييب العدالة وإسكات وسائل الإعلام؛ أشعر بأني كنتُ مجحفاً لحقّ أساتذتي.
تاريخنا ليس خطاً مستوياً، فالتيار المحافظ الذي يعتبر نفسه مظلوماً على الدوام له أخطاء عديدة على صعيد الديمقراطية أيضاً. وأنا أرى بأننا لم نفكر بشكل كاف في هذه الأخطاء بسبب بعض الأحداث المؤلمة التي تعرض لها حكام محافظون مثل إعدام مندريس. لكن لو تمكّنّا من النظر إلى التاريخ بدم بارد لرأينا أن أبرز المحافظين كمحمد عاكف أرصوي وسعيد نورسي قد عارضوا الاستبداد في عهد عبد الحميد الذي انتهج سياسة إسلامية، ودافعوا عن المشروطية من أجل الحرية؛ ولفكَّرنا في التشابه العجيب بين هذا المشهد الذي مضت عليه مئة سنة، وبين دفاع الأستاذ فتح الله كولن عن الديمقراطية إزاء قمع حكومة أردوغان التي تنتهج الإسلام السياسي أيضاً.
أجل فالأخطاء التي يرتكبها المحافظون المتظاهرون بالتدين تحت قناع الديمقراطية لا تُعد ولا تُحصى للأسف. كما أن الكثير من عمليات القمع والظلم إلى جانب إسكات الإعلام مؤشر واضح على ذلك.
تضررت تركيا والديمقراطية لا قنوات سامان يولو
لاتزال الحكومة التي بدأت مشوارها واعدة بتحويل بلدنا للديمقراطية وفق معايير الاتحاد الأوروبي مستمرةً في سياساتها السلبية التي تحول تركيا إلى بلد منغلق مثل كثير من بلدان الشرق الأوسط. فخلال الأسبوع الماضي جاء المئات من رجال الشرطة إلى مبنى جريدتنا (جريدة زمان) في إسطنبول وكانوا مدعومين بعربات مصفحة ومروحيات كي يأخذوا 3 نسخ من جريدة “أوزجور بوجون” بعد مصادرة “بوجون” مع المؤسسات الإعلامية الأخرى التابعة لمجموعة كوزا- إيبك. ولكن قوات الشرطة التي جاءت فقط لتحصل على نسخ من هذه الجريدة لتحديد جريمة طباعتها في مطابعنا (!) فتشت حتى غرف التحرير. فأي نوع من انتهاك القانون هذا؟!وياله من حقد دفينٍ لا يمكن فهمه! مع أن مكان طبع جريدة أوزجور بوجون مكتوب فيها وبحوزتنا جميع الوثائق الرسمية المطلوبة لطباعتها، وكل يوم يُسلم عدد معين من نسخها إلى النيابة العامة. ولكن الغاية هي التهديد، وهكذا يتم تعطيل القانون.
وقد تم حجب 13 قناة تلفزيونية وإذاعية تابعة لمجموعة سامان يولو الإعلامية (وهي إحدى وسائل الإعلام الحرة التي تسمح للجميع بالتعبير عن آرائهم المختلفة) من القمر الصناعي توركسات بطريقة غير قانونية في أثناء اجتماع زعماء دول العشرين. وبذلك أصبح المئات من زملائنا عاطلين عن العمل. وبات الرأي المعارض في بلدنا نادراً بل يكاد ينعدم. فهل سترتاحون عندما يسكت أصحاب الرأي الآخر تماماً ويصبح الجميع من حزب العدالة والتنمية؟! فهل تحلمون بجعل تركيا مثل كوريا الشمالية أو مثل العراق في عهد صدام حسين؟ وقد قلنا وما زلنا نقول إن البلد هو الذي يتضرّر من هذه الممارسات. فثمة أحداث فظيعة يشهدها البلد بحيث جعلت بولنت أرينتش أحد مؤسسي العدالة والتنمية يقول: “إن هذه الإجراءات لا يمكن أن تحدث إلا في الأنظمة الديكتاتورية”.
اللعنة على كل أنواع الإرهاب
الإرهاب لا دين ولا لغة ولا قومية له. فهو يستحق اللعن في جميع الأحوال أياً كان مصدره وأيا كانت غايته. فالحادثة التي شهدتها فرنسا مساء الجمعة الماضي أظهرت لنا سفالة الإرهاب. حيث فقد 132 شخصاً أرواحهم في تلك التفجيرات التي تبناها تنظيم داعش. وإن ادعاء مرتكبي هذه التفجيرات بأنهم مسلمون، وأنهم يقتلون الناس باسم الإسلام، هو بحد ذاته جريمة مخيفة تستهدف الإسلام الذي نفتخر بالانتساب إليه. فالله يعتبر قتل نفس بريئة بمثابة قتل الناس جميعاً، لذا لا يمكن تسويغ قتل الناس دون تمييز بين النساء والأطفال والمدنيين بأية ذريعة. علما بأن مثل هذه العمليات الإرهابية لا تصلح إلا لزيادة الاضطرابات التي يعيشها المسلمون في أنحاء العالم وبخاصة خارج العالم الإسلامي. ونحن بدورنا كصحيفة لعنّا بسبع لغات في الصفحة الرئيسية من جريدتنا تفجيرات باريس التي تزيد من أبعاد الإسلاموفوبيا الموجودة أصلاً، وتُعتبر ضربة قاسية جديدة لمحاولات تأسيس جسور الحوار بين الثقافات. ويجب على المسلمين أن يرفعوا صوتهم إزاء المجازر التي تُرتكب باسم الإسلام