بقلم: إدريس الكنبوري (*)
مسار الحزب الحاكم في تركيا يعطي درسا حول علاقة صناديق الاقتراع بالديمقراطية والتعددية، فالواضح أن الصناديق لا تكون بالضرورة طريقا إلى القبول بالتعددية والاعتراف بالآخر.
لعله لم يكن مفاجئا أن يعلن الرئيس التركي رجـب طيب أردوغـان، عشية فوز حزبه بغالبية كبيرة في الانتخابات التشريعية التي نظمت الأسبوع الماضي، عن رغبته في وضع دستور جديد للبلاد، يقوّي من صلاحيـاته ويمنحه نفوذا أكبر على الدولة والمؤسسـات، ويضيف إلى ذلك، يومـين فقـط على فـوزه، حملة سياسية واسعة ضد خصومه البارزين، ممثلين في “حركة الخدمة” التي يتزعمها من منفاه الأميركي فتح الله غولن، الذي يتبع له الملايين من الأتراك، ويعتبرونه أباهم الروحي.
فخلال السنوات الماضية، ظل أردوغان، وفريقه، يسعى إلى إيجاد التربة المناسبة لزرع مشروعه في القبض على الدولة ولجم أي معارضة سياسية لحكمه، موظفا في ذلك عددا من الأوراق التي لعبها وفقا للمرحلة وبحسب الحاجة.
ففي الاستحقاقـات الماضية وظف ورقتين أساسيتين، الورقة الأولى هي الورقة الكردية، حيث اتهم حزب العمال الكردستاني بالرغبة في إدخال البلاد في حرب أهلية، والورقة الثانية هي ورقة حركة الخدمة، التي اتهمها بمحاولة خلق كيان مواز للـدولة.
وفي انتخابات الأسبـوع الماضي انتقل إلى استخدام ورقـة الأمن الداخلي وإرهاب تنظيم داعش، من أجل خلق مناخ من التعبئة وسط الرأي العام لفائدة حزبه، كما استخدم في ذات الوقت الورقة الكردية، بعد التفجيرات التي أودت بعشرات الأشخاص في الشهر الماضي، جامعا بذلك بين فزاعة التطرف الديني وفزاعة التطرف القومي، وبذلك تمكن من رد الصاع إلى خصومه بعد النتائج السلبية التي حصل عليها حزب العدالة والتنمية في انتخابات يونيو الماضي، لم يتمكن فيها من الحصول على الأغلبية المطلقة التي كان يطمح إليها، من أجل تكوين حكومة منسجمة من حزبه.
الواضح أن أردوغان لم يستوعب التقدم الذي أحرزه حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، الذي حل في المرتبة الثانية في انتخابات يونيو الماضي، محققا بذلك فوزا غير مسبوق، وهو ما دفع به إلى وضع خطة استراتيجية للحد من نفوذ هذا الحزب الذي دلت المؤشرات على تناميه وسط الأتراك من الإسلاميين الأكراد، ممن يئسوا من سياسات حزب أردوغان.
ولتحقيق هذا الغرض وظف الرئيس التركي ـ طوال المدة السابقة منذ انتخابات يونيو ـ ورقة الأمن الداخلي والرُهاب الانفصالي، مستهدفا حزب الشعوب الديمقراطي الذي تعتبره الآلة الإعلامية التـابعة للحزب رديفا أو ذراعا سياسية لحزب العمال ذي النزعة الانفصالية، ولم تكد تمر تلك الانتخابات حتى شرع النظام في إطلاق حملة واسعة ضد حزب العمال الكردستاني، حيث قام الجيش التركي بقصف عدد من المدن الكردية، وتم اعتقال العشرات من الأفراد المنتمين إلى حزب الشعوب الديمقراطي، وقد ساهمت هذه الحملات ـ المصحوبة بسياسة إعلامية مكثفة للتـأثير على الرأي العام ـ في ابتعاد الكثيرين ممن صوتوا لحزب الشعوب عن هذا الأخير، ومنح أصواتهم لحزب العدالة والتنمية، خشية عودة الاحتقان مجددا، وكنوع من الثقة في الخطاب الذي روجه الحزب بشـأن كـونـه خشـبة الخلاص الوحيدة أمام التهديدات التي تأتي من كل جانب.
أما من حيث التهديد المتمثل في تنظيم داعش، فقد لعب النظام التركي هذه الورقة بشكل جيد، في الفترة ما بين الاستحقاقين الانتخابيين. ومن المثير أن العلاقة بين التنظيم والنظام ظلت مستقرة طوال السنوات الماضية، منذ أن ظهر داعش على السطح وأعلن ما يسمى بالدولة الإسلامية قريبا من خاصرة تركيا، وشكل التراب التركي جسرا آمنا لمقاتلي التنظيم الذين كانوا ينتقلون بالآلاف أمام أعين السلطات التركية، كما كان التنظيم يفتح مكاتب له دون أي إزعاج من حكومة أردوغان، بيدَ أن هذه العلاقة المستقرة سرعان ما تحولت إلى خصومة عاصفة بين الطرفين في الفترة اللاحقة على انتخابات يونيو، بعد أن نفذ مقاتلو التنظيم تفجيرات دموية في تركيا، دفعت هذه الأخيرة إلى قطع شعرة المعاوية التي كانت تربطها به.
وربط أردوغان، بطريقة تكاد تكون بارعة، ما بين التهديد الذي يمثله تنظيم داعش في الجوار، والآخر الذي تمثله حركة الخدمة في الداخل، فقد عمل على “شيطنة” الحركة وتقديمها بوصفها التهديد الحقيقي للدولة التركية، وهو ما يفهم من السرعة القصوى التي انتقل بها إلى مهاجمة أتباعها والمؤسسات التي تقع تحت نفوذهم، بعد أن أصبحت النتائج الإيجابية للانتخابات تحت إبطه، حيث جرى التحفظ على اثنتين وعشرين شركة، منها صحيفتان ومحطتا تلفزيون مرتبطة بالحركة.
وبعد الحملة التي شنت في الفترات الماضية على المدارس التابعة للحركة، يظهر أن حزب أردوغان يريد شن حملة ثانية على الصحف والقنوات والجامعات التابعة لها، سعيا وراء قص أظافرها ومن ثم ضمان إعلان نفسه الحاكم الأوحد، إذ هناك مؤشرات حول نية الدولة في مصادرة قناة “سمانيولو” وصحيفة “زمان” ومجلة “حراء”، وفرض الوصاية الحكومية على جـامعة الفاتح، إحـدى أكبر الجامعات التركية.
هذا المسار الذي اتخذه الحزب الحاكم في تركيا يعطي درسا بليغا حول علاقة صناديق الاقتراع بالديمقراطية والتعددية، فالواضح أن هذه الصناديق لا تكون بالضرورة طريقا إلى القبول بالتعددية والاعتراف بالآخر والتوافق على الديمقراطية، بل تكون في أحيان كثيرة أداة لتبرير التسلط وشرعنة الاستبداد، والاستقواء بالناخب لضرب الخصوم.
لقد اعتدنا في خطابنا السياسي وتحليلاتنا الفكرية على الربط ما بين كتاب “الأمير” لنيكولاي ميكيافيلي، وبين الاستبداد السياسي، وهو خطأ كبير لا يستقيم مع التحولات الكبرى في النسق المنتـج للاستبداد، وتقنية توظيف الانتخابات ومشروعيتها في إعادة إنتاجه. ذلك أن الإيطالي ميكيافيلي وضع كتابه للزعيم الفرد الذي لا يدين بسلطته لأي أحد، وفقا للمناخ السياسي الذي كان سائدا في عصره، إبان القرن الخامس عشر، عندما كان الحاكم الفرد لا يلقي بالا لغير الدسائس التي تجري داخل البلاط؛ بيد أن ما يساعدنا أكثر على فهم مثل هذه الميولات السلطوية المعاصرة هو الفرنسي غوستاف لوبون، في كتابه “سيكولوجيا الجماهير”، إذ خلافا لميكيافيلي، الذي عاش في عصر الانتقال من سلطة الحاكم الـديني الفـرد إلى سلطة الحاكم المدني الفـرد، يمثـل لوبون مثال الرجل الذي عـاش تجربة الانتقـال من الحاكـم المدني الفـرد إلى عصـر الجماهير بعد الثورة الفرنسية، التي ولد معها لأول مرة في العصر الحديث مفهوم الجماهير، ومعه تقنيات التهييج والإثارة من أجل توجيهها سياسيا. لذا أعتقد أنه بينما لا يزال الناس عاكفين على كتاب ميكيافيلي، فهم حزب العدالة والتنمية أن كتاب لوبون هو الأكثر نفعا، في عصر أصبح فيه الحاكم يدين بسلطته إلى الناخبين لا إلى دسائس البلاط.
(*) كاتب مغربي في صحيفة العرب