بقلم: أكرم دومانلي
خرج حزب العدالة والتنمية بنجاح من الانتخابات البرلمانية المبكرة التي أجريت في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري بعدما حصل على الأغلبية المطلقة بالبرلمان وإمكانية تشكيل الحكومة منفردًا. والأجواء التي تعزز هذا الانتصار واضحة للعيان.
لاشكّ في أن الناس تأثروا من الأحداث الإرهابية التي شهدتها تركيا خلال الأشهر القليلة الماضية، بعدما ظنوا أنهم آلوا إلى وضعية سيواجهون فيها كوارث ومصائب شبيهة بتلك الفوضى والاضطرابات التي تعصف بسوريا حاليًا، لدرجة أنهم اقتنعوا بأنه لو تشكّلت حكومة ائتلافية لن يكون بمقدورها تسوية الأزمة الاقتصادية.
وثمة أسباب كثيرة لا تُعد ولا تُحصى في هذا الصدد. غير أن الظروف التي تشكّلت لدى الرأي العام جعلت حكومة الحزب الواحد هي الخيار الوحيد أمامه. ورأينا كيف أن بعض الأشخاص الذين اندفعوا وراء نشوة الانتصار في هذا الصدد أثاروا ضجيجًا وصخبًا وتهييجًا في كل مكان عبر سياسة الترويع والترهيب؛ فصارت هذه الفئة المتحمسة تهدد كل من لا يصوّت لحزب العدالة والتنمية، ويبثون الخوف في نفوس الناس بأنه ستتم مصادرة ممتلكاتهم، وما إلى ذلك من ترويع وتخويف. لكن من المستفيد من تخويف الناس بمثل هذا المنطق بشكل مستمر وما الفائدة التي ستعود عليه يا تُرى؟
الذين يتملقون الحزب الحاكم ويصفقون له يقولون بلسان حالهم: “نحن قُمنا بهذه التهديدات والتخويف والابتزاز. ومع ذلك حصلنا على نسبة أصوات عالية جدًا (49.5 في المئة)”. طبعًا لا يخفى على أحد المعنى الذي يكمن وراء هذا الرأي. إذ يُريدون أن يقولوا: “على الرغم من كل هذا الكم من الأعمال التعسفية والممارسات غير العادلة إلا أن الشعب يدعمنا ويؤيدنا. وهذا يعني إذن أن ما نفعله صحيح”.
حسنًا، هل الحقيقة كذلك؟
كلا؛ ليست هذه هي الحقيقة. فالشعب يرى أن ثمة انسداد في أفق الحياة السياسية. وبمجرد أن فطن إلى التعب الذي أثقل كاهل الحزب الحاكم عاقبه أشد العقاب في انتخابات السابع من يونيو/ حزيران الماضي أي قبل خمسة أشهر.حيث انخفضت نسبة أصوات العدالة والتنمية عند مستوى 40 في المئة. بيد أن الشعب صار يطالب بالحكومة المنفردة مجددًا بعدما شعر بالخوف من أجواء الفوضى التي تشكلت في أعقاب 7 يونيو، الأمر الذي اضطره للعودة مرة أخرى للعدالة والتنمية لأنه لم ير بديلًا في الأحزاب الأخرى أمام هذا الحزب. لكن هذا الموقف لا يعني بالضرورة دعم الشعب لجميع سياسات العدالة والتنمية. والسبب الآخر في توجه الناخب للعدالة والتنمية مرة أخرى هو عدم اتفاق أحزاب المعارضة واتخاذهم إجراءات بنّاءة لاسيّما بعدما انتابت الناخب مخاوف من أن تلك الأحزاب لن تتصالح أو تتوافق في الانتخابات الجديدة.
ويمكن القول بأن حصول العدالة والتنمية على 40 في المئة في الأوقات العادية، و49 في المئة في الظروف الاستثنائيّة، أجبر مسؤولي الحزب على استخدام خطابات أكثر حذرًا أمام المجتمع. على سبيل المثال جاءت تصريحات كل من رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو وعمر تشيليك، في معرض تعليقها على الانتخابات الأخيرة، بأن الحزب سيمنع الاستقطاب وسيتبع سياسة احتضان جميع أطياف الشعب بجميع طوائفه. وهذا النهج المعقول لا يمكن إيضاحه بالمجاملة السياسية فحسب؛ إذ إنهم يرون بصورة مؤكدة أن الشعب أوصلَ بعض اعتراضاته للحزب الحاكم وأخطره بذلك. كما أن عوامل مثل عدم تنظيم لقاءات جماهيرية لانتخابات 1 نوفمبر وعدم اللجوء للهجة استقطابيّة في الميادين، تُظهر أن مسؤولي الحكومة أدركوا جيدًا الرسالة التي أوصلها لهم الشعب قبل خمسة أشهر (انتخابات 7 يونيو).
بيد أن نجاح حزب العدالة والتنمية وحصوله على نسبة أصوات غير متوقعة( 49 في المئة) يُشكّل حاليًا أجواءً جديدة في البلاد. كما أن الخبراء الذين قدّموا تعليقات آنية بدلًا عن تقديم قراءات سوسيولوجية ذات أفق واسع وترى هذا الدعم الكبير، يظنون أن الشعب يشعر بالسعادة والفرح من سياسات الحكومة الخاطئة، وأن السبب في الفوز في الانتخابات يكمن في تلك الأخطاء. لكن هذه تعليقات خاطئة تمامًا وستقض مضجع الحزب مستقبلًا.
الشعب يدرك أن الأوضاع في تركيا تسير على نحوٍ متدهور. وأبرز الأدلة على ذلك هو تحذيرات الناخبين قبل خمسة أشهر. انظروا إلى المشهد الراهن الذي آلت إليه تركيا التي كان يُنظر إليها بفخر وحسد قبل سنوات قليلة على أنها “دولة نموذج”، وكانت تُقدم على أنها نقطة التقاء بين الإسلام والديمقراطية. أرى أن آلية العدالة لا يتم استخدامها على نحو صحيح. وثقة المواطن في جهاز القضاء آخذة في الهبوط نحو نقطة الصفر. أما حرية الإعلام فتُنتهك ويتم وضعها تحت الأقدام؛ إذ تتم مصادرة الصحف والقنوات التليفزيوينة، واعتقال الصحفيين والكتّاب، وبعض الأشخاص الذين يدافعون باستماتة عن الحكومة يهددون ويبتزون جميع المجموعات الإعلامية المعارضة، وعالم الأعمال يشعر بقلق بالغ تجاه الممتلكات وسلامة الأرواح، وهيبة تركيا بالخارج تتعرض كل يوم لضربات جديدة.
وخلاصة القول هي إن إحراز النجاح لا يعني بالضرورة أن تكون محقًا. فإذا نأى الحزب الحاكم عن الحق والقوانين سيكون خاسرًا ولو حقق المكاسب؛ وعندها سيخسر خسرانا مبينا في هذه الدنيا وفي الآخرة.
يجب على مسؤولي العدالة والتنمية أن يضعوا أيديهم على ضمائرهم، ويتصوروا أن الأعمال الظالمة التي ارتكبوها اليوم كأنها ارتُكبت في حقهم ويحاولوا أن يحسوا بآلام المظلومين. وعليهم أن يكفلوا السلام الاجتماعي وفق مفهوم العدالة والإنصاف الذي سينكشف لهم بعد هذا التقمص العاطفي. وإلا فهذا الفوز والنصر سينقلب إلى هزيمة، ويدمر هذا التناغم الاجتماعي رويدًا رويدًا.