ممتاز أر تركونه
نحن لا نتابع حربَ حزبٍ سياسى بل حربَ كتلة حاكمة عريضة بيدها مفاتيح القوة للبقاء فى السلطة في تركيا. فكل المسؤولين الكبار، ورجال الأعمال الذين يعملون مع الدولة فى قطاع الإنشاءات والتجارة، وكبار زعماء العالم المالي، ومنظمات المجتمع المدني التى تحصل على أرباح من الدولة، واتحادات العمل التي تعمل مع الحكومة، والإداريين الحكوميين المسيطرين على مصادر كبيرة بقطاع الرأى العام والذين تم تعيينهم بالمحسوبية، والجيش الإعلامى الذى يحصل على مرتباته من الصحف والقنوات الموالية للحكومة.. جميعهم يحاربون فى الصفوف الأولى لمعركة البقاء أو الموت. فإذا ما سقط حزب العدالة والتنمية من السلطة فى الانتخابات البرلمانية فى الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل فسيفقد هؤلاء كل امتيازاتهم، وسيتكبدون خسائر فادحة في حال تشكيلهم حكومة ائتلافية مع أحد الأحزاب السياسية.
ولا بد من أن نؤكّد أن الأمر لا يتعلق بدعاية حزب من الأحزاب السياسية، بل نرى أن هناك كتلة حاكمة عملاقة تمتلك كوادر واسعة صاحبة آليات منفذة مؤثرة ومناصب رسمية توفر لها امتيازات كبيرة، بدءاً من الرئيس رجب طيب أردوغان وانتهاءً بالولاة والمحافظين، ومن رجال الأعمال إلى العاملين لديهم، تبذل كل ما بوسعها في سبيل انفراد العدالة والتنمية بالحكم مرة أخرى في الانتخابات المبكرة أيضاً. ولأنهم يخوضون غمار الحرب بهذا الكمّ الهائل من الكوادر نشاهد لا محالة ظهور مشاكل في الإدارة والتوجيه.
فـ”اليوميات” السرية التي دوّنها كبار مسؤولي العدالة والتنمية والحكومة والتى كشفت عنها ونشرتها مجلة “نقطة” (Nokta) الإخبارية الأسبوعية تلخص المشاكل الإدارية التي تعاني منها هذه الكتلة الحاكمة. لاشكّ في أن طلب الحفاظ على سرية هذه الملاحظات اليومية كافية لإثبات وجودها وحقيقتها. فـهذه “المذكرات” عبارة عن ملاحظات مكتوبة ومصوّرة دوّنها مسؤولو الحزب والحكومة في اجتماع عُقد من أجل “محاسة وتقييم الأداء في انتخابات 7 حزيران”. وأغلب الأسماء الواردة في هذه اليوميات شخصيات معروفة للرأي العام وهناك تناسب واضح بين الأقوال وأصحابها. حتى وإن لم يكن مضمون هذه اليوميات صحيحاً، فإنها تتضمّن تقييمات وأحكاماً “موضوعية” و”منصفة” تتلائم مع مثل هذا النوع من اجتماعات النقد والتقييم الذاتيين.
ومن المعلوم أن “النواة الصلبة” للأحزاب السياسية تُعمل من حين لآخر النقد الذاتي من خلال مثل هذا العصف الذهني، وتناقش الاستراتيجية الأساسية والوسائل (التكتيكات) المستخدمة فى ذلك وتحدّدها. وحزب العدالة والتنمية يمتلك “خلية تفكير” أو بيت خبرة يتكون أعضاؤه من المحترفين المؤهلين. فالتشخيص القائل بأن “الكتلة التي تكرهنا في زيادة مستمرة”، والحكم الصادر بأن “الإدارة ذات الرأسين (تدخل الرئيس في شؤون الحكومة) لا يمكن تحمّلها”، والاقتراح المطالب بـ”تخفيض رئيس الوزراء عدد اللقاءات الجماهيرية” في هذه اليوميات يدلّ على سيطرة العقل النقدي على العدالة والتنمية، تماماً كما يتطلبه مثل هذه الاجتماعات الاستراتيجية.
لكن مهما كانت الرؤية واسعة المدى ومهما كانت التجارب والمعلومات كثيرة، فإن أمامهم عقبة لن يتمكنوا من اجتيازها وهي الكتلة الحاكمة نفسها. لذلك فإن نجاح العدالة والتنمية فى الانتخابات المقبلة سيعكس تقاطع طرق قوى هذه الكتلة الواسعة التي يقود كل منها حملة مغايرة لصاحبها ويسير كل منها فى اتجاهات مختلفة. ولا ريب في أن الجميع سيسارع إلى استغلال موقفه، منصبه، وقوته حتى النهاية لمهاجمة صفوف العدو وإلحاق أكبر ضرر به.
أما الحصيلة أو النتيجة فهي أنه إذا ما استنفرت واستخدمت “القوة” بهذا الإفراط والجموح والجور فإنها، أي القوة، ستفقد أصحابها كل شيء يمتلكونه، فضلاً عن خسارتهم في الانتخابات؛ ذلك لأن الذي سيحدّد الفائز بها ليس “الضربة” التي سينزلونها على رأس المعارضة، بل قرار الشعب هو من سيحدده.
إن القرار الذي اتخذه أعضاء العدالة والتنمية حول إدارة حملة انتخابية على مستوى منخفض قدر الإمكان يبدو الأصوب. إذ إن الناخبين إذا ما توجهوا إلى صناديق الاقتراع للإدلاء برأيهم دون تنفس أجواء انتخابية وكأنهم مخدّرون ستنخفض نسبة الكراهية الموجهة نحو السلطة الحاكمة ولن يتسع نطاقها.
لكن هل يمكن إقناع متطوّعي الكتلة الحاكمة العملاقة بهذه الاستراتيجية؟ ذلك لأن السلطة تشعركم بالقوة وتقودكم في نهاية المطاف إلى السكر بها. لذلك نجدهم إذا ما تعرّضوا لموقف حرج يعمدون إلى استخدامها. فالاعتداءات على مقرات الصحف وضرب الصحفيين من ظواهر حالة السكر هذه. وإذا وصفتم كل من تلقونه بـ”الخائن” و”الحقير” فإن شرعية قوتكم تكون مفتوحة للشبهات.
في الواقع إنهم بممارسة الضغط والقمع على وسائل الإعلام وإيداع الصحفيين الرافضين للصمت السجون، ومنع القنوات التلفزيونية من الوصول للشعب لا يفعلون شيئاً سوى الكشف عن مدى تلوث الحزب ومهاجمته يمنة ويسرة كالثور الهائج سعياً لإخفاء هذا التلوث. مع أنهم يسعون لحصد أصوات الناخبين من خلال تكميم أفواه القنوات التلفزيونية، لكن أين سيجدون مجتمعاً خاضعاً للظلم لدرجة تسليم السلطة لأناس مارسوا كل هذه الشناعات والدناءات؟
فبأية استراتيجية سيستطيع الزعماء الطغاة الحيلولة دون وضع الشعب المسمار الأخير في نعش حزب العدالة والتنمية داخل صناديق الاقتراع؟