ممتاز أر توركونه
أخطأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مرتين متتاليتين في معرض إجابته عن السؤال الذي طرحه الصحفي الفنلندي عليه: “هل أنت ديكتاتور”؟ الأول هو أنه سأل مَن حولَه “مِن أية صحيفة هذا”؟ والثاني هو جوابه التقليدي المعتاد “لو كنتُ ديكتاتورا هل كان بإمكانك أن تسأل هذا السؤال”؟ فكلا الإجابتين تجعلاننا نقول شيئا واحدا، وهو: “الحمد لله أن هذا السؤال لم يوجهه صحفي تركي”.
إن وصف أحد بـ”الديكتاتور” لا يعني إهانة في ذاته. ففي الغرب يُطلق مصطلح “امتحان ديكتا” (الإملاء Dictation) على اختبار المقدرة اللغوية لدى الطلاب حين يكتبون ما يمليه عليهم المعلم. فنظام الديكتا هو النظام الأحادي الجانب: فهو نظام إدارة تأمر فيه الحكومة ويتم تنفيذ كل ما تأمر به دون أن تُحاسَب على أفعالها أبدًا. علما بأن كلمة ديكتاتور من الناحية النظرية تُطلق حتى على الزعيم المنتخب الذي يحظى بدعم الأغلبية إذا كان يستخدم السلطة دون أن يُحاسَب. ولكن نظام الديكتا (النظام الديكتاتوري) حسب القاعدة العامة هو جعل الانتخابات شكلية، وفرض الحكم الفردي الذي يمثل الأقلية فقط. فإن كان الرد على سؤال أحد الصحفيين “هل أنت ديكتاتور” هو “من أية صحيفة هذا”؟ فهذا يعني أنكم تقفون على مسافة معيّنة بين الديمقراطية والديكتاتورية.
فمسودة “تقرير التقدم في المفاوضات مع تركيا” الصادرة عن الاتحاد الأوروبي تخبرنا عن مقدار هذه المسافة بين الديمقراطية والديكتاتورية الموجودة في تركيا بانتقاداتها الثلاثة الأساسية:
1- عدم استقلال جهاز القضاء.
2- عدم ملاحقة عمليات الفساد.
3- لا يوجد ضمان للحقوق الأساسية والحريات العامة ولا سيما حرية التعبير.
ولا يمكن لأحد أن يدعي وجود انتخابات حقيقية وعادلة في بلد -يقوم فيه أعضاء اللجنة الإدارية في شبكات البث الفضائي، والذين عيَّنهم من وُجِّه إليه السؤال: “هل أنت ديكتاتور؟”- بحجب 7 قنوات تلفزيونية معارضة.
فالانتخابات في الأنظمة الديكتاتورية شبيهة بامتحانات الديكتا (التي يملي فيها الأستاذ النصوص على الطلاب) فالديكتاتور يعيد الانتخابات إذا لم تعجبه النتائج. ولن تكون هناك حاجة لإعادة الانتخابات في المرات القادمة، لأن قرار المنتخبين سيكون قد تم تحديده وتعديله مسبقا.
وتتجلى الديكتاتورية عندما تعلو أصوات المعارضة. فإذا كانت الشرعية الديمقراطية سارية المفعول فلماذا تكون هناك حاجة لاستخدام الأدوات الديكتاتورية. وطبعا ليس الهدف هو أن نترك الحاكم الفردي في سدة الحكم بكل صلاحياته وبدون رقابة. ولا يمكن للديكتاتورية أن تديم وجودها إلا بالاستناد إلى مجموعة من مصالح غير قانونية. وبالتالي فهي تخالف العدالة وتنشر المظالم باستمرار.
ولا يمكنكم محاسبة المسؤولين على الأرواح التي أُزهقت في تفجيرات أنقرة يوم السبت الماضي التي راح ضحيتها قرابة مئة شخص إلا بتصفية حساب الديكتاتورية والتخلص منها. وكيف يمكن لشعبة مكافحة الإرهاب أن تهتم بمهمتها الأساسية وهي مكافحة الإرهاب إن كان رجال الشرطة العاملين في تلك الشعبة مشغولين بالتحقيق مع الصحفيين؟
أما حرية التعبير فحدث عنها ولا حرج. فهلا نظرتم إلى ما تعرض له الصحفي أحمد حاكان. وهل يمكن الوثوق بعدالة جهاز القضاء إذا كان القاضي يوقف صحفيا، ويطلق سراح المتهجمين على صحفي آخر هجوما اتفقوا عليه من قبل؟
هناك حادثة أخرى، فقد تعرض مالك قناة “ستار” الموالية للحكومة مراد سانجاق لهجوم مسلح لم يستطع جهاز الأمن حل لغزه، أو بالأحرى لا يريدون أن يحلوه ويكشفوا غطاءه؟ فالديكتاتوريات تزداد قوة في المجتمعات التي يتم فيها التعتيم على مثل هذه الأحداث مع أن الجميع يعرفون الحقائق.
وهنا تكمن المشكلة: إذا كنتم تكتمون شيئا ما وتنتهكون القانون، فهذا يعني أنكم تتسترون على مجموعة من المصالح. وإذا كان هذا هو الواقع وإن رجال الأمن والقضاء الذين يتسترون على ما تريد السلطة الحاكمة التعتيم عليه يحظون بحماية ورعاية السلطة الحاكمة. أما زملاؤهم “المغفلون”(!) الذين يقبضون على الإرهابيين ويمنعون وقوع المذابح فيعاقبون ويستَغنى عن خدماتهم لأنهم يفعلون ما تملي عليهم مهمتهم بدلا عن تنفيذهم ما يملي عليهم أصحاب السلطة. ففي أي الأجواء يستطيع الإرهابي تنفيذ عملياته الإرهابية بشكل أسهل؟ هل في المجتمع الذي يحكمه ديكتاتور مع شبكة المصالح التي تنشر الفساد في كل مكان، أم في مجتمع فيه حرية رأي وإعلام حر ولا تحديد فيه للحصول على المعلومات؟
فهل لدينا إذن ديكتاتور حقا؟ ليس بعد. ولكن المشكلة تكمن في جواب هذا السؤال: هل يرفض أحد السلطة التي لا حدود لها؟ إذن لا يمكن لأحد أن يصبح ديكتاتورا إن لم نسمح له (نحن الشعب) بذلك.