منى سليمان*
منذ أربعة أعوام تقريبًا أعلن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” حركة “الخدمة” وملهمها المفكر الإسلامي “فتح الله جولن” أعداءًا له على خلفية إتهام الحركة بالتحريض على الكشف عن فضائح الفساد بنهاية عام 2013 التي اتهم فيها 3 وزراء بالحكومة التركية وأبنائهم، والحركة بريئة تماما من تلك التهم لأنه ليس لها أى صلة بجهاز الشرطة التركي، ثم توالت الأحداث وتصاعدت حتى منتصف عام 2016 وتحديدًا ليلة 15 يوليو التي أعلنت فيها الحكومة التركية عن إحباط إنقلاب عسكري فاشل واتهمت “الخدمة” والأستاذ “جولن” بالتحريض عليه، وهو إتهام آخر ملفق من “أردوغان” لم يصدقه أى شخص داخل أو خارج تركيا، ثم بدأت الحكومة بأوامر مباشرة من “أردوغان” بشن حملات تصفية وإعتقالات وتنكيل بعناصر “الخدمة” والعاملين في مؤسساتها في شتى أرجاء الدولة التركية، فتم فصل أكثر من 160 ألف موظف حكومي في شتى المجالات من رجال قضاء وشرطة وجيش وأساتذة جامعة ومدرسين وأطباء ومحامون وصحفيين، كما تم مصادرة أكثر من 879 شركة تبلغ أصولها 11 مليار دولار تقريبًا، وتم محاكمة 167 جنرال من الجيش التركي، وتستمر إجراء اسقاط الجنسية التركية عن 229 شخص صنفوا بأنهم “هاربين من العدالة” خارج البلاد من بينهم الأستاذ “جولن” نفسه.
والمبرر لشن تلك الحملات المتعمدة والمستمرة حتى اليوم هي القضاء على “الخدمة” ونفوذها داخل المجتمع التركي بإعتبارها حركة تهدد الدولة ومؤسساتها وتسعى للإنقلاب على الحكم! وهنا يتبادر للذهن أكثر من تساؤل .. إذا كانت “الخدمة” تمتلك كل ذلك النفوذ فلماذا لم تقم بأى رد فعل لتحافظ عليه، بل وتستميت في الدفاع عنه حتى لا تخسره؟ لماذا لم يلجأ مؤيدي “الخدمة” وعناصرها العاملين بمؤسساتها الذين خسروا وظائفهم وشردوا وسجنوا وتم التنكيل بهم وبأسرهم وهم بهذا العدد الكبير الذي ظهر في حجم الاعتقالات وبهذه الأهمية والنفوذ المهدد للدولة التركية لتنظيم تظاهرات سلمية تعبر عن موقفهم السياسي والشخصي؟ لماذا لم يلجأ نسبة 1% منهم للعنف أو توجيه أى عمل عدائي ضد مؤسسات الدولة التي سلبت منهم كل شىء مناصبهم ووظائفهم وأموالهم ومنازلهم ثم القت بهم في السجون؟! وهم وفق آخر تقدير يفوق عددهم نحو 2% من عدد سكان الشعب التركي بمعني أنهم لو أرداو تنظيم تظاهرة واحدة ستكون مليونية ومعبرة عن موقفهم المؤيد للدولة التركية بكافة مؤسساتها بيد أنهم في الوقت نفسه يرفضون التنكيل المستمر بهم دون سبب واضح؟ خاصة إذا كانت كافة الإتهامات الموجهة ضد الأستاذ “جولن” وضد الحركة ملفقة وليس لها أى أسانيد قانونية. وقد تأكد ذلك من خلال نتائج كافة التقارير الاستخباراتية الصادرة عن الدول الأوروبية والولايات المتحدة الامريكية التي تثبت بالادلة القاطعة أن الحركة هي منظمة مجتمع مدني تعمل كفاعل دولي من غير الدول في أكثر من 160 دولة بالعالم حيث تنتشر مؤسساتها التعليمية والتربوية والثقافية لخدمة مواطني تلك الدول طواعية.
كما أن العصر الحالي هو زمن “الثورات” و”الشعبوية” حيث أصبح التظاهر أداة للتعبير عن المواقف السياسية وشهدنا ذلك في التظاهرات خلال ثورات الربيع العربي 2011 والثورة المصرية 2013، ثم التظاهرات الإنفصالية في كردستان العراق وكتالونيا بأسبانيا. لماذا هذا القبول والتسليم بكافة أعمال التنكيل بحقهم. وهم قادرون على الرد وفق نفوذهم الذي يروج له “أردوغان”؟ فالحركة التي تتهم بالانقلاب على الحكم بالطبع يكون لها من الأدوات السياسية التي تمكنها من الرد السلمي على ذلك؟! إن الاجابة على تلك التساؤلات تتطلب معرفة جوهر الخدمة وهو “البناء والإعمار” وليس “الهدم والتدمير” ولذا فضلت “الخدمة” تحمل تلك الأزمة “حقنًا للدماء” وفضلت الحركة التضحية بالنفس لضمان سلامة المجتمع علي الدفاع عن نفسها من الإتهامات الباطلة التي يروج لها “أردوغان” ضدها منذ سنوات. حيث إن:
أولا: حركة “الخدمة” ليست مرتبطة بشخص الأستاذ “جولن”، وإدارتها الحكيمة للأزمة الحالية تقدم نموذجًا فريدًا في التعامل بين مؤسسات الدولة الرسمية والغير رسمية الممثلة في منظمات المجتمع المدني، فالحركة لم تلجأ للعنف في أى مرحلة تاريخية لها وهي تمر بالأزمات منذ ظهورها في الستينات من القرن العشرين وتعرضت للعديد من عمليات التصفية والتشويه بيد أنها أستطاعت مواجهتها والخروج منها منتصرة لمبادئها النابعة من المبادىء الإسلامية والإنسانية حيث تتبنى “الخدمة” الدفاع عن حقوق الإنسان والآخر وتوفير الحق في التعليم، وترفع شعارًا واحدًا .. “أعدائنا ثلاثة هم الفقر، الجهل، الفرقة”، ولابد من مواجهتهم للقضاء عليهم وتعمير الأرض بما يليق بالحياة الإنسانية الكريمة. الإيمان بهذه المبادىء هو ما دفع “الخدمة” للإيثار عن النفس ورفض اللجوء لأي رد فعل سلمي أو عنيف لمواجهة حملات التصفية ضدها.
ثانيا: الأستاذ “جولن” ملهم الحركة منذ الستينات من القرن العشرين، هو عالم ومفكر إسلامي وسطى يعمل بالمجال العام منذ خمسين عامًا لا يعرف الغلو والتشدد، كما أنه يتميز بنظرته المتفردة إلى الدولة التي تخالف أبجديات رؤى سائر الحركات الإسلامية في العالم حيث سائر الحركات الإسلامية تبني أيديولوجيتها على عداء الدولة ووجوب تغير نظامها من العلمانية إلى الإسلامية، وهذا لم يسع إليه “جولن” قولا أو فعلا على مدار حياته وعمله، بل أنه تكيف مع الدولة التركية بمؤسساتها ونظامها العلماني. وقد تعرض “جولن” لحملات متلاحقة وتشويه ليس فقط بهدف النيل من شخصه الكريم، وإنما أيضا بهدف النيل من فكرته، التي تعتمد على دعوته في اقتران “القول بالعمل”، وأن يجد ويجتهد أبناء الخدمة في العمل الطوعي في كافة أرجاء المعمورة لتنفيذ الأمر الألهي بتعمير الأرض. والأستاذ “جولن” بذلك لا يملك ولاية على كافة مؤسسات وعناصر الحركة المنتشرة في 160 دولة بالعالم، بل أنه لا يعرف تلك المؤسسات أو القائمين عليها والعاملين بها، ودوره ينتهي عند الدعوة للتعمير والبناء التي تطرح في صورة مؤلفات وكتب ودروس دينية عدة منتشرة في دور الكتب ومواقع التواصل الإجتماعي بشكل علني مباشر ويمكن التأكد من مضمونها وأنها لا تدعو لأى مواجهة مع الدولة التركية أو أى دولة أخرى بل تدعو للبناء والتعمير فقط. ولذا فإن محاولة “الشخصنة” وإتهام الأستاذ “جولن” بالتحريض على أى عمل عدائي ضد الدولة التركية غير منطقي وغير صحيح.
ثالثا: كشف الأستاذ “جولن” عن وجهة نظره فيما يخص رفض اللجوء للتظاهر للتنديد بالانتهاكات المستمرة ضده وضد “الخدمة”، فقد أكد وجود فئة تعمل داخل الحكومة التركية تعمدت بعد أزمة الإنقلاب الفاشل بتركيا في منتصف يوليو 2016، إنتهاك حقوقهم وإستفزازهم بكافة الطرق الممكنة والتي لا يقبل بها أى مواطن ذو كرامة، وكانت تلك الممارسات تستهدف دفع “المواطنيين” للإنجرار إلى الميادين وتنظيم التظاهرات التي ستشهد بالطبع إحتكاكات بين المواطنين والشرطة التركية مما سيؤدي لحدوث ما لا يحمد عقباه، بغية تشويه صورة “الخدمة” والترويج لعناصرها ومؤيديها على أنهم “إرهابيون مخربون”، وبهذا يتم تشويه النموذج الثقافي والقيم التربوية التي نشأت عليها حركة “الخدمة”، بيد أن وعي وإدراك القائمين علىها وبدافع شخصي منهم أنهم رفضوا ذلك الإنجرار، ولم يُستدرجوا لمثل هذه المواجهات التي تتعارض والمصلحة الوطنية للدولة التركية، وذلك رغم كل الإستفزازات والإجراءات القمعية التي أرتكبت ضدهم. بل الأكثر من ذلك أن العاملين والعاملات بالمؤسسات التربوية للحركة كانوا يبتسمون عند إعتقالهم ومن بينهم النساء الحوامل والأطفال دون سن عامين والطلبة بالمدارس دون سن الـ 18 عام، إيمانا منهم بقدرهم في ضرورة تحمل البلاء والأزمة التي يمرون بها دون تملل، ورفضوا الإقدام على عمل يضر بدولتهم، لأن الحكومة التركية الآنية سترحل بيد أن الدولة والمجتمع التركي الذي دعم “الخدمة” وساهم في أعمالها المختلفة على مدار 40 عاما سيبقي وسيستمر.
رابعا: برزت في الآونة الأخيرة محاولات للمقارنة بين حركة “الخدمة” وتعاملها مع أزمتها الأخيرة والدولة التركية، وبين بعض حركات الإسلام الساسي الأخرى، كجماعة “الأخوان المسلمين” (مصنفة كجماعة إرهابية في مصر والسعودية والامارات والبحرين وعدد كبير من دول العالم)، بيد أن تلك المقارنة لا تجوز شكلا وموضوعا، وتفتقد لاي أسس علمية ومنهجية لعدة أسباب منها:
*جماعة “الإخوان المسلمين” منذ نشأتها في مصر عام 1928 وتعلن صراحة رغبتها في الوصول للسلطة، وسلكت في تحقيق ذلك الهدف كافة الطرق المشروعة وغير المشروعة. ثم تمكنت من تحقيق هدفها بعد ثورات ما أطلق عليه “الربيع العربي” عام 2011 في عدد من الدول العربية (مصر، ليبيا، تونس، اليمن)، فما كان منها إلا النيل من سيادة الدولة الوطنية والتآمر عليها، ثم اللجوء للعنف المباشر بشتى صوره من خلال تنظيم تظاهرات غير سلمية والتورط بأعمال إرهابية والتواصل مع جهات خارجية ضد مصالح الدولة الوطنية، بغية التمسك بالسلطة بعد وجود رفض شعبي لممارساتها السياسية وتم التعبير عن ذلك الرفض من خلال تنظيم تظاهرات مليونية في عدد من المدن المصرية في ثورة 2013. وبالتالي لا يوجد وجه مقارنة بين ما تهدف إليه “الخدمة” وما حققته “الأخوان المسلمين”، فالأولي هي منظمة مجتمع مدني عالمية تعمل في مئات الدول، والثانية هي منظمة سياسية استغلت الدين للوصول للحكم ثم تورطت بإعمال إرهابية فلفذها المجتمع المصري تحديدًا.
*حال تمت المقارنة بين العمل التطوعي الذي تقوم به “الخدمة” الممثل في إنشاء المؤسسات التعليمية والتربوية والثقافية ونقل الدين الإسلامي الوسطي لكافة أرجاء المعمورة، مع ما قدمته جماعة “الاخوان المسلمين” من عمل تطوعي ومدني نجد أن ما حققته “الخدمة” يفوق بمراحل ما حققته الجماعة الثانية التي لم يكن من ضمن هدفها تعمير الأرض أو تبني مشروع ثقافي تعمل على نشره وتضحي في سبيل تحقيقه. ولذا فإن “الخدمة” باقية بما قدمته من إسهام علمي وثقافي وديني حتى إذا تم إغلاق كافة مؤسساتها داخل وخارج تركيا.
ثم بعد ذلك، نجد الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” يستميت في الدفاع عن جماعة إرهابية هي (الأخوان المسلمين) ويعادي منظمة مدنية دولية (الخدمة) روجت للصورة الإيجابية للنموذج التركي خلال 30 عاما ثم عبدت الطريق لحكومة حزب “العدالة والتنمية” منذ توليها الحكم في 2002 لتصبح نموذجًا إسلاميًا ديمقراطيًا قبل أن ينتهي ذلك النموذج وتلك الصورة الإيجابية بفعل الممارسات الديكتاتوية “لأردوغان” منذ عام 2011، بيد أن هذه الأزمة المستمرة منذ أربعة أعوام ونصف لم تنهي “الخدمة” بل ضاعفتها إنتشارًا وصلابة فرغم كافة تلك الحملات الممنهجة لتصفية الحركة إلا أنها مستمرة وتكمل رسالتها الثقافية والعلمية في كافة إرجاء المعمورة.
- باحثة دكتوراه في العلوم السياسية.