بقلم: ممتاز أيدين
دأبت كتب التاريخ ودوائر المعارف (الموسوعات التاريخية) على ذكر السلاطين العثمانيين بأسمائهم الصريحة، مع إلحاق هذه الأسماء بترقيم لاتيني على شكل (I-II)، تبعًا للتسلسل التاريخي، مثل “مراد”IV (مراد الرابع)، و”عبد الحميد “II(عبد الحميد الثاني)، و”سليم “III (سليم الثالث). وعند مطالعة اسم ” السلطان محمد II” قد لا يتذكر القارئ لأول وهلة أيّ سلطان مقصود هنا؟! وربما يخمنه مع بعض التردد. ولكن عندما يُذكر نفس السلطان باسم “السلطان محمد الفاتح”، فإنه يعرفه على الفور، بل وتتداعى إلى الأذهان كثير من المعلومات حوله؛ حيث إن هذا السلطان قد استفاضت شهرته وعُرف بصفة “الفاتح” باعتبارها لقبًا له أكثر من شهرة “محمد الثاني” وهو اسمه، وقد سبق لقبُه اسمَه “في التركية”.
وعلى الرغم من قيام السلاطين السابقين له بفتوحات عديدة، وامتداد رقعة الخلافة العثمانية في أزمانهم وخلال سنوات حكمهم، إلا أن امتياز السلطان “محمد الثاني” عليهم بلقب الفاتح جاء عن جدارة واستحقاق، ويمكن الوقوف على حقيقة ذلك بدقة من خلال جهوده المشكورة في فتح إسطنبول، تلك الجهود التي استمرت حتى عام 1453م.
ورد ذكر إسطنبول بكثير من الإجلال في مصادر التاريخ الإسلامي، وتعددت محاولات فتح هذه المدينة، تلك المحاولات الضاربة في عمق التاريخ. فخلال عهد الأمويين تم محاصرة إسطنبول برًّا وبحرًّا أربع مرات، بيد أنه لم يتم فتحها.
وقد شارك كثير من الصحابة في بعضٍ من هذه الحملات، وفي مقدمتهم الصحابي الجليل “أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه”. وقد جاء هؤلاء الأصحاب الأطهار لينالوا شرف الوصف وعظيم الأجر الذي بشّر به النبي صلى الله عليه وسلم أول جيش يفتح القسطنطينية.. فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم”: أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفورٌ لهم” (رواه البخاري). غير أن هؤلاء الفضلاء نالوا الشهادة ولم يستطيعوا فتحها.
في عهد الخلافة العباسية، انتهت الحملة الوحيدة التي خرجت لفتح إسطنبول أمام السواحل.
ثم تلا ذلك ظهور الأتراك على ساحة التاريخ، ووصول “قوتالميش أوغلو سليمان بك”Kutalmışoğlu Süleyman) bey) من سلاجقة الأناضول، حتى حدود “أوسْكودار”، ثم مرور “جاقا بك” (Çaka Bey) الذي أسَّس إمارة صغيرة في “إزمير” بعد أيام عسيرة في مواجهة البيزنطيين، لكي ينال شرف فتح المدينة، لكنه لم يحالفه التوفيق.
وتمثل إسطنبول في الذاكرة العثمانية، المدينةَ الأصعب فتحًا، والأكثر حصارًا، والأشد منعة، والتي مثلت صعوبة جمة أمام العثمانيين.
وقد حاول السلطان “يلديرم بيازيد” فتح إسطنبول أربع مرات بعد محاولات كلٍّ من “أورخان بك”، و”مراد الأول”، غير أن جيش “تيمورلنك” القادم من الشرق لغزو الأناضول كان حائلاً دون إتمام ذلك الفتح.
أما الحصار الأخير قبل الفتح، فقد حدث في عهد السلطان “مراد الثاني” والد “الفاتح”.
وبعد ما لا يقلّ عن ثلاث عشرة محاولة نجح السلطان “محمد” في فتح إسطنبول، مستفيدًا من كل التجارب السابقة عليه. ولهذا فقد نُعِتَ في كتب التاريخ بلقب “الفاتح” الذي اكتسبه بهذا الفتح الرائع.
وعلى الجانب الآخر، كانت هناك أهمية خاصة لهذا الفتح بالنسبة للعالم الإسلامي آنذاك. فقد توقفت الفتوحات في العالم الإسلامي في تلك العصور، وتحول العالم الإسلامي من حالة تمدد وانتشار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، إلى حالة انكماش وتراجع وانكفاء على النفس وترك الساحة للآخرين، وظهر الضعف في حركة الفتوحات لفترة طويلة.
كما أنه لم يتبق من هيبة الدولة العباسية شيء، ولم تكن آثار غارات المغول التي أضعفت كثيرًا من قوى المسلمين قد مُحيت بعدُ من الأذهان، بالإضافة إلى انشغال المسلمين لفترات طويلة بالتصدي للحملات الصليبية القادمة من الغرب.
إن إحياء السلطان محمد الفاتح لحركة الفتوحات التي توقفت لسنوات عدة، وفتحه لأبواب العالم الغربي أمام المسلمين، قد أحدث سعادة وفرحة عارمة على امتداد العالم الإسلامي لم تحدث منذ موقعة “ملاذ كرد”.
ولذا لم يكن للسلطان محمد مكانة مرموقة في التاريخ التركي فحسب، بل تميز واشتُهر بين القادة العظام الفاتحين في تاريخ الإسلام أيضًا، بالتالي نال مدح الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه من خيار الأمراء حيث قال صلى الله عليه وسلم: “لتُفْتَحنّ القسطنطينية، فلنِعْم الأمير أميرُها، ولَنِعْم الجيشُ ذلك الجيش” (رواه أحمد).
غير أن الأمر لم ينته بالسلطان محمد الفاتح بفتح إسطنبول فقط، بل إنه كان على وشك التحرك من جديد صوب أوروبا استكمالاً لمسيرة الفتوحات. فكان يحب أن تستمر “الفتوحات” و”التوسعات” التي تعبّر عنها كلمة “الفتح” بصدق ووضوح، بهدف نشر قيم الإسلام ومبادئه الإنسانية الراقية.
ووفقًا لما يأمر به الدين الحنيف؛ فقد تصرف السلطان محمد الفاتح بعد دخول المدينة يوم التاسع والعشرين من مايو تصرف النبلاء، فقد أوضح لأهالي إسطنبول وللعالم أجمع أنه لم يأت إلى هنا لأسباب عسكرية فقط، بل إنه جاء لغاية أعظم، وأخذ يهدئ من رَوْع أهل المدينة الذين كانوا في حالة اضطراب وخوف بسبب سير الفاتحين في ذلك الزمان، إلا أنه خاطبهم قائلاً:” أقول للجميع؛ إنه ومن اليوم لم يعد هناك خوف على حياتكم وحريتكم”.
وأعلن أن الشعب بكل أطيافه والكهنة “القساوسة”، يمكنهم العيش وفقًا لأديانهم ومعتقداتهم، ولم يكتفِ بالسماح لبطريكية الروم بممارسة أنشطتها فحسب، بل سمح للطائفة اليهودية بامتلاك المعابد، وترك للأرمن حرية اختيار بطريك على رأس الطائفة الأرمينية.
وظهر بوضوح كالشمس المشرقة، صدق ما قاله الأهالي والقساوسة من أهل المدينة قبل الفتح، وأنهم كانوا محقين في رؤيتهم عندما قالوا: “نفضّل أن نرى العمامة العثمانية في إسطنبول على أن نرى قبعة الكاردينال”.
لم ينجح السلطان محمد الفاتح في فتح إسطنبول فحسب، بل قد نجح في فتح قلوب أهالي هذه المدينة أيضًا، دون أن تكون هناك أي قوة تجبره أو تضغط عليه لفعل هذا، وإنما لامتثاله أخلاق الإسلام وقيمه ومبادئه السامية.
ثم جاءت مرحلة تنمية المدينة وإعمارها؛ فأعاد السلطان محمد الفاتح إعمار المدينة عبر البدء بإصلاح الأماكن التي دُمرت إبان الحصار، وبدأ في دعوة السكان الروم المقيمين في إسطنبول إلى الإسلام عبر تعريفهم به، كما بدأت فعاليات الإسكان بهدف تحويل المدينة ديمغرافيًّا إلى مدينة عثمانية؛ فأحضر ما يقرب من خمسة آلاف شخص أغلبهم من أماكن متعددة بالأناضول، وجزء منهم أيضًا من منطقة “الروم إيلي” حتى سبتمبر 1453م، وتم تسكينهم في إسطنبول.. إذ آمن السلطان محمد الفاتح -كأجداده الأجلاء- أن القيم السامية والمبادئ النبيلة التي تحلى بها دينه الحنيف، لابد أن تغرس بُذورها في تربة هذه المدينة وتصبغ صبغتها على كل جنبات إسطنبول حتى يكون الفتح قد اكتمل وبلغ الغاية والمبتغى.
وهكذا فقد هدف السلطان إلى أن تتعلم المجتمعات المختلفة في العرق والدين، كيف تتعايش معًا جنبًا إلى جنب، وأن يصبح السكان المسلمون نموذجًا يُحتذَى لغيرهم من الشعوب أيضًا.
إن فتح إسطنبول كان بمثابة “التفاحة الحمراء” التي راودت خيال العثمانيين، وهو الأمر الذي يعتبر بداية لفتح الروم، وهو الفتح الذي تحول به العثمانيون لـ”دولة عالمية” تحكم العالم الإسلامي في الشرق، والعالم المسيحي في الغرب.
ومن المعلوم أن “الفاتح” الذي نشأ بهذه المثالية، سعى لحماية هذه العادات والتقاليد عبر حثّ رعاياه من الإيطاليين على تعلّم تاريخ روما، ولعل رأي “Jacopo Langusebi” الذي عاش بإسطنبول بعد فترة وجيزة من فتحها، يطابق رأي السلطان “الفاتح” حيث يقول: “يجب أن تكون هناك إمبراطورية واحدة، وعقيدة واحدة، وحكم واحد على مستوى العالم، وليس ثمة مكان أكثر مناسبة لتأسيس هذا النموذج من إسطنبول”. فهذا -بلا شك- يجب أن يكون واحدًا من دواعي اتخاذ مدينة إسطنبول عاصمة للدولة العثمانية.
وفي صيف 1456م أوكل الفاتح إلى”Amirutzes” مهمة إعداد خريطة العالم، ليتعرف على العالم الذي استعد لغزوه.
ومن أجل فتح الغرب، فقد استمرت حملات الفاتح بالقارة الأوروبية، فأرسل في البداية حملةً إلى بلاد الصرب، تلاها فتح بلاد المورة، والأفلاق، والبوغدان، وسمندر، وميدلي، ورودس، وأثينا، والبوسنة.
ثم تبع ذلك الخروج في حملة إلى إيطاليا والاستيلاء على مدينة “ترنتو”، وتحويلها إلى قاعدة عسكرية. وقد شكّلت الهجمات الصادرة من هذه القاعدة بدايةً تهدف لفتح روما، ثم ما لبث أن تحول العثمانيون -بامتداد حدودهم داخل أوروبا- إلى دولة عالمية. فقد حوّل السلطان “الفاتح” هذه الدولة التي أسّسها “عثمان غازي” قبل مائة وخمسين عامًا كـ”دولة قبَلية”، إلى دولة عالمية. مما دعا بعض المؤرخين البيزنطيين الذين وُجدوا إبان هذه الفترة، أن يلقّبوا الفاتح بـ”إمبراطور الروم” لاستحواذه على الإمبراطورية الكائنة بإسطنبول.
أما في الأناضول فكانت بعض الدويلات والإمارات الصغيرة، تهدد وحدة هذه المنطقة، وفي مقدمتها “الكرمانيين” الذين توجه إليهم “الفاتح” في البداية، وأعقبهم في المرحلة الثانية إمارة “آق قويونْلو” والتي كانت تمثل تهديدًا كبيرًا على وحدة المنطقة، حيث إن العثمانيين كانوا قد تعلموا دروسًا كبيرة من حادثة “تيمور” المماثلة لهذه الأحداث. ومع تخلّص العثمانيين من هذه القلاقل بانتصار معركة “أُطْلُوقْبَلِي” (Otlukbeli) وبإلحاق ممالك “ذو القادر”، و”اسفنديار”، و”جاندار” و”عالية” للدولة العثمانية كانوا بذلك قد أحكموا سيطرتهم على جميع الأناضول.
ومع استمرار تحركات وغزوات الفاتح، فقد تشكل الجانب السياسي والعسكري للدولة العالمية، بالإضافة إلى أن هذا النموذج المثالي العظيم أوجد العديد من الفعاليات المتعلقة بالثقافة والحضارة والعلم؛ حيث كان العثمانيون لا يزالون محكومين بعاداتهم وتقاليدهم ومعاملاتهم التي ورثوها عن “الدولة القبَلية”.
تنظيم محمد الفاتح شؤون الدولة العالمية
تلا ذلك، مرحلة تحديد المبادئ واللوائح الإدارية والقانونية والاقتصادية، ومع صدور القوانين المعروفة باسم “دستور الفاتح”، ظهر كيف ستُدار الدولة، وأي المناصب سيتم استحداثها، كما تم ربط وظائف وصلاحيات مسؤولي وموظفي هذه المناصب بنظام محدد، بالإضافة إلى تحويل القانون إلى قانون مكتوب، مع الأخذ في الاعتبار الأوضاع القائمة آنذاك. وعليه فقد حلت الدساتير المدونة محل العادات والتقاليد والأعراف على نحو يليق بعظمة الدولة ومكانتها.
المسجد والمدرسة كلاهما من عوامل النهضة
وبجانب المسجد الذي يحمل اسمه، فإن تشييد الفاتح للمدرسة الدينية “الصحن الثماني” (Sahn-ı Seman) التي تماثل الجامعة في وقتنا الحالي، يعد إكمالاً للقاعدة التعليمية النموذجية. فمنذ أن تأسست هذه المدرسة التي تُعد بمثابة أكبر جامعة في العالم الإسلامي آنذاك، كان يتم اختيار الأطفال النابهين ثم يرسلون إليها، حيث يتلقون العلوم الطبيعية والدينية جنبًا إلى جنب. ومن ثَم فقد تحولت أيضًا “مدرسة الأندرون” التي شُيدت بهدف إعداد رجال الدولة، إلى مدرسة تستطيع أن تلبّي الاحتياجات من الموظفين المؤهلين لإدارة الدولة المترامية الأطراف، وذلك بعد أن تم إجراء بعض الإصلاحات عليها.
وقد توفي “الفاتح” في سنّ مبكرة عن عمر يناهز تسعة وأربعين عامًا بعد أن حقّق حلم “التفاحة الحمراء” تاركًا إياها لمن خلفه من الأجيال القادمة. فقد فتح وضم على امتداد عهد سلطنته سبع عشرة دولة ومائتي مدينة، غير أن كل هذه الانتصارات والفتوحات والعروش لم تُلْهِه عن أن يكون سلطانًا حقيقيًّا يدرك مسؤوليته التي حملها على عاتقه أمام ربه والإنسانية جمعاء، ويعي مكانته كخادم وحارس للقيم الإسلامية الإنسانية الراقية.
ـــــــــــــــــــــــ
(*) الترجمة عن التركية: سارة رفعت حمدان محمد.
من موقع مجلة حراء