محمد كاميش
بدأت الطائرات الروسية تقصف مواقع كلّ من يصنّف ضمن القوات المعارضة لنظام بشار الأسد في سوريا بعد أيام معدودات من زيارة الرئيس رجب طيب أردوغان لموسكو.
فقد عادت الأزمة السورية إلى نقطة البداية بعد 4 سنوات من اندلاعها، وبعد أن تسببت في مقتل مئات الآلاف من الناس، وتهجير الملايين منهم وتشريدهم. ولا تستطيع تركيا أن تفعل شيئاً سوى الوقوف متفرجة على قصف المعارضين بعد أن شجعتهم على الثورة المسلحة وقدّمت لهم كل أنواع الدعم دون أن تقطع أي شوط نحو تحقيق الأهداف في سوريا.
أولم تزعم تركيا بأنها ستكون دولة عثمانية حديدة في المنطقة في ظلّ حكم “العثمانيين الجدد”؟ أولم تدَّعِ بأن منطقة الشرق الأوسط لا تتحرك فيها حتى ورقة شجرة دون علمها، ولا دولة فيها تحرك ساكناً في غفلة منها؟ أولم تقل بأنها ستأتي بنظام جديد إلى سوريا بعد الإطاحة بالأسد وبعدها ستقتحم غزة لتحريرها، ومن ثم ستمد يد العون لكل دول الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز؟ كل هذا ولم يكن بيدنا سوى تحدّي أردوغان الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز بمقولة “دقيقة واحدة” (One minute) وسياساتنا الاستراتيجية التي تعمل بالنفخ والحماسة الفارغة.
واستيقظنا من هذه الأحلام الطوباوية على أصوات قصف الطائرات الروسية. فكيف سيدفع الذين أدخلوا تركيا في مغامرة تلو الأخرى ثمنَ هذه الهزيمة بعد أن تظاهروا بأنهم يفعلون ما لا يقدرون عليه وتظاهروا بقوة لا يملكونها؟ فنحن اليوم نشاهد أن سياساتنا الرعناء والهوجاء التي لا ضوابط لها قد أصبحت هباءً منثوراً حين ارتطمت بواقع “الحماسة المجردة التي لا تجدي نفعاً”. غدونا نتجرع اليوم آلام هزيمة سياسية كبيرة وورثنا حطاماً سياسياً بكل معنى الكلمة. فقد تلاشى وتحطّم حلم “العثمانيين الجدد”. فقد خدعوا الشعب بأنهم سيحققون طموحات كبيرة في سوريا والمنطقة والعالم برمته لكن بِتنا مهددين حتى في أرض الوطن. إن هذا الموقف السياسي غيرَ المحترمِ لأحد ما عدا نفسه والمفتقدَ للتبصر والاستراتيجية والعقل والفراسة والحنكة قاد تركيا إلى عزلة تامة عن العالم في وقت قصير.
بيد أن تركيا كانت تطمح إلى جلب الديمقراطية والقانون والعدالة والحداثة، لأنظمة الشرق الأوسط غير الإسلامية وغير الأخلاقية وغير المنفتحة على العالم (!)؛ كما كانت تسعى لتغيير نفسها وتريد أن تكون مثالاً يُحتذى به في العالم الإسلامي كله؛ وكانت تسعى إلى أن تصبح ذات شفافية كالدول التي تعتبر المال العام كمال اليتيم وتتصرف في كل قرش منه بهذا الوعي والشعور. ولكنها دخلت في مستنقع الشرق الأوسط، فخرجت منه على شاكلة دول الشرق الأوسط.
أما الدول المتقدمة عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً كأمريكا وبريطانيا فإنها تكون في غاية الحذر والحيطة عندما تتدخل في شؤون دول أخرى، كما تحرص على تجنب استخدام الخطاب الذي يثير القوى والموازين الداخلية. لذلك فإن تصرفات وتصريحات تركيا التي تفوح منها رائحة الهيمنة والسيطرة على سوريا، ومن ثم دعمها اللامحدود للمجموعات الراديكالية المسلحة، جعلت الأسد شخصية لا بد من وجودها بالنسبة للعالم.
ارتكبت تركيا خطأ فادحاً حين أدارت ظهرها للغرب موّليةً وجهها شطر الشرق. وبدلاً من أن تُشبِّهَ الشرق الأوسط بنفسها، تحولت هي إلى دولة شرق أوسطية. فالمسؤولون عطّلوا القانون أولاً، ثم الشفافية، وبدؤوا بعد ذلك بالتصرف على أساس أن الدولة ملك لشخص واحد وعائلته. فقدنا كل ما كنا نمتلكه حين توجهنا نحو الشرق. كما أن تصرفاتنا الجوفاء وكأننا دولة كبيرة دون الاستناد إلى أي شيء سوى خطابات رنانة جوفاء، شوهت سمعتنا في العالم وفي الشرق الأوسط، ومن ثم أهدرت ما حصلنا عليه بشق الأنفس، وكأننا نحفر الأرض بالإبرة، من المفاهيم والقيم السامية كالقانون والعدالة والديمقراطية.
وللأسف ارتطمت تركيا في الداخل والخارج بحائط كبير وأخشى أن تكون الطائرات الروسية قد أظهرت لنا هذه الحقيقة بوضوح تام مرة أخرى.