بقلم: د. محمد جكيب (*)
ما معنى أن يصنع الإنسان حاضرًا سعيدًا، وكيف يشيّده ويبنيه؟ وماذا يلزم تَوفُّره لتتحقق قيمة السعادة ببعديها المعنوي والواقعي؟ وهل تَتخذ السعادةُ في بعدها الجوهري منظارًا يَنظر الإنسانُ من خلاله لحاضره؟ وكيف يعي ثمرةُ شجرة الخلق أشواقَه للسعادة؟ وما الأفق الجلي المُشبِع لأفق انتظاره؟ بعبارة أخرى ما طبيعة الحاضر الجميل السعيد، الذي يتشوق إليه ابن آدم بكل وجدانه وكيانه، والذي يُشعِره بالاطمئنان حتى يمتلك عليه إحساسه كله؟ وهل من فرق بين إحساس الفرد، وإحساس الجماعة، وما تأثير ذلك في الوعي الفردي والوعي الجماعي، أين يتوقف الشعور بالأنا، ليبدأ الشعور الجمعي؟
في حياة الإنسان لحظات للتاريخ ناعمة دقيقة، لحظات حاسمة فاصلة تحتاج إلى اليقظة التامة للعقل والجوارح، لحظات ينبغي التقاطها والتمسك بها حتى لا تذهب أدراج الرياح سدى فتضيع ولا تُحَوَّل إلى فرصة تاريخية مغيّرة لمسار الإنسان والإنسانية تجاه الفائدة الجمة؛ وما أجمل لو صارت اللحظات فترةً تاريخية إيجابية محقِّقة للسعادة…
لحظات التاريخ الحاسمة قليلة، بل إن بعضها يصير منعَطفًا حاسمًا في حياة أمة من الأمم وشعب من الشعوب. فإذا لم تكن هذه الأمة أو تلك على أهبة الاستعداد الروحي والذهني، وفي أعلى مستويات استشعار حقيقتها الوجودية، منتبهة إلى أبعاد هذا المنعطف أو ذاك، فالأكيد هو خسرانها اللحظة التاريخية وهي قليلة.
الحياة امتحان دائم في دائرة السنن الكونية، والغفلة تُذهب اللحظة التاريخية سدى. ووعي هذه الحقيقة يحتِّم اليقينَ بضرورة الانتباه واليقظة المستمرة المتجددة، لأن تاريخ الأمم والحضارات من حيث السقوط والصعود ترجمة لمدى استشعار ذلك وتمثّله. فبزوغ شمس الأمم وأفولها هو ترجمان اليقظة أو الغفلة تجاه التاريخ. ولذلك فإن استمرار اليقظة والانتباه ضرورة. وما تراجُعُ الحضارات وانحطاطها ثم سقوطها سوى دليل على تعطيل هذه السنة الكونية، وعدم توظيف المحركات التاريخية في مناسباتها.
عرف تاريخ الإنسانية الكثير من لحظات القوة، التي وظف فيها الإنسان كل طاقته وقوته. وطاقة الإنسان لا حد لها، لكن إذا جرى توظيفها في غير مواطنها صارت طاقة مهدورة، وتحولت وبالاً يأتي على جوهر السعادة وينخر كيان الإنسان وينحرف به عن مقام كونه ثمرة شجرة الخلق. فعلى سبيل التمثيل لقد بنى الفراعنة “الأهرامات”، وصُرف في بنائها جهد عظيم قد يتجاوز حدود إدراك عقل متزن، وجاءت وفق نمط عجيب، لكن في الوقت نفسه لقد أُزهِق من أجلها أرواحٌ كثيرة، ولا شك أن تشييدها موسوم بالموت والدم والحزن والألم. فهل يرقى كل ذلك إلى الغاية من إنشائها؟ هل حققت جوهر السعادة؟ ألم يبن الفراعنة أهراماتهم لتكون مجرد قبور، ومجرد مكان لتقديس حياة الموت، وهي التي قامت في الأصل على أساس موت الحياة،
بسبب ما أزهق من أجل تشييدها من أرواح؟
عند التنعم في هذا التشييد لا نعدم له فائدة مادية، إلا أن فائدته بالنسبة لكيان الإنسان وروحه محدودة رغم كل شيء. بعبارة أخرى إن الطاقة الإنسانية طاقة لا حدود لها، لكن السنة الكونية تريد صرف هذه الطاقة الهائلة في الاتجاه الذي يعمر الأرض، ويسخر الكون بكل مكوناته في الاتجاه الموجب، المشعر لنبض قلب الإنسان بأنه في انسجام وتناغم مع كل جزئيات الكون.
وقد ينظر للأهرام على أنها تجسيد لغياب القيم والأخلاق عن دائرة الفلسفات والرؤى الحضارية التي فكرت وأنجزت هذه الأهرامات؛ فهل تحققت للإنسان أحلامُه حول السعادة، يستوي في ذلك من عانوا وهم يشيّدون بحكم الحزن والألم الذي ذاقوه، ومن دُفِنوا في أعماقها، لأنها لم تنقلهم وأموالَهم إلى عالم البهجة الذي تشوقوا إليه، وتوهموا الأهرامات بوابة إليه.
تحري الإحسان في السلوك الحضاري ضرورة، والرقي إلى هذا المقام يكتمل إذا تزين بالقيم والأخلاق، وبكل العناصر الضرورية التي تجعله وسيلة تدل على مُوجِد الوجود ومدبره والآمر بتحري العبودية في كل سلوك، إذ القاعدة الموجِّهة لهذه الرؤية هي ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ﴾ ورؤية الله للسلوك المرتبط بالتمكين والتأييد، محصور في العمل المشروع الذي يتعارض بالمطلق والمنطق القاروني -نسبة إلى قارون-الذي ادعى العلم المطلق والمقدرة على الفعل والعمل، لكن النتيجة هي انخساف الأرض به وبما كسب إلى يوم يبعثون.
حجاب العادة والرتابة مانع يمنع الإنسان إدراك حقيقة العمل والسلوك وغايته، بل إن حجاب العادة يعمي قلب الإنسان عن الإحساس بذرات الوجود، فيتحول نبضه إلى مجرد حركة رتيبة لا تصدر حياة، وإلى مجرد حوادث خاوية لا روح فيها، ولذلك فإن كل فعل وعمل يتطلع إلى أخذ مقامه في نظام الانسجام السنني محكوم بربط كل شيء بنظام الكون وخريطته، في أفق التطلع إلى تحقيق التوازن.
قد يوهم قصور النظر -وهو ما رسخ في ظن بعض من ينتسبون إلى هذا الدين- أن الخشوع حال خاص بالصلاة، بمعنى أن الإنسان لا يكون في خشوع إلا عندما يكون في الصلاة. قد يكون هذا صحيحًا بالمعنى الاسمي للخشوع، لكن المعنى الحرفي يفتح أمام الإنسان آفاقًا واسعة للعيش في أفق الخشوع المستمر، من زاوية استحضار الله تبارك وتعالى في كل لحظة وحين وفي كل سكنة من سكنات القلب والجوارح. الصلاة عبادة يومية يأتيها المسلم خمس مرات في اليوم. إنها محور حياة المسلم في يومه، وهي تحتاج حتى تؤدي وظيفتها أن تكون الكمية والكيفية تامة كما يقول الأستاذ فتح الله كولن. لكن ألا ينبغي أن تكون كل تصرفات الإنسان المسلم المؤمن صلاة مستمرة، بل أن تكون حياته محرابًا يربط العبدُ فيه صلتَه بالخالق بصورة دائمة؟ ألا يعني ذلك أن الخشوع الدائم هو شعار حياة من يعلن انتماءه إلى هذه الدائرة المباركة؟
إن بناء الحضارة وتغيير الواقع والانبعاث من جديد ينبغي أن يكون ببعد عرفاني، أو على الأقل هذا هو الطريق الذي ينبغي السير فيه وتجريبه في الوقت الراهن بعد أن جَرّب الناس العديد من المناهج الغريبة عن الذات، والتي أكدت بعد مرور زمن أنها عاجزة عن تحقيق شيء، ولذلك فإن استحضار الأبعاد العرفانية في هذا المجال أمر حتمي. بغير ذلك لن تراوح الذات مكانها، وستظل تدور في دائرة مفرغة. فمقدمات التحول والتغيير تبدأ عندما يشعر كل فرد من أفراد المجتمع بمفهوم العبودية المطلق، والطريق إلى ذلك هو انتشار روح الوعي بضرورة التحول وأهميته.
ما سر ما تَشرَّبه الصحابة الكرام رضي الله عنهم جميعًا في محضن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي مدرسته، فتحولوا إلى حمائم تشع رقة تُطَمئِن النفوسَ والقلوب، وفي الوقت نفسه إلى صقور في ساحة بناء المجتمع الجديد وإعداده؟ يكمن السر فيما لقّنه إياهم وأرشدهم إليه معلمهم ومربيهم، وهو عمق العبودية المطلقة لله تبارك وتعالى. لقد أرشدهم بتوفيق الله ورعايته إلى سبل هذه العبودية ومسالكها بروح تقوم على العرفان والإحسان. وهي الروح التي سرت في مجتمع بكامله مسرى الدم من الجسد، والتي ظلت الأجيال اللاحقة تتغذى منها، وتستظل بظلها كلما اشتد لهيب الواقع وحَمِيَ وطيسُه، والتي ما تزال تنتقل من السلف إلى الخلف، والتي بنت حضارة من أهم الحضارات التي عرفتها الإنسانية.. حضارة تقوم على القيم والأخلاق وعلى العبودية المطلقة وعلى اعتبار السعي سبيلاً يدل على الله.. حضارة نجحت في تسخير الأسباب والواقع، لكنها لم تكن حضارة مؤسَّسَة على حب الدنيا وعلى اعتبارها غاية، بل حضارة تتطلع إلى الماوراء، ولا تتفاعل مع العالم المادي باعتباره غاية، بل في حدود دلالته على الخالق، وفي حدود كونه محرابًا تؤدي فيه الأرواحُ الصالحة صلاتها الدائمة المستمرة، المدّثرة بالخشوع.
الأرواح التي تصنع التغيير الحقيقي أرواح لا تَشبَع، لأنها تديم الحضور في محراب الصلاة المستمرة، وتنغمس في خشوع لا حد له، شعارها “هل من مزيد” من الفعل الإيجابي المفيد للإنسان في كل زمان ومكان.
همّ التغيير هم مضن، والشحنات الطاقية، التي تقي الذات من الفشل والانزلاق إلى دوائر التيه والرتابة كامنة فيما يجده المؤمن في حركيته من لذة وشوق، وفيما يجده من متعة في شدة الإصرار على الوصول، لأن الفعل البناء نصير العبد الملحاح، والإصرار يقود حتمًا إلى النجاح وتحقق الآمال، والله يحب العبد الملحاح، والمواهب الآتية إلى عالم الإنسان مرهونة بمدى الرغبة والحاجة وبمدى الشوق والاشتياق.
الرغبة في التغيير والانتقال من حال إلى حال، وتغيير المقامات يجب أن يحركه الشوق إلى إدراك الآيات، والاشتياق لإدراك الجمال في كل شيء. ورغبة الوصول إلى هذا المقام مرهون بالإتقان، لأن الإتقان مظهر من مظاهر هذا الكون. فأينما وجه الإنسان طرفه وأينما التفت وجد التوازن والإتقان، ووجد الجمال. ومِن حرصِ الإنسان على محاكاة هذا التوازن والإتقان والحرص على الإحسان يأتي الإتقان ويأتي الجمال. بعبارة أخرى على الإنسان الحركي الفعال تحرّي الجمال في كل فعل وتصرف.
الاشتياق إلى الجمال هو التعلق القلبي بصفة الجميل الذي يستمد منه كل جميل في هذا الوجود حظه الذي منحه الله له حسب وظيفته ودوره في الدلالة عليه، لأن الجمال المنتشر في هذا الوجود الفسيح انعكاس لاسم الجميل وظِلّ لِتجلّيه على الكون وما فيه من كائنات. والإعمار والحضارة مظاهر من مظاهر خلقه. فكما خلق الله الإنسان خلق كل أفعاله وتصرفاته، فإذا تحرى الإنسانُ الجمال والإتقان في الإعمار والحضارة بتوظيف الجهاز المودَع في عالمه المعنوي الموصولِ بصفة الجمال المطلق، أوصله ذلك إلى حضارة الجمال على الأرض. في ضوء ذلك فإن التغيير والبناء الحضاري والإعمار، إذ يتدثر برداء الخشوع في حاجة إلى لمسات الجمال حتى تُضفِي على الفعل والسلوك رونقًا يجلب إليه الأنظار وتتعرف عليه الأرواح الصافية فتحتضنه وتتبناه؛ لأن الذين أقبلوا عليه منذ الوهلة الأولى لمسوا فيه هذا البعد، فانقلب كيانهم رأسًا على عقب، وحوّلهم في مدة وجيزة إلى طاقة تنشر روح الدين ببعد جمالي لا مثيل له، بعد أن صار لهم مسلكًا يفوح منه أريج الجمال وعبق الإبداع.
في ضوء هذه الرؤية يتوجب تربية أجيال فائقة الإحساس بهذه الأبعاد، أجيال تفوح منها نسمات الإبداع والجمال حتى يصيروا مسكًا خالصًا صافيًا فواحًا يغادرون المكان، لكن أريج مسكهم المعتق يبقى إلى درجة أن يصير طابعًا من طبائع الأماكن التي مروا فيها، والأزمان التي عاشوا فيها.
إن استحضار مفهوم العبودية الحقة ضرورة وسبيل من سبل إدراك الإنسان لأبعاد الارتقاء في مقاماتها، وهي تعني كذلك أن يكون كيان الإنسان وسلوكه وتصرفه وقوله عبادة دائمة، واستحضارًا لها دون انقطاع. يردد بعض المتصوفة أن الله ينبغي أن يكون هو المقصود وهو الغاية، أي أن يُعبَد اللهُ لا رغبة في الجنة ولا رغبة في الخلاص من النار، فالمجتمع المستجيب لشروط التغيير هو المجتمع الذي سرت هذه الروح بين أفراده حتى تصير هي الطاقة المديرة لمحرك المجتمع. وعندما تصير كل حركة من حركات المجتمع وحركة أفراده، وتصير هي قيمه العامة وهي نبض الوعي والشعور والنفس، حينها فقط تنهمر المنح الإلهية وتتفق في صور مختلفة.
فرض الله خمس صلوات في اليوم، وهي خمس محطات في اليوم لاستمداد الطاقة اللازمة لربط الصلة بالله. وحضورها بهذا العدد وبهذا الكيف يؤكد بأنها مركز حياة الإنسان المؤمن، بمعنى أن حقيقة الإنسان هي أن يكون دائم الصلة بمدبر شؤون الكون. قد يصاب المؤمن ببعض الملل والفتور، لكن تجديد النشاط سنة كونية، والصلاة في بعدها الواسع مظهر من مظاهر مغالبة الفتور وتجاوز الملل، ولذلك فنداء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم “أرحنا بها يا بلال” هو المفتاح السحري لتحقيق نشوة الانبعاث من جديد. ولا شك أن الراحة المقصودة هي الارتياح الروحي الذي يتيح للإنسان رؤية الأشياء والأحداث في دائرة سياقها الوجودي السنني من جهة كونها تزيد في نِسَب معرفته حق المعرفة، وأما تطويرها فهو تسخير الأشياء في صورة تعين ذوي الإدراك المنخفض على استشعار أبعاد العبودية. إن استعدادات الأفراد الاستشعارية واستعداداتهم الروحية متفاوتة، لكن تراكم الاستعدادات يوجد الكم الكافي ليتحرك المجتمع بأقدام واثقة نحو تحقيق العبودية.
النهوض والسقوط تفسير سليم لهذه الحقيقة التي تدل عليها السنن الكونية وتدل عليها لحظات تاريخ الاتصال القوي بالله. ولذلك فإن كل المراحل التاريخية تحتاج إلى دهاة يستطيعون بناء وعي جديد ينفث الحيوية والنشاط في كل أفراد المجتمع كل حسب استعداده وحسب قدرته ومؤهلاته الفكرية والمعرفية والنفسية والذهنية. لكن الجميع في نهاية المسار ينبغي أن يستشعر مسؤوليته الكبرى على تحقيق المعنى الكامل للثقة بالله، بل إن الإبداع في بعده المشروع وعالمه الفسيح هو لب هذه القضية.
الفرق والحد الفاصل بين الإعمار ولاإعمار، والحضارة ولاحضارة، والنهضة والانحطاط، هو فكرة إبداعية قابلة للتنفيذ، وهو كذلك فهم لسنن الكون على الوجه الصحيح، وارتفاع لمستوى الوعي بضرورة تسخير السنن الكونية. ولقد عاش العالم الإسلامي لحظات من تاريخه على وتيرة ركود كبير ناتج عن وجود قطيعة بين روح إنسانه وعجزه عن إدراك أبعاد الوجود وضرورة الحركية المستمرة الدائمة، لأن الحركة سنة وصفة لازمة لهذا الوجود. ومن يقف مكانه جامدًا لا يتحرك يموت، واليوم علينا أن نطرح سؤالنا الوجودي الكبير: في أيٍّ يتجه تعلُّقُنا؟ وأين يمتد تطلعنا؟
(*) جامعة أبو شعيب الدكالي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية – الجديدة / المغرب.
من موقع مجلة حراء