بقلم: ياوز أجار
برلين (زمان التركية) – حاولنا في مقالنا السابق تقديم إطلالة سريعة على جذور ما سمي في تركيا “تنظيم أرجنكون” أو “تنظيم كونتر غيريلا” أو “الكيان العميق” أو “الدولة العميقة”، وسنسعى في هذا المقال لتسليط الأضواء على ظهور هذا الكيان باسم جديد ومهمة جديدة مجددًا بدءًا من تسعينات القرن الماضي.
وكنا تطرقنا في مقالنا السابق إلى أن حلف شمال الأطلسي أسّس ضمن القوات المسلحة التركية وحدة سرية (دائرة الحرب / العمليات الخاصة) تتكون أعضاؤها من المدنيين المدربين على حرب العصابات والشوارع أو الحرب غير النظامية، لمواجهة خطر الاتحاد السوفيتي والشيوعية آنذاك، كما هو الحال في الدول الأعضاء للحلف، وقرر تصفية هذه الوحدة أو ضمّ عناصرها إلى المؤسسات المعنية الأخرى لما زال هذا الخطر عقب انتهاء الحرب الباردة، كما حدث ذلك في أوربا الغربية كلها.
“يدٌ سرية” تدخلت
وبحسب تصريحات أدلى بها الجنرال المتقاعد “كمال ياماق” الذي تولى رئاسة هذه الدائرة أو الوحدة في سبعينات القرن الماضي، فإن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تقدم لهذه الوحدة مليون دولار سنويًّا عبر “البعثة العسكرية الأمريكية المشتركة لمساعدة تركيا” (JUSMMAT) في العاصمة أنقرة، لكنها قطعت هذه المساعدة بعد أن اتخذ قرارًا بتصفيتها. على الرغم من هذا القرار، فإن “يدًا سرية” أو “كيانًا أعلى” تدخل ومنع تصفية هذه الوحدة بشكل كامل من أجل تكليفها بمهمة جديدة هي الحفاظ على “الوضع الراهن” المؤسس في تركيا بعد سقوط الدولة العثمانية، وباسم جديد هو أرجنكون. يرى كاتب صحيفة “يني شفق” تَامَرْ كُوركْماز ْأن وجود هذا الكيان الأعلى هو الذي حال دون تصفية هذه الوحدة بالكلية، وأرجع تاريخ ظهور هذا الكيان الذي وصفه بـ”الدولة العميقة” إلى عام 1944.
لكن هناك من يطرح تاريخًا آخر لما يسمى بالدولة العميقة، حيث إن وزير الداخلية الأسبق “محمد آغار” الذي سبق أن أُودع السجن المغلق في إطار قضية حادثة “سوسورلوك” الشهيرة، أجاب على سؤال لجنة التحقيق في الانقلابات البرلمانية عن الدولة العميقة في 2012 قائلاً: “إن الدولة العميقة لم تخسر أي أرضٍ سوى الموصل والكركوك” التركمانيتين المتروكتين للعراق شريطة قبول الانتداب البريطاني عليهما لمدة 25 سنة. بمعنى أنه يعيد تاريخ الدولة العميقة إلى أيام معاهدة “لوزان” الموقعة في 24 يوليو/تموز 1923. ما يجعل هذا التصريح مهمًّا أن هذه المعاهدة تزامنت مع تحوّل المخابرات العثمانية المسماة “التشكيلات المخصوصة” إلى “المخابرات التركية” الحالية.
إلا أن هناك من يذهب إلى أبعد من ذلك، فالكاتب الصحفي والبرلماني الحالي من حزب العدالة والتنمية “شامل طيار” الذي ألف عديدًا من الكتب حول تنظيم أرجنكون يزعم أن تاريخ التنظيم يمتد إلى أيام “جمعية الاتحاد والترقي” في العهد العثماني. إذ يقول في كتابه (Kıt’a Dur) الذي تناول فيه العلاقة بين العسكر والمدنيين في الفترة الأخيرة على نحو تفصيلي وعميق: “نحن نقول بأن تنظيم أرجنكون الراهن ترجع أصوله إلى زمن الاتحاد والترقي. والبؤرة الأساسية للاتحاد والترقي أطاحت بالسلطان العثماني عبد العزيز من خلال انقلاب دموي في عام 1876”. ويشير إلى أن عديدًا من الباشوات العثمانيين المشاركين في الانقلاب أو الداعمين له كانوا على صلة بـ”الماسونيين”، ويدعي أن “حسين عوني باشا”، أحد المخططين لهذا لانقلاب كان “رقم أول” للتنظيم وقتها.
نظام قائم على صراع الأقطاب المضادة
وهذا يجبرنا على تسليط الضوء على طبيعة المجتمع في أواخر العهد العثماني وبعد تأسيس الجمهورية التركية الحديثة لكي نتلمس خصائص البيئة التي نشأ فيها تنظيم أرجنكون. من المعلوم أن الأقليات، من اليهود، بما فيهم يهود الدونمة، والأرمن والشراكسة واليونان وغيرهم، كانوا العنصرَ البارز في عالم التجارة والفن والسلك البيراقراطي في المدن الكبيرة للدولة العثمانية منذ البداية؛ في حين أن الأغلبية السنية كانوا يتشكَّلون عامة من القرويين المقيمين في المناطق الريفية. ولم يتغيَّر هذا الوضع بعد سقوط الدولة العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية الحديثة على يد مصطفى كمال أتاتورك. فمثلما كانت الطبقة المثقفة في الدولة العثمانية تتألف من الأقليات بصفة عامة، كذلك قامت الجمهورية الجديدة على فئة النخب. وهذا أدى إلى تقسيم وتوزيع المناصب البيروقراطية والوظائف العامة بين هذه الأقليات، على الرغم من أن “المحافظين السنِّيين” من الأتراك والأكراد كانوا يمثِّلون الأغلبية والعمود الفقري لتركيا الفتية.
لذلك نرى أن تنظيم أرجنكون السرّي درس بصورة دقيقة وعميقة طبيعة الأقلية والأغلبية في العهدين العثماني والجمهوري على حد سواء، وجاهد لإنشاء نظام يقوم على صراع الأقطاب المضادة عرقيًّا أو أيديولوجيًّا، مثل الصراع بين الأقلية والأغلبية، بين القوميات والطوائف والأيديولوجيات المختلفة، لكن ليس من خلال آلة السياسة وفي إطار قواعد اللعبة الديمقراطية، وإنما بتشكيل “كيان موازٍ” للسلطة السياسية الشرعية والعمل في الظل بأساليب مارقة ومافيوية. وساعدته في ذلك سهولة الوصول إلى أي نوع من الأسلحة بحكم أنه تمكن من السيطرة على الوحدة السرية المشكلة ضمن القوات المسلحة سالفة الذكر. ونجد أن التنظيم وضع نصب عينيه على الأقوام الأجنبية خاصة وتوجه لاختيار أعضاءه منها وتوظيفهم وفق أهدافه ومصالحه، دون أن يعلم كثيرٌ منهم أنه يعمل لصالحه أو يحقق أهدافه، ذلك أنه تنظيم سري للغاية قائم على نظام “خلايا” لا يعرف الأعضاء بعضهم بعضًا.
هذا الكيان المارق القائم على المصالح المادية لا يلتزم بالقانون ولا بأي دين، كما سنرى، له أذرع كثيرة كالأخطبوط، في الجيش وسائر الأجهزة والهيئات الرسمية، وجميع قطاعات الحياة المدنية، بدءًا من الجامعات وانتهاءً بالجماعات العلمانية أو الإسلامية، وله صلاتٌ وامتداداتٌ خارجية. وهو يعتبر ويقدم نفسه “مالكة” الدولة، ويوظِّف كل الأفكار والأيدولوجيات مهما كانت، بما فيه الدينية، وجميع العصابات والتنظيمات الصغيرة الأخرى وفق أهدافها، ويحاول السيطرة على الشخصيات الوازنة في الجيش خاصة، والسلك البيروقراطي والسياسي عامة، عن طريق الإرهاب والترويع والابتزاز والوعود المالية و”فخاخ العسل” أو الخدمات الجنسية، وما إلى ذلك من الأدوات المشؤومة، من أجل توفير “حصانة قانونية” لأعضاءه واحتكار “ثروات” البلاد والعباد.
ولأن هدف التنظيم متداخل مع الإطار المرسوم لتركيا أو الدور المسند إليها من قبل الفواعل الإقليمية والدولية ومراكز القوى العالمية، وهو منع نموها وتطورها “أكثر من اللزوم” فكريًّا واقتصاديًّا، بالعودة إلى هويتها الذاتية القائمة على مزيج من الثقافة التركية ومبادئ الإسلام الأصيل النقي (غير المشوب بالإيدولوجيات الإسلامية)، فإنه لم يجد صعوبة في تكوين تحالفات مع مثيلاته في بعض الدول الواقعة تحت حكم المعسكر الغربي أو الروسي.
نظرًا لأن عدد أعضاء هذا التنظيم محدود، وليست له قاعدة شعبية، فإنه لا يسعى للوصول إلى السلطة غالبًا، وإنما يحاول توجيه الحكومات من وراء الستار في إطار أهدافه عن طريق توظيف سلاح “الإرهاب” وخلق عداوة وبغضاء بين القوميات السائدة وأصحاب الأفكار المختلفة على وجه الخصوص، وإذا ما خرجت تلك الحكومات عن الإطار الذي يرسمه لها يهبّ من مكانه لتعبئة وتحريض الإعلام، “السلطة الأولى”، والجيش “السلطة الثانية” في تركيا ضدها، بعد إشعال فتيل الإرهاب والفوضى وأحداث الشغب والانفجارات الشعبية، إلى أن تتأدب الحكومات أو تذهب لتأتي الجديدة التي تقع تحت سيطرتها.
صراع بين الأقلية والأغلبية في تركيا
هذا التنظيم لم يشهد تصاعدًا مستمرًا أو انخفاضًا متواصلاً، وإنما ترنحت الكفة بين تلك القوة المارقة والسلطة السياسية الشرعية حسب توجهات الحكومات وقدرتها على أن تكون “سلطانًا ذا سلطة”، أو “سلطانًا بلا سلطة”، فانطفأت جذوة الأولى حينًا أمام الثانية، ثم عادت الأولى مرة أخرى أقوى من السابق لتضيِّق الخناق على الثانية. وقد سعى كل من عدنان مندريس وطرغوت أوزال وبولنت أجاويد إلى تقليم أظافر هذا “الوحش”، لكن كل منهم دفع ثمن ذلك إما بحياته كمندريس الذي قتل شنقًا، وأوزال الذي توفي مسمومًا، أو بصحته كأجاويد الذي عمل التنظيم على تدهور صحته عبر الأدوية المقدّمة له والإطاحة بحكومته.
ومع أن الصراع بين الأقلية والأغلبية في تركيا كان وثيقَ الصلةِ بعملية التمدُّن والتحضُّر، وكان النظام البريروقراطي قائمًا على الأقلية الأجنبية منذ أواخر الدولة العثمانية، كما قلنا، إلا أن برنامج التحديث والأوربة، وقانون “التعليم الموحد” الذين طبقهما أتاتورك، ساعدا على انتقال “الأغلبية السنية” من الأطراف إلى المركز. وبعد مدة معينة بدأ أبناء الأغلبية السنية “المحافظة” الناشئين في مدارس الجمهورية يرغبون في الوصول إلى مواقع “الأقلية النخبوية” التي عوّل عليها تنظيم أرجنكون وحاول السيطرة عليها وتوظيفها وفق أهدافه، إلا أن هذه الأقلية النخبوية كانت نجحت في الحفاظ على مواقعها في الدولة في ظل نظام “الحزب الواحد” (1923–1946). ولما انتقلت تركيا إلى نظامِ “التعدد الحزبي” تغيَّرت هذه الموازنة لصالح الأغلبية السنّية، ويعتبر عدنان مندريس أولَ رئيس وزراء نَقَل لأول مرة أبناء الجماهير السنية المحافظة من الأطراف إلى المركز ومؤسسات الدولة. ولا بد من التنويه بأن موقف تركيا من الاتحاد السوفيتي في فترة الحرب الباردة، وانضمامها إلى حلف الناتو في عهد مندريس لعبا دورًا مهمًا في أن تكون الأغلبيةُ السنية المحافظة اللبنةَ الأساسية في مكافحة خطر “الشيوعية”. ولعل هذه الحقيقة تفسّر لماذا اختارت دائرة الحرب / العمليات الخاصة عناصره من الفئات المحافظة / المتدينة في البداية، كما أشار إلى ذلك الجنرال المتقاعد من هذه الدائرة شنول أوزبك.
غير أن الباحثين يشيرون إلى أن الجيش بقي خارج عملية انتقال النظام البيروقراطي من الأقلية الأجنبية إلى الأغلبية السنية، وإن كانت الجماهير السنّية بدأت تنخرط بشكل جزئي إليه في أواخر عهد مندريس، بعد أن كان ذلك “محرمًا” عليها لفترة مديدة. وقد عزا أمره أوسلو، الكاتب الصحفي وضابط الأمن السابق المعروف، سبب فشل مندريس في منع الانقلاب العسكري عليه إلى هذا الأمر حيث قال: “نظرًا لأن مندريس لم يتمكَّن من تحويل المؤسسة العسكرية وإعادةِ تصميمها فإنه تعرَّض لانقلاب عسكريّ، ودفع ثمن فتْحه أبواب الدولة للأغلبية السنية بحياته، إذ أُعدِم عقب الانقلاب عام 1960”.
أرجنكون الذي تبين فيما بعد أنه الكيان الأعلى المسيطر على دائرة الحرب / العمليات الخاصة المشكلة بصورة سرية ضمن القوات المسلحة كان منزعجًا من هذا التحول الحاصل في النظام البيروقراطي في ظل حكم مندريس، وشرع في التمهيد لانقلاب عسكري من خلال افتعال أحداث أثرت في السياسة الداخلية والخارجية في آن واحد، فدبر ما سمّي “أحداث 5 – 6 أيلول” ضد الأقلية اليونانية التي تحدثنا عنها في مقالنا السابق. وهذه الحادثة كانت من أهم ذرائع الانقلاب العسكري ضده، إلى جانب إحياءه “الرجعية الدينية”.
خلق “متحالفين” و”أعداء” جدد
احتاج النظام البيروقراطي القائم على أساس الأقليات بعد الانقلاب العسكري في 1960 إلى خلق “متحالفين” و”أعداء” جدد، فاتخذ “الطائفةَ العلوية” حلفاء، و”الأكراد” أعداء؛ إذ كان أرجنكون يعتقد أنه بإمكانه الحفاظُ على وجوده ونفوذه من خلال تويسع نطاق قاعدته الشعبية بدلاً من الاعتماد على الأقليات فقط، إذ كان هذا أسْلمَ من الأول وأضمنَ تجاه اعتراضات الأغلبية السنية. بمعنى أن أرجنكون كان وظّف العلويين في عرقلة صعود الأغلبية السنية إلى مؤسسات الدولة، وهذا هو سبب الطابَع العلوي للدولة اعتبارًا من انقلاب 1960 حتى ثمانينات الماضي.
نرى أن سبعينات القرن الماضي شهدت تقسيم المجتمع إلى أقطاب مضادة من خلال اغتيال شخصيات مثقفة بارزة من اليمينيين واليساريين بالبندقية عينها، وإثارة بلبلة وفوضى في كل مكان، بما فيه الجامعات، بتعليمات من الجهة نفسها. ولكي نفهم طبيعة تلك الأيام لا بد أن نذكر هنا ما قاله النائب البرلماني من حزب العدالة والتنمية شامل طيار على قناة تي في 8 التركية (TV8): “لقد تم احتجاز “عبد الله أوجلان” عقب التحذير العسكري في 1971 بدعوى مشاركته في أحداث شغب وفوضى سميت وقتها باحتجاجات الطلبة. وفي 8 نيسان 1972 أودع السجن وظل فيه 6 أشهر، وكان المدعي العام وجه إليه اتهامات ثقيلة وخطيرة، ولو تم اعتماد مذكرة الاتهام الأولى التي أعدها المدعي العام باقي طوغ بحقه لمكث في السجن سنوات طويلة. غير أن نائب رئيس الأركان العامة حينها “طرغوت سونالب” يتصل بالمدعي العام ويقول له: “عبد الله أوجلان من رجالنا، أطلقوا سراحه”، وبعدها يغير المدعي العام مذكرته ليتم الإفراج عنه في نهاية المطاف”.
وهذه التصريحات تكشف كيف أن أرجنكون الذي يعتبر نفسه صاحب الدولة أثار صراعًا مسلحًا بين اليمينيين واليساريين في سبعينات القرن الماضي، بل بين اليساريين أنفسهم، لخلق الذريعة المطلوبة لوضع اليد على السلطة، إذ نرى أن هذه الأحداث التي أشعلت فتيلها ووجهتها دائرة العمليات الخاصة تسببت في انقطاع النظام الديمقراطي بانقلاب عسكري جديد في 12 مارس 1971.
عبد الله أوجلان الذي يزعم أرجنكون أنه رجل الدولة التركية كان أسس في 1974 “حزب العمال الكردستاني” اليساري المصنف حاليًّا ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية لتركيا ومعظم دول العالم، احتجاجًا على موقف اليسارية التركية من حقوق الأكراد في تركيا، وقاد حركة كردية عنصرية يسارية في شرق وجنوب شرق تركيا، داعيًا إلى تأسيس “دولة كردستان المتحدة” على المناطق الكردية في كل من تركيا وسوريا وإيران والعراق، لكن مهمته الأساسية المسندة إليه كانت تشتيت اليسارية التركية والإيقاع بين الأتراك والأكراد حفاظًا على الوضع الراهن في البلاد.
تأسيس حركاتٍ ومنظماتٍ مزيفة وهمية في مواجهة الحركات السياسية ومنظمات المجتمع المدني غير المرغوب فيها من أساليب أرجنكون / الكيان العميق منذ البداية، فهو يكلّف هذه الحركات والمنظمات التابعة له بمهمة صنع أحداث مزيفة، وتلفيقِ جرائم مختلقة، ثم يقوم بإلصاقِها بتلك الحركات والمنظمات المصنفة كتهديد، والدفعِ بها إلى ارتكاب جرائم، لتشويه صورتها أمام الرأي العام والقضاء عليها في نهاية المطاف.
فمثلاً، نرى أن أرجنكون في سبعينيات القرن الماضي التي كانت اليسارية سلعة رائجة فيها، وجه السلطات من خلال رجاله في مؤسسات الدولة لتضيِّقَ الخناق على المحتجين السلميين من اليساريين باستخدام قوة الدولة، وتمارسَ الضغوط عليهم حتى يضطروا إلى استخدام العنف، تمهيداً لإقحام المنظمات اليسارية في عالم الجرائم والأعمال غير القانونية من جهة؛ ومن جهة أخرى، شكَّل منظماتٍ وهمية عبر عناصرَ تعمل لحسابه من أجل إجبار الكيانات اليسارية على اللجوء إلى استخدام الإرهاب، حتى يمكن تنفيذ العمليات ضد تلك الكيانات وإعادة تصميمها في إطار أهدافها. وأفضل مثال على ذلك هو مجموعة “آيدينليك” السيارية بقيادة الزعيم اليساري العلماني المتطرف دوغو برينتشاك. إذ دعمت هذه المجموعة حزب العمال الكردستاني فيما بعد، وشتّتت اليسارية التركية من خلال اليسارية الكردية، وحاولت القضاء على اليسارية تماماً، ولو على حساب تحويل تركيا إلى بحيرة دماء بسبب مئات القتلى بين الشباب اليساريين واليمينيين.
لذلك ليس من الغريب أن يتبادل برينتشاك الذي يمثل اليسارية التركية وزعيم حزب العمال الكردستاني الذي يمثل اليسارية الكردية عبد الله أوجلان الزهور فيما بينهما، في لقاءٍ جرى في أحد المعسكرات التابعة للعمال الكردستاني، مع أنهما يظهران العداء لبعضهما البعض، بل يعتبر أحدهما الآخر نقيضه. وليس لهذا الأمر أي تفسير منطقي سوى أنهما يعملان لحساب أرجنكون.
ظلت دائرة العمليات الخاصة الخاضعة لأرجنكون سرًّا لا يعرفه أحد إلا من أسسوه وعدد قليل جدا من رجال الدولة، لكن عقب قرار الناتو بتصفيتها وقطع واشنطن المعونات السنوية (مليون دولار) منها بدأت تعاني من مشكلة تمويل. واطلع رئيس الوزراء الأسبق بولند أجاويد “اليساري” (1974 – 1979) على هذه الدائرة السرية عندما طالب رئيس الأركان العامة آنذاك “سميح سانجار” (1973 – 1978) حكومته بتقديم أموال من الميزانية السرية للدولة. ولما تساءل أجاويد عن سبب طلب هذا القدر من الأموال والمجالات التي ستُنفق فيها اضطر رئيس الأركان تزويده بمعلومات عن طبيعة هذه الدائرة، فأصبح أجاويد أول مسؤول يكشف الغطاء عن هذه الدائرة، ويعلن أن لها أعضاءً من المدنيين أيضًا.
الجيش ينقلب مجددًا بدعوى الحفاظ على علمانية تركيا
وبعد عقد كامل من الزمن، نرى أن الجيش ركب مرة أخرى الموجة التي أثارتها أجنحة أخطبوت أرجنكون المختلفة بين الأكراد اليساريين بقيادة عبد الله أوجلان، والأتراك اليساريين بقيادة دوغو برينتشاك، وبين القوميين “المحافظين” من الأتراك والأكراد بقيادة ألب أرسلان تركيش الذي سبق أن عمل ضمن دائرة العمليات الخاصة قبل تأسيسه حزب الحركة القومية، و”الإسلاميين” بقيادة نجم الدين أربكان. إذ أقبل الجنرال “كنعان أفرين” على ثالث انقلاب عسكري في تاريخ تركيا الحديث على حكومة “سليمان دميرل” زعيم حزب العدالة آنذاك، متذرّعًا بشيوع الاغتيالات السياسية بين اليمين واليسار والقوميين المحافظين، وبـ”يوم القدس” الذي نظمه الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان في مدينة قونيا قبل 6 أيام من الانقلاب، حيث اعتبره عودة “الرجعية الدينية” ومحاولة إزالة الدولة التركية العلمانية وإقامة دولة الشريعة الإسلامية!
ويؤكد الكاتب أمره أوسلو أن هدف هذا الانقلاب كان تطهير الدولة من الكوادر غير المرغوبة فيها من العلويين والسنيّين معًا تحت مسمّى وشعارِ مقاومة “الشيوعية” من جانب، و”الرجعية الدينية” من جانب آخر؛ واعتبر ذلك امتدادًا وانعكاسًا للصراع القائم بين الأقلية والأغلبية منذ عهد الدولة العثمانية.
لكن الجنرال أفرين اضطر بعد الانقلاب إلى الاعتراف بوجود ومهمة دائرة العمليات الخاصة، وكان سيكتب في مذكراته التي ألفها عقب تقاعده أنه كان معارضًا لقيام دائرة العمليات الخاصة بفعاليات مليشية، وإدارتها حروبًا غير نظامية في المدن والشوارع، وقال: “بعد أن تسلّمت رئاسة الأركان العامة، وجهت هذه الدائرة للقيام بوظيفتها الأصلية، وأكدت للمشرفين عليها أنني لا أريد أن أسمع مرة أخرى حديثًا عن تنيظم كنتر غيريلا”، الاسم الذي كان يطلق في ذلك الوقت على الدولة العميقة أرجنكون أو الجيش السري المشكل ضمن القوات المسلحة.
تدل هذه التصريحات على أن الدولة أو القوات المسلحة كانت منزعجة من فعاليات الوحش (دائرة العماليات الخاصة أو تنظيم غيريلا أو أرجنكون) الذي غذاه بأيديها وقررت التخلص منه بعد أن خرج عن السيطرة، لكنه قاوم محاولات التصفية وواصل وجوده حتى هذه الأيام.
لَبْرَلة الدولة أو الإدارة المدنية
من الممكن القول بأن تنظيم أرجنكون تلقى أكبر طعنة في عهد طرغوت أوزال الذي أصبح رئيس الوزراء (13 يناير 1983 – 9 نوفمبر 1989) ثم رئيس الجمهورية (9 نوفمبر 1989 – 17 نيسان 1993)، حيث توفي وهو يشغل هذا المنصب، وذلك بسبب جهوده الجبارة الرامية إلى إضفاء الطابَع المدني الشفاف القابل للمحاسبة على الدولة بدلاً من الطابَع العسكري السري الرافض لأي نوع من النقد والمساءلة، وقطع علاقة المؤسسة العسكرية وجهاز المخابرات بعناصر وكيانات غير قانونية. ولعل أكبر نجاح حققه أوزال تمثل مجملاً في الازدهار الاقتصادي وتكامل الأكراد مع الدولة وانفتاح تركيا على الخارج، بالإضافة إلى توسيعه نطاق الحريات وحقوق الإنسان، حيث أجرى تغييرات في قانون العقوبات رقم 141 و142 الذي كان يضيّق الخناق على اليساريين ورقم 163 الذي كان بمثابة “سيف مسلط” على المسلمين.
ويلفت المؤرخون إلى أن سياسة لَبْرَلة الدولة التي اعتمدها أوزال أسهمت بكشل كبير في وصول الأغلبية السنية من الأتراك والأكراد إلى مناصبَ ومواقعَ حسّاسةٍ في جميع مؤسسات الدولة، وعلى رأسها وزارة التعليم والداخلية – ما عدا وزارة الخارجية -. وأسفرت سياسات أوزال الديمقراطية والليبرالية عن انتقال الكلمة العليا في الاقتصاد من الأقلية الأجنبية إلى الأغلبية السنية أيضًا لأول مرة في تارياخ تركيا، إذ بدأ ما يسمى “نمور الأناضول” (شركات الفئات الإسلامية والمحافظة) تشكّل بديلاً عن “رأس مال إسطنبول” الذي كان يسيطر عليه الأقليات الأجنبية من اليهود والأرمن واليونان والشراكسة وغيرهم من الأقوام. (ولا يذهبنّ بكم الظنّ أنني أفرق بين الأقلية والأغلبية، بل أحاول وصف الواقع فقط، وسأذكر رأيي في هذا الموضوع في المقالات القادمة) ويزعم بعض الكتاب أن الأقليات في مؤسسات الدولة المختلفة بدأوا يخفون هوياتهم بعد فترة معينة وتوجهوا إلى تشكيل “مساحات خاصة” لأنفسهم داخل الدولة.
لكن يرجح معظم الكتاب أن أكبر إنجاز حققه أوزال أنه أجرى تعديلات على القانون الذي يحدد وظائف وصلاحيات الشرطة وأسس بموجب ذلك دائرة أو شعبة الاستخبارات الأمنية التابعة لرئاسة الأمن العام، بعد أن كانت الدولة تعتمد على المخابرات الوطنية التي كان يتم اختيار شخصياتها البارزة من العسكر أو العناصر المدنية التي سبق أن عملت في دائرة العمليات الخاصة. وعلى الرغم من أنّ إجراء انقلاب على مدار كل عشْر سنوات أصبح عادة عسكرية في تركيا، إلا أن وجود الاستخبارات الأمنية حال دون حدوث انقلاب في عهد أوزال، حيث كان أوزال يتلقى معلومات عبرها عن أدنى تحرك في الجيش، على النقيض من الماضي حيث لم تبلغ الخابرات الوطنية الحكومات المنتخبة بأي تحركات عسكرية قبل وقوع الانقلابات الثلاثة السابقة.
“حركة الخدمة” احتضنت كل الأقليات الموجودة في تركيا
وبالتوازي مع توجه الحكومة أو الدولة إلى الطابع المدني نرى حراكًا غير مسبوق للمجتمع المدني في تركيا، إذ أطلق فتح الله كولن بعد عام 1990 حركة رائدة في الحوار والتفاهم بين معتنقي الأديان والأفكار الأخرى اتسمت بالمرونة والبعد عن التعصب والتزمت والتطرف، واحتضنت كل الأقليات الموجودة في تركيا، بمافيهم اليهود، لتجد صداها خلال مدة قصيرة في تركيا أولاً وفي العالم لاحقًا. كما أسست حركة الخدمة “وقف الكتاب الصحفيين” الذي استطاع جمع المثقفين اليمينيين واليساريين والإسلاميين تحت مظلة واحدة. كما استطاعت الحركة الانفتاح على العالم من خلال مئات المؤسسات التعليمية والاقتصادية، وعلى وجه الخصوص على الجمهوريات التركية المنفصلة من الاتحاد السوفيتي. وكان طرغوت أوزال في مقدمة السياسيين الذين قدموا دعمهم علنًا لكولن ومشاريع حركة الخدمة، حيث أجرى زيارة إلى دول وسط آسيا المنفصلة عن روسيا، وأكد لجميع رؤساء الحكومات الذين التقاهم أنه “متكفل لمدارس حركة الخدمة”. كما أن كولن قام بزيارته في المستشفى الذي خضع للعلاج فيه.
وقد دفع أوزال ثمن دعمه لمدارس كولن وسياساته الرامية إلى إضفاء “الصفة المدنية” على الدولة بحياته، حيث توفي في 17 إبريل/نيسان 1993 جراء “التسمّم الغذائي” على أيدي أرجنكون، كما كشفت الفحوصات الطبية التي أجريت على رفاته في عهد أردوغان. (سنتطرق إلى هذا الموضوع لاحقًا).
فضيحة هزت تركيا
في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1996، أي قبل سنة واحدة من الانقلاب العسكري الناعم في 1997، وقعت فضيحة هزت كل تركيا، وأصيب الجميع بالصدمة والدهشة، وشكلت منعطفًا مفصليًّا في تاريخ تركيا الحديث وتنظيم أرجنكون، في ظل الحكومةالائتلافية بين حزب الرفاه الإسلامي بقيادة نجم الدين أربكان وحزب الطريق القويم بزعامة السيدة تانسو تشيلّر. إذ تحطمت سيارة كان على متنها نائب مدير شرطة إسطنبول “حسين كوجاداغ”، والعضو البرلماني من صفوف حزب الطريق القويم وزعيم قبيلة كردية قوية “سدات بوجاق”، وقائد تنظيم “الذئاب الرمادية” القومي “عبد الله جاتلي”، الذي كان زعيم مافيويًّا و”قاتلاً مأجورًا” ومطلوبًا على قائمة الشرطة الدولية الإنتربول، عندما اصطدمت بشاحنة كبيرة قرب بلدة “سوسورلوك” التي تقع بمحافظة باليكسير، وفيها مجموعة من الأسلحة غير المرخصة.. أسفرت حادثة أو فضيحة “سوسورلوك”، التي افتضحت فيها لأول مرة العلاقاتُ القذرة بين الدولة والسياسة والمافيا للرأي العام عيانًا بيانًا، عن مقتل كل من مدير أمن إسطنبول وزعيم المافيا والسيدة جونجا أوس التي كانت تحمل هوية مزورة، فيما أصيب البرلماني سدات بوجاق.
ومن المثير للدهشة أن أحد أجنحة الدولة كان يصرّ على إطلاق تحقيق شامل حول الحادثة، فيما سعى أرجنكون بكل قواه إلى إسدال ستار على الفضيحة، بحيث كان أول من ذهب إلى مكان الحادثة وحاول اختطاف جثة زعيم المافيا عبد الله جاتلي هو الجنرال “ولي كوتشوك” الذي سُجن في إطار قضية أرجنكون بعد أكثر من 10 سنوات من هذه الحادثة. استطاعت محكمة أمن الدولة، بصعوبةٍ للغاية، إصدار قرار بحبس البرلماني سدات بوجاق سنتين فقط، ولم تستطع تشميل التحقيقات على عناصر أخرى بسبب العوائق التي وضعتها البيروقراطية العسكرية والمخابرات خاصة. لذلك أصبحت التحقيقات التي أطلقها الأمن والمخابرات والبرلمان عقيمة لم تؤد إلى نتائج تكشف الخطوط التي تربط بين الدولة والسياسة والمافيا بشكل كامل. وكان الجنرال ولي كوتشوك رفض الإدلاء بأقواله للجنة التحقيق البرلمانية حول الحادثة، على الرغم من ثبوت تسجيل الهاتف النقال لمحمود يلدريم الملقب بـ”يشيل” (الأخضر)، أحد المتهمين في إطار قضية سوسورلوك، على اسمه. وكان كل من عبد الله جاتلي ومحمود يلدريم من رموز القوميين الأتراك أو الذئاب الرمادية.
الشعب يتعرف على “أرجنكون” لأول مرة
مع ذلك فإن الرأي العام سمع لأول مرة وبشكل صاخب جداً بتنظيم أرجنكون، ونظم احتجاجات موسعة استمرت أسابيع وشهورًا طويلة، وبدأ يطالب بسياسة نزيهة لا تتدخل فيها كيانات خارجة عن إطار السياسة في إدارة البلاد. ولقد اعتبر الكاتب الصحفي “جلال كازداغلي” هذه الحادثة بداية مبادرة الدولة إلى تصفية تنظيم أرجنكون، في حين أن شامل طيار رأى أن الذي انكشف في حادثة سوسورلوك كان “الذراع اليمنى للدولة العميقة” التي كانت تستخدم عامة القوميين الأتراك، بينما ظهرت ذراعها اليسرى من خلال قضية أرجنكون عام 2007 في عهد أردوغان.
ومع أن أرجنكون كان معلومًا لدى مجموعة قليلة من رجال الدولة لا يتجاوزون عدد الأصابع، غير أن هذا الشبح لم يتجسد في ذهن الرأي العام إلا بعد حادثة سوسورلوك المذكورة وما تبعها من أحداث متتالية. إذ شاهد الرأي العام أن هناك بعض الأشخاص يرون أنفسهم فعلاً فوق الجميع، ويرفضون الخضوع للقانون الذي يخضع له كل المواطنين، بل القانون لا يستطيع أن يلمسهم بشيء، حيث كان رفض بعض الموظفين، معظمهم من السلك العسكري والمخابرات، بصفتهم متهمين أو شهداء، في إطار قضية سوسورلوك، المثول أمام المحكمة، والإدلاء بأقوالهم.
وكان “أرجنكون” أصبح لأول مرة موضوعا لبرنامج تلفزيوني أعده وقدمه “جان دوندار”، الكاتب الصحفي الشهير، رئيس جريدة “جمهوريت” المعروفة بتوجهاتها العلمانية سابقًا في 7 يناير 1997 على شاشة قناة “شوو تي في” (Show TV) وناقش فيه “الكيانات غير القانونية داخل الدولة”، وسلّط الضوء على علاقة عديد من العصابات وزعماء المافيا، مثل عبد الله جاتلي المذكور، ببعض الدوائر المتنفذة في الأمن والجيش والمخابرات، وارتكابهم جرائم واغتيالات باسم الدولة، ومن ثم حصولهم على حصانة قانونية تمنعهم من أي مساءلة أو محاكمة قضائية.
وأكد ضيف البرنامج العسكري والكاتب الصحفي “أرول مترجملر” أنه اطلع على “أرجنكون” عن طريق اللواء المتقاعد “ممدوح أونلوتورك” الذي كان عضوا في هذا التنظيم أيضًا وقُتل عام 1991 على يد مليشي مسلح ينتمي إلى حزب جبهة التحرير الشعبية الثورية (DHKP/C)، لافتًا إلى أن التنظيم يضمّ في بنيته ضباطًا وأمنيين وأساتذة وصحفيين ورجال أعمال، وأن كل العصابات في تركيا تعتبر وحدات صغيرة تابعة له، وأنه فوق رئاسة الأركان العامة والحكومة وكل مؤسسات الدولة. وأكد أن الاغتيالات الصاخبة التي استهدفت الرئيس طرغوت أوزال والقائد العام لقوات الدرك الجنرال “أشرف بتليس” والكاتب الصحفي الشهير “أوغور مومجو” والكاتب “أحمد تانر كيشلالي” يقف وراءها تنظيم أرجنكون.
وقد ألف جان دوندار بالتعاون مع كازداغلي كتابًا سمياه “أرجنكون: دولة داخل دولة” (1997). وجاء في الكتاب أن أرجنكونَ الذراعُ التركية للتنظيمات التي شكلها حلف الناتو لمكافحة الشيوعية أصلا، وينقل ما قاله بولنت أجاويد من أن عناصر دائرة العمليات الخاصة كانت تعمل مع الكوموندوز الأمريكان ضمن مؤسسة عسكرية أمريكية، لكن لفت الانتباه إلى أن معظم المتهمين بالانتماء إلى هذا التنظيم في الوقت الراهن ليسوا موالين وداعمين للولايات المتحدة وإنما من القوميين الطورانيين المتطرفين الموالين لروسيا.
وترِد العبارات التالية في تقديم الكتاب: “ستقرأون في ثناياهذا الكتاب كيف تأسس تنظيم على غرار تنظيم غلاديو في إيطاليا، وكيف تم توظيف القوميين القدماء (الذئاب الرامادية) في أنشطة غير قانونية، والمنافسة الشرسة بين أجهزة الاستخبارات، وكيف تجاوزت مكافحة العناصر الإرهابية التابعة لحزب العمال الكردستاني الحدود القانونية وتسببت في ظهور عصابات في منطقة شرق وجنوب شرق تركيا، وكيف أن هذه العصابات تورطت في عمليات مشبوهة كالعمليات الاستفزازية قبيل انقلاب 12 سبتمبر/أيلول 1980، واغتيال طرغوت أوزال، وستجدون فيه أيضا العالم السري لتنظيم أرجنكون؛ الدولة داخل الدولة.. ومن ثم ستندهشون كيف أن الدولة لم تستطع حتى اليوم محاسبة ما يرد في هذا الكتاب”.
الكتاب ينطلق أساسًا من حادثة سوسورلوك ويحاول الوصول إلى جذور أرجنكون، حيث يقول: “لقد أقبرت تركيا في ذاكرتها أكبر فضيحة شهدتها في تاريخها الحديث وأخفتها في ملفات كتبت عليها “سري للغاية. لقد تم إسدال ستار على أسرار الدولة القذرة التي انكشفت من خلال حادثة سوسورلوك من دون نقاش وبحث وتحقيق بعد أن كنا على وشك كشف القناع عن العصابات التي تحاول السيطرة على الدولة والعلاقات بين المافيا والسلطة الحاكمة والتنظيم السري غير القانوني المكون أعضاؤه من القوميين القدماء ووحدة القوات الخاصة. بينما كان يجب على البرلمان وضع يده على الحادثة، ومبادرة المدعين العامين للكشف عن كل خفاياها وصلاتها، مهما امتدت، وكان ينبغي للرأي العام أن يكون حذرًا منتبهًا واعيًا، وأن يشكّلَ الإعلام فرقًا خاصة لمتابعة الحادثة بكل حذافيرها.. إلا أن ذلك لم يحدث”.
على الرغم من التشاؤم الذي اتسمت به نظرة جان دوندار، إلا أن زميله جلال كازداغلي يزعم أن تصفية أرجنكون بدأت بحادثة سوسورلوك، ومن بقي بعدها من عناصر التنظيم يصفها بـ”بقايا” أو “مخلفات أرجنكون” وكياناتٍ تحاول التنظيم والحفاظ على وجودها بطريقة مبتدئة غير محترفة، في مقال كتبه في 2008. ويستشهد على ذلك بالاغتيالات التي أقدم عليها أرجنكون قبل حادثة سوسورلوك وتلك التي أقدم عليها بعدها. ويذكر أن أول محاولة اغتيال بعد هذا التاريخ نفذها أرجنكون ضد الناشط الكردي الحقوقي والبرلماني “آكين بيردال” في 12 مايو 1998، حيث كان رئيس جمعية حقوق الإنسان. وقد ألقت السلطات الأمنية القبض على على منفذي الهجوم على الفور، كما ألقت القبض على جميع المتورطين في عمليات الهجوم والتخريب والقتل الأخرى التي أقدم عليها التنظيم ،ما عدا مرة أو مرتين. في حين أن هذا النوع من الهجمات والاغتيالات كانت تبقى مجهولة الفاعل قبل عام 1996، بدءًا من الاغتيالات السياسية الصاخبة التي قتل خلالها كل من البيرفسيور “بحرية أوتشوك” والكاتب والسياسي “معمر أكسوي” والكاتب الصحفي “أوغور مومجو” الذي كان يبحث في تنظيم حزب العمال الكردستاني وتوصل إلى نتائج مذهلة في علاقاته بأرجنكون.. وهذا وحده يكفي إعطاء فكرة لنا عن هذا الفْرق بين أرجنكون ومخلفاته وبقاياه، على حد تعبيره.
ويحاول كازداغلي من خلال هذه العبارات الانتهاء إلى أن هناك “إرادة” داخل الدولة قررت التخلص من بقايا ومخلفات أرجنكون، بالتوازي مع التوجه الجديد الرامي إلى ترسيخ دولة القانون والإدارة المدنية الذي بدأ مع طرغوت أوزال الموصوف بـ”الرئيس المدني المسلم” وباني “تركيا المدنية”.
يتبع..