بقلم: دكتور شوقي صلاح، الخبير الأمني والقانوني لمكافحة الإرهاب، عضو هيئة التدريس بأكاديمية الشرطة
القاهرة (زمان التركية) – ما زلت أذكر المكالمة التليفونية التي أخبرني فيها أحد أصدقائي ـــ وهو إعلامي قدير ـــ بخبر وقوع انقلاب في تركيا، وكان رد فعلي الأولي معلقاً بالقول: “غير حقيقي، هذا الخبر من المؤكد أنك طالعته على موقع من مواقع التواصل الاجتماعي المليئة بالإشاعات”، فرد قائلاً: “هذا الأمر مُؤكد ومُعلن على مواقع لوكالات أنباء عالمية موثوق في أدائها المهني”؛ فكان ردي: “إن صح هذا فلن يقبله الشعب التركي مطلقاً”، وقد كان؛ فقد وقف الشعب التركي كحائط صد منيع ضد الانقلاب بصرف النظر عن شخص الرئيس، رافضاً له بشكل سلمي رائع.. ودون حاجة لاستخدام العنف، فقد نزلت حشود شعبية وقفت بصدورها في مواجهة بعض الآليات العسكرية في تحد شجاع وتاريخي لهذا الانقلاب.. مما ساعد على دحره.
لذا كانت دهشتنا بالغة من إقرار الرئيس التركي مؤخراً لتعديلات لقانون الطوارئ بإصداره للمرسوم بقانون رقم 696 في نهاية ديسمبر 2017؛ والذي بمقتضاه حصن المدنيين الذين تصدوا لمحالة الانقلاب مستخدمين القوة ـــ وهي حالات نادرة ـــ من المسئولية الجنائية، سواء تم هذا وقت وقوع الانقلاب أم بعده، وإذا كانت المحاولة الانقلابية وقعت في 15 يوليو 2016 إلا أن القانون المشار إليه لم يحدد سقفاً زمنياً لهذا الإعفاء؛ ودون النظر إلى حمل هؤلاء لصفة رسمية لأداء هذه المواجهات من عدمه! وانتقدت العديد من القوى الوطنية التركية هذا التعديل؛ فذهب جانب من هذه الانتقادات إلى توجيه رسالة للرئيس التركي مفادها “لقد تمكنتم من إصدار مادة تسمح للمواطنين بقتل بعضهم البعض، فتقول لهم اقتل ولا تقلق، لن نعتبرك مذنباً”؛ كما وصف الرئيس التركي السابق عبد الله جول هذا المرسوم بقانون بأنه “لا يتوافق مع معايير دولة القانون ويبعث على القلق”، وطالب السلطات التركية بمراجعته؛ كما عبرت السيدة ميرال أكشنار الزعيمة القومية الملقبة بالمرأة الحديدية في تركيا عن استنكارها للتعديل بتغريدة أطلقتها على حسابها، قالت فيها: “إن السماح للمواطنين باستخدام وحمل السلاح بحجة صد محاولة الانقلاب يجر البلاد لحرب داخلية“. ونكرر التأكيد هنا على أن خطورة هذا التعديل لكونه يعفي من المسئولية ليس فقط لمن قام بمواجهة الانقلابيين خلال الأسبوع الذي وقع فيه الانقلاب، بل يمتد الإعفاء دون سقف زمني محدد، وكأن هناك من الانقلابات ما هو قادم لا محالة..!
ولعل السؤال الذي يُطرح بقوة على بساط هذا البحث: ماذا وراء هذه التعديلات التشريعية المريبة من أغراض خفية؟
والإجابة من منظور أمني وقانوني؛ أن الرئيس وحزبه يضمنان لعصابات وتنظيمات إرهابية القيام بعمليات إجرامية ضد خصومهما السياسيين، في ظل إعفاء تشريعي من المسئولية.. وذلك بدعوى مواجهة الانقلاب الذي انتهى وأصبح ماضياً، إلا أن الواقع القانوني الذي فرضه أردغان بالتعديل التشريعي المشار إليه خلق انقلاباً حقيقياً على الشرعية، فكفلت بموجبه الدولة للمدنيين حق التدخل المسلح ضد من تعتبرهم ميليشياتهم انقلابيين..!
ولعل هذا المرسوم الذي أصدره أردوغان يجعل للمقاربة بينه وتجربة الصحوات في العراق مجالاً للتنظير.. حيث تتلخص تجربة الصحوات في قيام دولة العراق بتسليح تجمعات عشائرية لمواجهة التنظيمات الإرهابية كالقاعدة وداعش، وكانت بداية ظهور هذه التجربة في نهاية عام 2006، وانتشرت بشكل ملحوظ في مختلف أنحاء العراق، ليصل عدد منتسبيها إلى ثمانين ألف مقاتل، يشكل السنة منهم النسبة العظمى، وجدير بالذكر أن الولايات المتحدة الأميركية قامت بمد مجالس الصحوة بالمال والسلاح سواء بطريقة مباشرة أم عبر الحكومة العراقية، وقد برر الجيش الأمريكي هذا الدعم بوحدة الهدف المشترك الذي يجمعه وهذه المجالس. ومؤخراً اتخذ مجلس الوزراء العراقي في فبراير 2017 قراراً بحل الصحوات وقيام دائرة نزع السلاح بنقل منسوبي هذه الصحوات الموجودين فعلا إلى الأجهزة الأمنية أو هيئة الحشد الشعبي بنفس مخصصاتهم، وبهذا فتجربة الصحوات ارتبطت بحالة ضرورة استثنائية عجزت فيها قوات الجيش والشرطة العراقية عن القيام بواجبها في مواجهة التنظيمات الإرهابية التي ترتكب جرائم واسعة النطاق في المرحلة الزمنية المشار إليها.
وطالما تحدثنا عن تجربة الصحوات فحري بنا الإشارة إلى أن الجرائم الإرهابية التي ارتكبت في شمال سيناء؛ خاصة تلك التي نالت من أبنائها الوطنيين الشرفاء الذين تعاونوا مع قوات إنفاذ القانون ضد التنظيمات الإرهابية ترتب عليها ظهور نداءات بتسليح قبائل سيناء لمواجهة تلك التنظيمات.. وكانت القيادة السياسية المصرية حازمة كل الحزم في رفض هذه الدعوات التي تحمل في تبعاتها خطورة بالغة على الأمن القومي المصري؛ مؤكدة أن حمل السلاح واستخدامه المشروع في مواجهة الجريمة هو حق حصري لقوات إنفاذ القانون لجيش وشرطة مصر.
وفي نهاية هذه الكلمة فإن تحليلاً مجملاً للأداء السياسي للرئيس التركي أردغان يأخذنا إلى أنه يتسم بالاضطراب الشديد على المستويين الداخلي والخارجي؛ فعلى المستوى الداخلي اعتقل الرجل الآلاف من أبناء شعبه سواء ممن شارك حقيقة في الانقلاب، أم من خصومه السياسيين.. بدعاوى زائفة بتوافر شبهات على تورطهم في الانقلاب؛ كما توحد هذا الرئيس مع تنظيمات سرية نافذة في تركيا ضد المناهضين لسياساته.. أما على المستوى الخارجي فعلاقاته مع أوروبا ساءت، خاصة مع ألمانيا، وكذلك سياساته مع حلف الناتو والولايات المتحدة الأمريكية؛ إضافة إلى تدهور علاقات تركيا مع أهم دول الخليج العربي، وعلاقات دولته مضطربة أيضاً مع العراق وسوريا؛ ناهيك عن مناصبته العداء للدولة المصرية، خاصة بعد اتفاقه المريب مع السودان والذي منحت تركيا بموجبه وجوداً ربما يصبح عسكرياً في جزيرة سواكن، وهي القريبة من الحدود الجنوبية المصرية على البحر الأحمر؛ لذا لا استبعد كمحلل أمني أن تقوم مصر بمواجهة عسكرية مباشرة لهذا الوجود حال تعرض أمنها القومي للخطر. والغريب أن هذا الرئيس يتسم أداؤه السياسي مع إسرائيل بنوع من الفصام السياسي ــ وهو نوع من الاضطراب النفسي الذي يتسم بسلوك غير منطقي نابع من قصور في تمييز الواقع ــ فهو حريص كل الحرص على توثيق علاقاته مع دولة الاحتلال؛ بل وأفعاله تصب في النهاية لصالحها..! مكتفياً ببعض الشعارات الجوفاء التي لا تقدم أو تؤخر.. فهو قد قَبِل بشكل مخجل دية قتلاه في اعتداءات السفينة مرمرة؛ ولم يعتذر نتنياهو عن جريمته مكتفياً بدفع تعويضات مالية..! هذا وإذا كان أداؤه السياسي مضطرباً وفقاً للشواهد السابق ذكرها، إلا أن أكبر خطاياه تتمثل في دعمه اللامحدود لتنظيم داعش الإرهابي، وهو الأمر الذي يجب أن يحاكم عليه دولياً.. إلا أنه وللأسف لا تتوافر في الوقت الحالي منظومة متكاملة وفاعلة للعدالة الجنائية الدولية..!