سلجوق جولتاشلي
من أول الأسئلة التي قد يتعرض لها بعض المهتمين بالشأن الداخلي التركي هو ما الذي حدث في أعقاب الانتخابات البرلمانية التي أجريت في 7 يونيو/ حزيران الماضي لتدخل البلاد في دوامة العنف والإرهاب مرة أخرى بعد هدوء دام لسنوات؟
على أرض الواقع بدأ الحديث عن اندلاع حرب أهلية محتملة، بجانب دعوات لفرض حظر التجوال وفرض الأحكام العرفية في البلاد.
ومع قراءة وتحليل الآراء ووجهات النظر حول ما يجري في الفترة الأخيرة، تتضح الرؤية أمامنا، وهي أن الاتحاد الأوروبي اتخذ موقفه حيال ما يدور في تركيا وفقًا لرؤيته. وينظر إلى أن منظمة حزب العمال الكردستاني على أنها تنظيم إرهابي مذموم بسبب تورطه في الجرائم والمذابح. لكن بعد أن تم ضم المنظمة إلى قائمة التنظيمات الإرهابية بالاتحاد الأوروبي بقي السؤال: “ماذا فعلتم لمواجهة إرهاب الكردستاني؟” الإجابة غير واضحة، إلا أنه كانت هناك مساعٍ جمَّة لإيصال مفهوم معين للطرف الآخر وهو أن الإرهاب ملعونٌ ومذمومٌ بالإضافة إلى وجود جهود كبيرة وحقيقة من أجل إدراج المنظمة ضمن التنظيمات الإرهابية.
وكان القيادات السياسية في بروكسيل – عاصمة الاتحاد الأوروبي- ترى أن النتيجة التي خرجت بها انتخابات 7 يوينو/ حزيران، هي ميلاد لطوفان الدم مرة أخرى في البلاد. وكان الجميع يحمِّل أردوغان مسؤولية إفساد السلام الداخلي في البلاد، بالرغم مما تنشره الصحف الموالية لحزب العدالة والتنمية الناطقة باللغة الإنجليزية، وكذلك الزيارات المستمرة والمتكررة من قبل الساسة وممثلي الدولة من الوزراء والمستشاريين، كل هذا لم يجد نفعًا.
ولم يكن أردوغان هو الوحيد الذي تدور حوله علامات التعجب في بروكسل، فقد كانت منظمة حزب العمال الكردستاني تذكر وراءه مباشرة. إذ يرى الساسة في بروكسل أن صلاح الدين دميرتاش –رئيس حزب الشعوب الديمقراطي- يتخذ موقفًا واضحًا من حزب العمال الكردستاني ويحتفظ بمسافة بينه وبين الإرهاب، وإن لم ير الرأي العام التركي بشكل كاف. وأظهرت الدراسات أن تأثير صلاح الدين دميرتاش على منظمة حزب العمال الكردستاني محدود.
كما أن هناك قناعة بأن أردوغان ذاته، هو من قضى على مفاوضات السلام والتسوية وسياسات الانفتاح على الأكراد التي حظيت بالتقييم الإيجابي الوحيد لصالح إدارة أردوغان المستبدة، التي تبلورت مع اندلاع أحداث متنزه “جيزي” الشهيرة في إسطنبول خلال شهر يونيو/ حزيران 2013، وازدادت وتيرتها في أعقاب الكشف عن وقائع الفساد والرشوة في 17 و25 ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه. إذا ما نظرنا من زاوية بروكسل فإن الحسنة الوحيدة في سجل تركيا هي استضافتها اللاجئين السوريين.
الغريب في الأمر، أن متابعي الشأن التركي لم يندهشوا من تراجع أردوغان للوراء على شكل حررف (turn U) (الدوران للخلف) فيما يتعلق بالأزمة الكردية، والتي علَّق عليها مستقبله وحياته السياسية. وفي تلك الأثناء بدأ بعض المسؤولين في الاتحاد الأوروبي يزعمون أن أردوغان يقترب بسرعة كبيرة من تجاوز حدود المكتسبات الديمقراطية لبلاده، وأنهم أدركوا اتجاهه إلى الفكر الاستبدادي منذ فترات طويلة، واتهموا أعضاء حركة الخدمة بالسذاجة لاعتقادهم أن أردوغان كان يسير بتركيا في طريق الديمقراطية الحديثة.
وبحسب هؤلاء، فإن الشيء الوحيد الذي يمكن وصف أردوغان به، هو عدم وجود مبدأ بعينه يؤمن ويتمسك به. وإنما شغله الشاغل الآن، البقاء في الحكم. وقد كان التغير الحاد في فكره ونظرته للأزمة الكردية أكبر دليل مؤيد لهذا الرأي.
فكما نجح أردوغان في استغلال حركة الخدمة لفترة طويلة، نجح كذلك في استغلال آمال طبقة عريضة من المواطنين الذين يرغبون في حل الأزمة الكردية بطرق سلمية. أمَّا لسان حال أردوغان الآن فيقول إنه بحاجة إلى الارتماء في أحضان التيار القومي، وارتداء عباءة القومية أكثر من حزب الحركة القومية (MHP).كما أن هناك أيضًا من يتحدثون عن أن أردوغان استغل المفكرين المنتمين للتيار الليبرالي.
وتجدر الإشارة إلى أنه منذ الكشف عن أحداث 17 و25 ديسمبر/ كانون الأول 2013، تم نشر عدد كبير من المقالات والكتابات الصحفية التي تدور حول أن أردوغان بدأ في التحول إلى “بوتين” الثاني. والآن بدأت أعداد من يقولون إن أردوغان يقلد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويتبع تكتيكاته وخططه، تشهد زيادة كبيرة. وبخاصة مداهمة السلطات التركية برئاسة أردوغان لمجموعة “إيباك” (İpek)، التي أعادت إلى الأذهان السياسات القمعية التي فرضها بوتين على رجال الأعمال الذين لم يستطع ضمهم تحت عباءته، فضلًا عن تحول جزء كبير من وسائل الإعلام والصحف الروسية إلى آداة لعمل دعاية لصالح بوتين، وقيام الدوائر المتخصصة في القصر الروسي “الكرملين” بمراقبة الأخبار المنشورة في الصحف ووسائل الإعلام، وتصاعد الخطاب المعادي للغرب، وتفسير كل واقعة سلبية من منظور “نظرية المؤامرة”، دفعهم ليقولوا “نعم، إنه هذا ما يحدث في تركيا بالضبط!”.
ومن أهم نتائج التحول الجذري والمفاجئ في موقف أردوغان من الأزمة الكردية، تأثر نظرة الاتحاد الأوروبي في بروكسل تجاه حركة الخدمة. كانت الحركة تُرى على أنها “شريك” حزب العدالة والتنمية في الحكم حتى وقعت أحداث 17 و25 ديسمبر/ كانون 2013، أمَّا الفترة التالية فقد بدأت علامات الاستفهام والتعجب حول حركة الخدمة، بالرغم من تصنيفها كضحية “استغلت من قبل الحزب الحاكم”. وجاء تخلى أردوغان عن التوصل لحل للأزمة الكردية ليؤكد الرأي الذي يزعم بأنه كان يستغل حركة الخدمة. وكما قال أحد الأوروبيين المهتميين بالشأن التركي، فإن أردوغان لم يستغل حركة الخدمة وحدها، أو حتى الأزمة الكردية فقط، ولكنه لم يترك أحدًا أو فصيلًا إلا واستغله، من أجل البقاء في السلطة.