بقلم: ياوز أجار
برلين (زمان التركية) – كان مصطفى كمال أتاتورك أسس الجمهورية التركية كدولة قومية علمانية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية قائمةٍ على نظام برلماني ينتخب أعضاؤه من قبل الشعب، وتبنى برنامج “التحديث” أو “العصرنة” و”التغريب” أو “الأوربة”، إن صح التعبير، لحكومته، وطرح أفكارًا “ثورية”، وطوّر مشاريع عديدة وطبقها في هذا الإطار العام، كما كان ذلك توجهًا سائدًا في كل العالم عقب انهيار الإمبروطوريات الكبرى وظهور الدول القومية الصغرى. ثم أدى دوره ورحل بعد ذلك من هذه الدنيا بحسناته وسيائاته، تاركًا وراءه تركيا الفتية المحتاجة إلى التطوير والتقدم من النواحي الثقافية والحضارية والسياسية والاقتصادية.
وكل من أتى بعد أتاتورك من الحكام، سواء كانوا يساريين أو يمينيين أو إسلاميين، بدءًا من “عصمت إينونو” وانتهاءً بـ”رجب طيب أردوغان”، حاول وضع لبنات جديدة على صرح هذا الوطن للرفع به إلى مستويات أعلى، وتطوير مؤسساته الحضارية والثقافية والسياسية والاقتصادية باستخدام أداة أو آلة السياسة المدنية الشرعية / القانونية، وذلك انطلاقًا من الرؤية أو الأيدولوجية التي تبناها، بطبيعة الحال، دينية أو غير دينية، بغضّ النظر عن نجاحه أو فشله في تحقيق الحرية والعدالة والرفاهية المطلوبة للشعب.
بعد 7 سنوات من انتهاء الحرب العالمية الثانية، انضمّت تركيا إلى حلف شمال الأطلسي “الناتو” في 18 شباط/فبراير 1952 إبان حكم عدنان مندريس، وتحولت إلى سدٍّ منيع أمام خطر شيوعية “الاتحاد السوفيتي” وطموحاته التوسّعية في فترة الحرب الباردة (1947 – 1991).
جيوش الناتو السرية في الدول الأعضاء
كان المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا غيّر “هوية العدو” بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) لتصبح الشيوعية هي العدو الجديد. فعقب تصاعد العداء للشيوعية والتوجس من الاتحاد السوفيتي، في عهد الرئيس الأميركي “هاري ترومان”، رأى ضباط يسيطرون على الناتو ضرورة إطلاق “حرب سرية”، استلهاماً للتكتيك الذي استخدمه “الحلفاء” ضد القوات الألمانية وهو: التخريب في ما وراء خطوط العدو. ثم اتخذ سياسيون من أعلى المناصب ومسؤولون في الحكومات الأوروبية، بالاتفاق مع المخابرات الأميركية والبريطانية والمخابرات العسكرية التابعة لحلف “الناتو”، قرارًا بإنشاء “جيوش سرية”، لمواجهة التهديد الأكبر، الاتحاد السوفيتي والشيوعية، وإبعادهما خاصة عن أوروبا وكل الدول الأعضاء في الحلف، ومنع الأحزاب الشيوعية الواقعة تحت التأثير السوفيتي أو الروسي، عن طريق وسائل غير عادية / غير قانونية، من الاستيلاء على السلطات في تلك البلدان. وفي هذا الإطار، تولّت المخابرات الأميركية والبريطانية تأسيس قوات مسلحة وأخرى مدنية، وتدريبَها على طرق “الحرب غير النظامية” وتهيئتَها لمهمة تشخيص الشيوعيين والتحضير لحرب عصابات ضد القوات السوفيتية التي كان الناتو يحسب أنها ستغزو أوروبا أو الدول الأعضاء الأخرى.
وتكشف الوثائق أن جيوش الناتو السرية هذه كانت موجودة طوال حقبة الحرب الباردة في 16 دولة عضو بالحلف، بينها تركيا واليونان وإسبانيا والبرتغال والدانمارك والنرويج، بالإضافة إلى أربع دول محايدة كالسويد وسويسرا. واللافت أن هذه الجيوش حملت أسماء مشفرة، وفق البلد الذي عملت فيه، غير أن الاسم الأصلي لها كان “Stay-Behind”، بمعنى “البقاء في الخطوط الخلفية للعدو لتخريبه من الداخل”. فقد سمي جيش الناتو السري في اليونان (Sheep Skin)، وبلجيكا (SDRA-8)، وهولندا (Command)، وألمانيا الغربية (Gehne)، والنمسا (Schwert)، وفرنسا (Rose de Vent)، وإيطاليا (Gladio)، وإسبانيا (GAL) وبريطانيا (Secret British Network).
ولا بد من التأكيد على أن خطورة هذه الجيوش كانت تكمن في أن هذه الخلايا لم يكن ولاؤها للدولة العضو وإنما كان لقيادة حلف الناتو المسيَّر أساسًا من واشنطن ولندن ولمصالحه وإستراتيجيته، الأمر الذي يشكّل مشكلة حقيقية إذا تعارضت مصالح وإستراتيجيات الدول المستضيفة لها وتلك التي يتوخاها الناتو.
ولما لم يحصل أي غزو بين المعسكر الغربي والشرقي بقيادة روسيا، اتخذ حلف الناتو قرارًا بإلغاء أو تصفية هذه الجيوش السرية اعتبارًا من نهايات الحرب الباردة (1947 – 1991). وتحققت عملية تصفية هذه الجيوش في صمت تام وهدوء كامل في معظم الدول الغربية ما عدا إيطاليا، حيث قاومت الشبكة المعروفة هناك باسمها المشفر “غلاديو” (السيف)، وانكشف أمرها أخيرًا انكشافًا مدويًّا اطلع عليه كل العالم.
انكشاف تنظيم غلاديو الإيطالي
كانت إيطاليا شهدت 4.298 حادثة إرهابية ما بين 1969 – 1980، السنوات التي كانت الشيوعية مؤثرة فيها جدًا، وتبين فيما بعد أن معظم هذه الأحداث نفذها تنظيم غلاديو. وكان مقتل 85 شخصًا جراء انفجار قنبلة في محطة قطار “بولونيا” في آب / أغسطس 1980 من أكبر العمليات الإرهابية التي ارتكبها هذا التنظيم. وكان غلاديو من اختطف رئيس الوزراء “ألدو مورو” وقتله بإطلاق النار عليه، ثم صور للرأي العام أن الكتائب أو “الألوية الحمراء” من ارتكبت هذه الجريمة. وعندما انتهت الحاجة إلى هذا التنظيم، بعد انتهاء الحرب الباردة،كان من الضروري تصفيته، فقام القضاء الإيطالي المزود بصلاحيات كبيرة باجتثاثه من جذوره. لذلك خرج المدعي العام المزود بصلاحيات موسعة “أنطونيو دي بيترو”، وفتح قضية سميت “عملية الأيدي النظيفة”، أسفرت في المحطة الأخيرة عن تصفية هذه الشبكة كاملاً. لقد رفع المدعي العام دي بيترو شكوى جنائية ضد 7.417 شخصًا في إطار القضية، واستصدر من المحكمة قرارات اعتقال طالت رئيس الوزراء الأسبق “بتينو كراكسي” و12 وزيرًا سابقًا وعديدًا من البرلمانيين، ومجموعة كبيرة من العسكريين المتقاعدين والمدنيين.
لقد واصلت بعض هذه الشبكات وجودها وأنشطتها بعد قرار التصفية، وشكلت خلايا داخل جهاز الشرطة، والجيش، والمخابرات، والأجهزة الأخرى، ولعبت دوراً خطيراً في السياسة الداخلية، وتورطت في نشاطات تخريبية من قبيل إرهاب الدولة والمراقبة والدعاية السوداء والاغتيالات، بالوسائل الإعلامية والأسلحة والمتفجرات والمعدات العسكرية التي أخفتها في أماكن مختلفة من الغابات والمخابئ.
جذور الدولة العميقة في تركيا
وبحسب التصريحات التي أدلى بها المقدم “شنول أوزبك” المتقاعد من دائرة العمليات الخاصة في الجيش التركي لصحيفة “طرف” التركية عام 2010، فإن مجموعة من الضباط (16 ضابطًا) تم إرسالهم إلى الولايات المتحدة لتلقي تدريبات خاصة في 1948، أي قبل 4 سنوات من انضمام تركيا إلى حلف الناتو، بينهم الزعيم السياسي القومي “ألب أرسلان توركيش” الذي أسس فيما بعد حزب الحركة القومية. ومن ثم أسس “دانيش كارابلين” الذي كان ضمن المجموعة “دائرة العمليات الخاصة” ضمن قيادة القوات الخاصة بصورة سرية خارج القوانين واللوائح المحلية، وكانت تختار عناصرها وكوادرها من المدنيين، وتشكلها على طريقة “خلايا” لا يعرف أي عضوٍ منها الأعضاء الآخرين، وتدربها على حرب العصابات والشوارع.
ويؤكد شنول أوزبك أن دائرة العمليات الخاصة أُسّست من أجل التصدي للتقنيات والتكتيكات التي تستخدمها “الشيوعية” للانتشار في تركيا ومنع استيلاءها على السلطة. بمعنى أن المؤسسين لهذه الدائرة قالوا: بما أن الشيوعيين يلجأون إلى استخدام أساليب حرب العصابات والشوارع، فيجب استخدام الأساليب ذاتها للنجاح في منعهم من تحقيق أهدافهم. وانطلاقًا من هذه الرؤية أسسوا تنظيمًا سريًّا، وأخفوْا أسلحة تحت الأرض منذ أربعينات القرن الماضي لاستعمالها عند الحاجة. كما يشير أوزبك إلى أن أعمال تأسيس هذه الدائرة أو التنظيم انطلقت عام 1952 حيث انضمت تركيا رسميًا إلى الناتو في ظل حكومة عدنان مندريس.
ويجيب أوزبك على سؤال: “هل السلطات السياسية المدنية، أي الحكومات، كانت على علم بهذا الكيان؟” قائلاً: “إن حكومة مندريس آنذاك كانت لديها كل المعلومات الخاصة بهذا التنظيم. بل حكومته من أسندت إلى هذه الدائرة أو التنظيم مهمة تنظيم وتعبئة مجاهدي قبرص التركية. أي أن القوات المسلحة لا تطلب من الحكومة مهمة من هذا القبيل، بل الحكومة هي التي تكلفها بهذه المهمة”.
ويلفت الجنرال أوزبك إلى نقطة مهمة جدا لعلها تساعدنا على فهم تغير توجهات دائرة العمليات الخاصة بحسب ظروف الزمان والمكان حيث يقول: “هناك انطباع خاطئ لدى العامة في الطابَع التنظيمي أو الطريقة التنظيمية لهذه الدائرة. فهناك فَرْق جوهري بين الطريقة التنيظيمية للدائرة قبل انقلاب 12 سبتمبر/أيلول 1980 العسكري وتلك التي اتبعتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي إلى يومنا هذا. هذه الفترة شهدت ثورة “إسلامية” في إيران عام 1979، وحدثت بعدها بعام واحد انقلاب عسكري في تركيا، وتلت ذلك عاصفة التغيير في الاتحاد السوفيتي أيضًا. كل هذه التطورات أدت إلى تغير مفهوم التهديد لدائرة العمليات الخاصة. فقد زال تهديد الشيوعية ليحل محله تهديد جديد تحت مسمى “الرجعية الدينية” أو يمكن أن تكون الدائرة اعتبرتهما سابقًا تهديدين في آن واحد. وبحكم أنني عملت ضمن هذه الدائرة فترة من الزمن، فإني أتذكر أن الدائرة كانت تروج للطورانية أو القومية التركية المتطرفة المفصومة عن الإسلام والمتافيزقيا، بعد أن كانت تختار عناصرها من المجموعات القومية المحافظة / المتدينة المعارضة للفكرة الشيوعية”.
ويسلط المقدم المتقاعد أوزبك مزيدًا من الأضواء على التغير الحاصل في مفهوم التهديد لدائرة العمليات الخاصة قائلاً: “مفهوم القتال المسلح ضد الشيوعية و”الجيش الأحمر” الذي قام بصورة أساسية على مجموعات قومية محافظة ترك موضعه لمفهوم كفاح غير مسلح تقوده في الوقت الراهن المجموعات الطورانية القومية المتطرفة البعيدة عن الدين والإسلام. واليساريون القدماء والماركسيون الذين تحولوا إلى الخط الكمالي ومجموعة “دوغو برينتشاك” داخلون في هذا الصنف. فراحت العناصر القوية جسمًا ليأتي مكانها صحفيون وأرباب الكتاب والقلم وتنظيمات مدنية بقيادة زعماء كبار في السن.. وهذه الوتيرة التي تطرقنا إليها هي التي تقودنا إلى معرفة ما يسمى تنظيم أرجنكون”.
بينما يلفت الكاتب الصحفي “تَامَرْ كوركْمازْ” المعروف بباعه الطويل في قضايا “الدولة العميقة في تركيا” إلى أن بعض الباحثين يعتبرون عام 1952 بداية ظهور تنظيم كونتر غيريلا، انطلاقًا من أن دائرة العمليات الخاصة تم تأسيسها بعد دخول تركيا إلى الناتو في هذا التاريخ، لكنه يستبعد هذا الرأي ويزعم أن تاريخ العلاقة المباشرة بين تركيا والولايات المتحدة يبدأ من 11 يونيو/حزيران 1944، وأن هذا التاريخ هو بداية بناء خطّ أنقرة – واشنطن أو بداية تأسيس “الدولة العميقة” التابعة لواشنطن. وادعى أنها كانت تعتبر نفسها “آلية فوق كل أجهزة الدولة”، وأن كلاً من دائرة العمليات الخاصة ووحدة القوات الخاصة كانت تعمل وفق تعليماتها، واعتبر تنظيم أرجنكون جزءًا من هذه الدائرة.
جيش سري داخل الجيش الوطني
أما الكاتب الصحفي المتخصص في تاريخ السياسة التركية الحديث وشؤون الشرق الأوسط البروفيسور سَداتْ لاتِشينَرْ فيقول: “على الرغم من المزاعم القائلة بأن تنظيم “كونتر غيريلا” المؤسس في قبرص التركية، أي دائرة العمليات الخاصة، تمّت تصفيتها فيما بعد أو تم تطهيرها من عناصرها المدنية على الأقل، إلا أن عمليات “أرجنكون” في وقت لاحق أثبتت أن دورها أو مهمتها استمرت بشكل أو آخر”. وساند رأيه بما كتبه الباحث السويسري “دانييل غانسر” في كتابه الشهير “جيوش الناتو السرية – العملية غلاديو والإرهاب في أوروبا الغربية”، الذي كان في الأصل أطروحته لنيل الدكتوراه، وقضى أكثر من عشر سنوات في هذه الدراسة. لقد أفرد غانسر مساحة كبيرة لتركيا في هذا الكتاب وأكد “أن الجيش السري في تركيا يمتلك تاريخًا قمعيًّا سلطويًّا أكثر من كل جيوش الناتو السرية في أوروبا الغربية. فهذا الجيش المسمى كونتر غيريلا واصل أنشطته حتى بعد الكشف عن جيوش الناتو السرية في أوروبا الغربية”.
ثم أعطى لاتِشينَرْ معلومات حول تاريخ هذه الدائرة قائلاً: “لقد غيّر قائد هذه الدائرة آنذاك جهاد آيول اسمها من دائرة الحرب الخاصة إلى دائرة العمليات الخاصة بعد عام 1967. وهذه الدائرة المتخصصة في العمليات ضد القوات غير النظامية أصبحت الجيش السري داخل الجيش الوطني”.
وتابع لاتِشينَرْ أن رئاسة الأركان العامة أعلنت في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1990 أنها ستعيد النظر في مهمات دائرة الحرب الخاصة أو العمليات الخاصة كلما حدثت تغييرات في الإستراتيجيات العسكرية في إطار التطورات العالمية”، واستبدلت اسم هذه الدائرة فى عام 1994 باسم “وحدة القوات الخاصة”.
أمثلة على أنشطة الجيش السري المثيرة
الاعترافات المثيرة التي أدلى بها فريق أول متقاعد “صبري يِرْمي بَشْ أوغلو” لقناة “خبرترك” في 23 سبتمبر/ أيلول عام 2010، تشكل أفضل الأمثلة على أنشطة هذا الجيش السري. حيث قال: “من قواعد الحرب النفسية الإقدام على تخريب رموز كبيرة، والهجوم على قيم سامية، بطريقةٍ توجّه أصابع الاتهام إلى العدو، وذلك لتعزيز مقاومة الشعب وصموده أمامه. فمثلاً يمكن حرق جامع ومسجد بهذا الغرض.. لقد بادرنا إلى حرق جامع في قبرص التركية مثلاً”. وعندما سأل مراسل القناة مندهشًا إن كانوا قد حرقوا مسجدًا فعلاً، حاول الجنرال تغيير الموضوع، زاعمًا أنه كان يضرب مثالاً.
لكن نحن نرى تطبيق ما قاله الجنرال يِرْمي بَشْ أوغلو، الذي كان ضمن مجموعة الضباط المرسلين إلى الولايات المتحدة لتلقي تدريبات خاصة، على أرض الواقع، فيما يسمى بأحداث 6 – 7 سبتمبر/أيلول 1955″ في تركيا. إذ أدلى باعترافات رهيبة فيما يتعلق بأساليب الحرب النفسية التي اتبعتها دائرة الحرب الخاصة / العمليات الخاصة، في لقاء أجري معه عام 1991، حيث أكد قائلاً: “أحداث بوغروم إسطنبول أو أعمال شغب إسطنبول في السادس والسابع من سبتمبر/ أيلول من عام 1955، (والتي استهدفت الأقلية اليونانية)، كانت من تدبير قوات العمليات الخاصة.. إنها كانت أعمالاً منظّمة رائعة مدروسة جيدًا، وحققت أهدافها المرجوة منها فعلاً. أسألكم: ألم يكن هذا عملاً منظمًا رائعًا؟!”.
أما تفصيل الحادثة: كانت مجموعة عسكرية من دائرة الحرب / العمليات الخاصة دبرت أعمال شغب في إسطنبول، عقب شيوع أنباء تفيد تعرّض القنصلية التركية في مدينة “سالونيك” شمال اليونان، والبيت الذي ولد فيه مؤسس الجمهورية التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك للقصف. لكن تبين فيما بعد أن القنبلة زرعت من قبل حارس تركي في القنصلية، واعترف بعد إلقاء القبض عليه في وقت لاحق بتحريضه على عمل ذلك. لكن الصحافة التركية نقلت لقرائها الأخبار الخاصة بشائعة قصف بيت أتاتورك، متغاضية عن اعتقال الحارس، ملمحة إلى أن اليونانيين قد فجروا القنبلة وقصفوا القنصلية وبيت أتاتورك.
لقد أدّت هذه الشائعات إلى هجوم مجموعة من المشاغبين الأتراك الموجَّهين (أي عناصر دائرة الحرب / العمليات الخاصة) على المجتمع اليوناني في إسطنبول، وقد استمرت الاعتداءات لمدة تسع ساعات، مسفرة عن مقتل عدد من الأشخاص نتيجة الضرب والحرق، إضافة إلى تضرر أحياءٍ ومنازل ومحلات تابعة لليهود والأرمن. وزعم كتاب يونانيون كتبوا عن الواقعة أن المقابر (اليونانية) دنّست، والكنائس نهبت، وقتل نحو 12 شخصًا واغتصبت مئات النساء، وحرقت بطريركية القسطنطينية المسكونية مركز الكنيسة الأرثوذكسية، والعديد من المنازل والمشاغل والمصالح التي يملكها يونانيون، على حد زعمهم.
تسببت هذه الأحداث، التي تزامنت مع مفاوضات جزيرة قبرص، في تسارع وتيرة هجرة اليونانيين من تركيا، وعلى وجه الخصوص من إسطنبول؛ إذ انخفض عدد السكان اليونانيين في تركيا من 119.822 شخصًا في عام 1927 إلى حوالي 7.000 في عام 1978. وانخفض عدد السكان اليونانيين في إسطنبول فقط من 65.108 إلى 49.081 شخصًا بين الأعوام 1955 و1960. وتكشف المعطيات التي نشرتها وزارة الخارجية التركية عام 2008 أنّ العدد الحالي من المواطنين الأتراك من أصل يوناني يتراوح ما بين 3.000-4.000.
ويقول الجنرال يِرْمي بَشْ أوغلو عن هذه الأحداث: “إنها كانت من تدبير قوات الحرب النفسية.. إنها كانت أعمالاً منظّمة رائعة مدروسة جيدًا، وحققت أهدافها!”.
فما هي هذه الأهداف التي حققتها تلك الأحداث يا ترى؟ فعلى الرغم من الادعاء أن الأحداث كانت تصب في حمل اليونانيين والأرمن واليهود الذين كانوا يسيطرون على رأسمال إسطنبول على المغادرة من تركيا إلى اليونان وإسرائيل وأرمينيا، ليكون رجال الأعمال الأتراك المسيطرين على السوق وعالم الأعمال، إلا أن هذه الهجرة تسببت في زيادة سكان إسرائيل الوليدة وقبرص اليونانية المختلف فيها، وأصبحت هناك معادلة بين الفلسطينيين والإسرائيليين وأتراك قبرص ويونانها، كما ضعفت الأحداث يد تركيا في مفاوضات جزيرة قبرص في المحافل الدولية. فضلاً عن كل ذلك فإنها قضت على “الطابَع الفسيفسائي” للمجتمع التركي بطوائفه وملله الأخرى كالأرمن واليهود واليونان.
ومن اللافت أن الجنرال يِرْمي بَشْ أوغلو ارتبط اسمه بـ”الدولة العميقة” التي كانت تسمى آنذاك بـ”تنظيم غلاديو التركي”، وأحيل إلى التقاعد عام 1991 لاحتمالية تورطه في محاولة اغتيال رئيس تركيا الأسبق طرغوت أوزال.
الجيش السري والانقلابات العسكرية في تركيا
وجدير بالتنويه إلى أن عديدًا من الجنرالات الذين عملوا ضمن دائرة الحرب / العمليات الخاصة شاركوا في أول انقلاب عسكري شهدته الجمهورية التركية في عام 1960 تمخض عن قتل رئيس الوزراء الأسبق عدنان مندريس شنقًا، وذلك على خلفية حرب إعلامية اتهمته بالسعي إلى إحياء “الرجعية الدينية”، استنادًا إلى تحويله الأذان من اللغة التركية إلى أصلها العربي، وزيارته مع بعض وزراءه للعلامة بديع الزمان سعيد النورسي.
ولا بد أن نشير هنا أيضًا بشكل مقتضب إلى أحداث الشغب والفوضى وعمليات القتل والاغتيال التي جرت بين اليساريين واليمينين بدءًا من نهايات سبعينات القرن المنصرم، والتي مهّدت الطريق للانقلاب العسكري الدموي الذي قاده الجنرال كنعان أفرين في 12 سبتمبر/أيلول 1980، وأضفت “الشرعية” عليه. فقد ثبت أن أجهزة الشرطة كانت عثرت على أسلحة بيد اليمينيين وأسلحة أخرى بحوزة اليساريين، لكن الأرقام التسلسلية لها كانت تشير إلى أنها خرجت من يد واحدة. وكذلك الحال بالنسبة للصراع الدائر بين تنظيمي حزب الله الإسلامي “التركي” وحزب العمال الكردستاني الاشتراكي اللنيني الماوي. ففي الخامس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2000، داهمت الشرطة منزلاً مؤلفًا من طابقين في بلدة “جزرة” التابعة لمدينة شرناق، والتي ينتشر فيها حزب الله بكثرة. كان المنزل المملوك لأحد بايعي الفواكه يبدو عاديًا غير مثير للشكوك، ولم تصادف الشرطة أي أداة جريمة على الرغم من تفتيشها للمنزل جيدًا. غير أن وحدة الاستخبارات في إسطنبول كانت تصرّ على أن المنزل مخزن للأسلحة، لتقوم الشرطة أخيرًا بكسر الخرسانة الموجودة أسفل معرض البطيخ في الطابق الأرضي، عندها تبينت أن المعلومات التي حصلت عليها وحدة الاستخبارات كانت صحيحة، إذ أسفرت عملية التفتيش عن العثور على 99 بندقية طويلة المدى كانت مُخزَّنة ومصفّفة على طريقة “لائحة القوات الخاصة”. وبعد أيام من تنظيف الأسلحة التي كانت مخزَّنة على طريقة دائرة القوات الخاصة بحيث لا يستطيع المدنيون القيام بها، أرسلتها شرطة شرناق إلى المعامل، وكانت النتيجة صادمة ومذهلة، حيث تبين أن الأسلحة المصادَرة تابعة لحزب الله “الإسلامي” واستخدمت في العمليات الإرهابية أو جنايات مجهولة الفاعل التي ارتكبها حزب العمال الكردستاني “الماركسي الاشتراكي”! فضلاً عن ذلك، فإن سجل الجرد لبعض هذه الأسلحة كان يعود لقوات درك مدينة شرناق، مما اعتبره كثير ممن كتبوا في هذا المجال دليلاً على أن التنظيمين من صنع دائرة الحرب / القوات الخاصة أو يقعان تحت سيطرته على أقل تقدير.
آلية غير ديمقراطية فوق الحكومة وكل المؤسسات
وبناءً على ما سقناه من آراء الباحثين في هذا المجال، ومعطيات أخرى لم نذكرها لضيق حجم هذا الملف، فإننا يمكن أن ننتهي إلى: أن حلف الناتو شكّل جيوشًا سرية في أوروبا الغربية والدول الأعضاء في ظروف فترة الحرب الباردة، بغضّ النظر عن ضرورتها أو قانونيتها، لمواجهة خطر الشيوعية والاتحاد السوفيتي، ولما زال هذا الخطر اتخذ القرار بتصفيتها أو ضمّها إلى المؤسسات الرسمية الأخرى بصورة تدريجية. لكن الجيش السري في تركيا المسمى “كونتر غيريلا” الذي تشكل ضمن دائرة الحرب / العمليات الخاصة، يبدو أنه لم يرضَ بفقد “القوة” أو “الموقع” الذي أحرزه بعد انتهاء الحرب الباردة أيضًا، وصنع لنفسه مهمة جديدة تحت مسمى “حماية النظام”، والحفاظ على “علمانية الدولة”. ومنذ ذلك الحين تكوّن في تركيا مجالان متوازيان – بالتعبير الرائج في هذه الأيام – لممارسة السياسة: سياسة ظاهرة قانونية وسياسة باطنة غير قانونية. وهذا الكيان الذي أطلق عليه فيما بعد “الدولة العميقة” أو “الكيان العميق” مارس تلك السياسة الباطنة غير القانونية، واعتبر نفسه فوق كل سلطات الدولة ومؤسساتها، ورأى في نفسه حق التدخُّل في السياسة الظاهرة القانونية بأساليب خارجة عن قواعد اللعبة الديمقراطية. وتغير لون هذا الكيان وتوجهه تبعًا للمفهوم السائد والرائج، فنرى أنه على الرغم من أنه تولد في الحاضنة الأطلسية إلا أنه وجد لنفسه حاضنة جديدة بعد قرار الناتو بتصفية جيوشه السرية في العالم وهي: المعسكر الشرقي أو الروسي. وهذا ما أشار إليه المقدم شنول أوزبك بقوله: “هناك فَرْق جوهري بين الطريقة التنيظيمية للدائرة قبل انقلاب 12 سبتمبر/أيلول 1980 العسكري وتلك التي اتبعتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي إلى يومنا هذا… التطورات أدت إلى تغير مفهوم التهديد… عندما زال تهديد الشيوعية حل محله تهديد جديد تحت مسمى “الرجعية الدينية” لتبدأ الدائرة في ترويج الفكرة الطورانية أو القومية التركية المفصومة عن الإسلام والمتافيزقيا، بعد أن كانت تختار عناصرها من المجموعات القومية المحافظة”. ولذلك نرى أن كثيرًا ممّن عرفوا ماركسيين اشتراكيين شيوعيين ظهروا تحت مسمى “أرجنكون” بعد أن ارتدوا عباءة “الكمالية”، وجعلوها “مقدسة” لا يمكن المساس بها أو تغييرها أو إضافة شيء جديد عليها، ونصبوا أنفسهم “حماة النظام”. وأبرز هؤلاء القادة الماركسيين القدماء زعيم حزب العمال الذي تغير اسمه إلى حزب الوطن في هذه الأيام دوغو برينتشاك الذي خطف الأضواء على نفسه بمواقفه وتوجهاته المتلونة المتقلبة، والذي أصبح بفضل ذلك شريك أو حليف حكومة أردوغان في الوقت الراهن.
نرى أن الدولة العميقة ظهرت بعد الحرب الباردة، في تسعينات القرن المنصرم خاصة، باسم جديد “أرجنكون”، وبمهمة جديدة هي الحفاظ على “الحالة الراهنة” أو “الوضع الراهن” والحيلولة دون أي تغيير وتطور يتطلبه العصر تحت مسمى “حماية العلمانية”. وهذا كان يعني أن زمرة حاكمة تبلغ نسبتها 3 أو 5 بالمئة ستحتكر ثروات تركيا وستعيش في سعادة ورفاهية وترف، أما الغالبية المتبقية ستكون همها الوحيد هو كسب الرزق والحصول على لقمة العيش. وستُبقى على تركيا الصغيرة المنطوية على نفسها، المنغلقة على العالم، وستمنعها من التحول إلى “قوة ناعمة” بكل مكوناتها الحضارية والثقافية والفكرية والسياسية تكون ملهمًا لدول المنطقة وتندمج معها لتستشرف جميعًا آفاق الألفية الثالثة، وذلك حتى تتفرد في حكم وقيادة هذا البلد صاحب الموقع الإستراتيجي والتراكم التاريخي العريق.
وفي الملف المقبل سنتطرق إلى أنشطة أرجنكون القديمة والحالية في محاولة لفهم الواقع التركي الراهن.