علي يورتاجول
نشهد أولى المفاجآت داخل الحافلة أثناء سيرنا على الطريق السريع الواصل بين مدينتي طرابزون وريزا المطلتين على البحر الأسود في الشمال الشرقي من تركيا. إذ نغوص في اللوحة الفنية التي تتشكل أمامنا عبر الطبيعة الخضراء الخلابة الممتدة بطول السواحل.. والأنهار المتدفقة من أعلى الجبال الشاهقة.. ونشعر للوهلة الأولى وكأن المروج الإنجليزية الخضراء تتجسد أمامنا.
نقطع مسافات ومسافات، والمروج الخضراء تصاحبنا في الطريق، وتغطي الجبال والهضاب المطلة على الطريق. ولكن لم يمض وقت طويل حتى أدركنا أنها حقول الشاي. تنساب تلك الحقول في انسجام أمام البيوت تثير مشاعر الغيرة لدى خبراء المروج والأعشاب الإنجليزية.
كلما اتجهنا نحو نهر العاصفة “فيرتينا” الواقع في بلدة تشاملي هيمشين، كلما تغير المنظر أمامنا. نرى النهر يتدفق نحو البحر، وكأنه ينبع من أعماق الجبال، ويصب في غياهب البحر وظلماته. يستمر الطريق على شفا الجرف المنحصر بين النهر والجبل.
الهضاب مهددة بالدمار…
اعتاد أهالي المنطقة والأماكن القريبة من الساحل، والتي تتمتع بشتاء دافئ معتدل، مثل بلدة تشاملي هيمشين، النزول إلى حظائر الحيوانات في نهاية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، لرعاية حيواناتهم التي تتغذى على الأعشاب والأعلاف المجففة خلال الفترة بين شهري ديسمبر/ كانون الأول وفبراير/ شباط من كل عام، من أجل الخروج في أول رحلة خارجية خلال شهر أبريل/ نيسان، إلى أولى المناطق التي ينحصر عنها الجليد، وتبدأ الأعشاب تخضر بها مرة أخرى، على ارتفاع ألف متر.
أمَّا في شهر مايو/ آيار ويونيو/ حزيران من كل عام فيحرص الأهالي والقرويون على الذهاب إلى المراعي والقرى الموجودة في المناطق الوسطى والعليا. وفي شهر يوليو/ تموز وأغسطس/ آب، تعود الهضاب والمروج إلى طبيعتها الخضراء، وتزدهر مرة أخرى.
وهنا يمكننا أن نستخدم مصطلح “الاستيطان” للتعبير عن النظام الحياتي في تلك البقعة الخضراء. ففي كل عام تأتي القبائل التركمانية إلى هذا المكان الذي تطلق عليه “الوطن”، وتنصب فيه الخيام. بالإضافة إلى البيوت وحظائر الحيوانات المشيدة بالحجارة، والتي تحير العقول.
حتى وإن كان من الصعب التفريق بين البيوت والحظائر من الوهلة الأولى، إلا أنه مع إمعانن النظر سيبدو الأمر جليًا. فالبيوت والمنازل تختلف عن الحظائر، لأنها بنيت باستخدام الصخور الكبيرة وتتميز بأسقفها المدعمة بالصاج في طول الإنسان الطبيعي.
شيد كل شيء هنا من أجل قضاء بعض الأسابيع، وتركه مرة أخرى بعد فترة قصيرة، وكأنهم يحصلون على إجازة قصيرة من الطبيعة والثلوج. وما أن تحل نهاية شهر أغسطس/ آب ويطل شهر سبتمبر/ أيلول، حتى تبدأ القبائل في النزول مرة أخرى إلى الوادي، تاركة خلفها الهضاب والمرتفعات، وفي أحسن الأحوال قد يتأخر نزول الحيوانات إلى شهر ديسمبر/ كانون الأول.
وبالرغم من تقدم وسائل المواصلات، وازدهار الحركة السياحية التي أثرت في الهيكل الاجتماعي للمنطقة وكذلك نموها الاقتصادي، إلا أننا يمكننا أن نلاحظ وبقوة استمرار نشاط الرعي المتوارث من الأجداد في المنطقة.
لايزال الرعي من أهم مصادر الرزق الرئيسية لدى أهالي المنطقة، بالرغم من العوائق التكوينية والطبوغرافية لها، فضلًا عن إهمال الدولة إياهم. كل هذا، وزد عليه أن تلك المرتفعات والهضاب أصبحت مهددة بالدمار. تبدو تلك التلال والمرتفعات وكأنها مجرد معالم جغرافية عادية، إلا أنها في الحقيقة تمثل مصدرا حقيقيا للحياة عند القبائل المعتمدة على الرعي اعتمادًا رئيسيا. فالحركة السياحية إلى تلك المنطقة لا يمكن أن ترى النور في منأى عن القبائل وأهالي المنطقة ممن يعتمدون على الرعي وتربية الحيوانات. فالسياحة هنا مهددة بالزوال في حالة القضاء على الرعي.
بعض مناطق جبال كاتشكار تشبه جبال الألب في صعوبة الصعود ووعورتها…
قبل عقدين من الزمان كانت جبال كاتشكار التركية مركزًا لالتقاط الصور للأفواج السياحية القادمة من الدول الأوروبية وإسرائيل. حتى وإن كانت منطقة “فيرتشينيك” الواقعة في منطقة جبال كاتشكار، بالوعورة نفسها التي تتميز بها جبال الألب في أوروبا، إلا أن منحدراتها الشمالية لا تختلف عن جبال الألب.
تعتبر قمة “أرتفين”، الواقعة في الجهة الجنوبية من جبال كاتشكار، من أكثر المناطق جذبًا للوفود السياحية والزوار الأجانب، فضلًا عن الإقبال الملحوظ من قبل الزوار المحليين. بينما تعتبر منطقة “ديلبير دوزو” التي ترتفع عن سطح البحر بنحو 2800 متر، من أفضل الأماكن وأسهلها من أجل إقامة معسكرات التخييم ورحلات السفاري.
تتميز الجهة الجنوبية من المنطقة بانبساطها إذ لا يحتاج الفرد لخبرة مسبقة في تسلق الجبال، فضلًا عن عدم وجود سحب ضبابية تخفض معدلات الرؤية. لكن قد تحتاجون مرشدا، لتجنب الحوادث أو الوقوف في منتصف الطريق، فمن عادوا من منتصف الطريق ليسوا قليلين.
وهنا يمكننا أن نرى الزوار المحليين الأتراك قادمين من أقصى الغرب، من مدن مثل إسطنبول وإزمير، من شباب الجامعات فضلًا عن الكبار والمسنين لرؤية جبال كاتشكار الواقعة في المنطقة الشرقية من البحر الأسود.
جبال كاتشكار أكثر جاذبية من جبال الألب
تعتبر المقارنة بين النشاط السياحي في جبال الألب الواقعة في فرنسا وسويسرا وإيطاليا بجبال كاتشكار واعتبارها وسيلة للتنبؤ بالحركة السياحية في المنطقة مقياسًا مثيرًا.
فالحياة البرية وثقافة الرعي على منحدرات جبال الألب لا تختلف كثيرًا عن نظيرتها في جبال كاتشكار في تركيا، فالحياة البرية في جبال الألب تحظى باهتمام ورعاية من الدولة والمؤسسات الحكومية، على الرغم من الشروط الصعبة هناك.
فقد تمكنت سويسرا من تحويل أوديتها إلى مراكز كبيرة للإنتاج، إلا أنه عند العودة بالذاكرة للوراء لما قبل 100 عام، نجد أن مرتفعات داووس، وأروسا، ولانزرهييدا أحد المراكز المهمة والرئيسية للنشاط السياحي في المنطقة.
لكن يجب أن تكونوا على ثقة بأن جبال كاتشكار، تتمتع بطبيعة خلابة، وجمال جبلي، وحياة برية منتعشة، بالإضافة إلى غاباتها التي ترتفع إلى ألفي متر تقريبًا، تشكل لوحة فنية غاية في الجمال، تجعل المنطقة أكثر جاذبية من جبال الألب الشهيرة.
رويدًا رويدًا أصبحت المنطقة مغناطيسا لجذب السياحة والباحثين عن جولات في الجبال، ومحبي الرحلات الاستكشافية، وكذلك الباحثين عن رطوبة أودية وجبال كاتشكار وخضرتها الطبيعية.
تعتبر هضاب “يوكاري كافرون” من أكبر الهضاب والمرتفعات في المنطقة. وقبل عقدين من الزمن لم تكن الطرق قد شقت في المنطقة، لذلك فكانت الرحلات تنطلق من بلدة “آيدار” مشيًا على الأقدام.
تضم منطقة “آيدار” أول مكان يمكن أن يطلق عليه فندقًا. بالإضافة إلى” مقهى” قديم يقدم لزبائنه الشاي واللبن الرائب “الآيران”. أمَّا الآن فقد أصبحت المنطقة تضم عددًا من الفنادق والنُزل، المزخرفة بزخارف تتناسب مع طبيعة المنطقة، والتي تتمتع بأسقف لا تصل ارتفاعاتها إلى مترين تقريبًا. وتعتبر تلك النُزل محطة جيدة لمتسلقي الجبال والباحثين عن استراحة قصيرة، وإن لم تكن على قدر عالٍ من الرفاهية. وأصبح الأمر سهلًا بعد شق الطرق، التي سهلت الصعود باستخدام الحافلات. إلا أنها تدريجيًا بدأت تتحول إلى مركز سياحي تتم إدارته بطريقة سيئة.
هضاب آيدار لم تعد كما كانت وأصبحت كالقرية الصغيرة
يومًا بعد يوم، أصبحت منطقة آيدار أحد المراكز السياحية للباحثين عن الهواء الطلق هربا من تلوث المدن، بجانب مكانتها كمركزٍ لتسلق الجبال. لم تعد المنطقة كبيرة كما كنَّا نشعر بها، لكن تحولت إلى قرية صغيرة. يبلغ ارتفاع تلك المنطقة نحو 1000 متر، وتتميز بجاذبيتها القوية للشباب. وتتميز بلدة تشاملي هيمشين برياضة ركوب الأمواج النهرية، فبالرغم من أن هذه الرياضة لا تمارس في المنابع المائية سريعة التدفق، إلا أن الصعود إلى مصادرها يعتبر مسألة وقت لا أكثر. ولكن لا تندهشوا إذا رأيتم الشباب الذين يحاولون اليوم النزول في المياه الضحلة، ينزلون في المياه العميقة لنهر العاصفة “فيرتينا” بقواربهم الصغيرة بعد بضع سنوات.
السياحة العربية تستكشف المرتفعات
يكتظ مطار طرابزون بأعداد كبيرة من الأفواج السياحية العربية. ويبدوا ذلك جليًا عندما نرى مكاتب ووكالات استئجار السيارات الخاصة، بالإضافة إلى اللوحات الإعلانية الضخمة المكتوبة باللغة العربية. بينما تكون اللوحات المكتوبة باللغة الإنجليزية بأحجام أصغر.
كما نجد السماسرة ومكاتب العقارات يضعون طاولاتهم في كل مكان، وعند الحديث معهم، ندرك على الفور من لهجتهم أنهم يعرفون اللغة العربية، وفي أغلب الأحيان يكونون من القبائل التركمانية السورية، والذي يرد عليك بلسان نصفه عربي ونصفه تركي موضحًا أن سعر الوحدة السكنية بمساحة 100 متر، يبلغ 200 ألف دولار أمريكي.
وبالتأكيد كل الزبائن والمشترين يكونون من العرب. وتشير التقارير الاقتصادية إلى أن مبيعات الوحدات السكنية التي تشرف عليها مؤسسة بناء المجمعات السكنية TOKİ التابعة لرئاسة الوزراء التركية على طريق مدينة ريزا، والتي لم تنته مراحل إنشائها أو التي اكتملت بالفعل، تحقق أرقامًا جيدة.
يمكن أن نجد العائلات العربية بكثرة في بلدتي تشاملي هيمشين وآيدار. تنتشر العديد من الشائعات حول ثرائهم، لكن الحقيقة ليست كذلك. فأصحاب الفنادق والقائمون عليها يشتكون من أن العائلات العربية تقيم في غرفهم الفندقية، بصحبة 4-5 أطفال، حتى أنهم يحالون التحايل لإظهار الأطفال أقل عمرًا، لدفع أموال أقل، أو التهرب من حجز غرفة أخرى للأطفال.
لكن يمكننا أن نلاحظ أن الأفواج السياحية العربية القادمة إلى المنطقة، لا يروق لها الطقس، ودرجات الحرارة التي تنخفض إلى 5 درجات مئوية.
من البيوت المتواضعة إلى القصور الفارهة..
كما يمكننا أن نرى مجموعة من البيوت على منحدرات الجبال، والتي تظهر وكأنها أعشاش للنسور والصقور، وتتعلق بها الأعين لساعات في محاولة الكشف عن كيفية بنائها، أو حتى هوية ساكنيها، تبدو وكأنها خيالية، لا تصدقها عين ولا يستوعبها عقل، وهي كالقلاع التاريخية الخارجة من الأساطير.
لاتتميز تلك البيوت بموقعها ومكانها المثير فقط، وإنما أيضًا بطرازها المعماري الفريد فضلا عن الأعمال الخشبية الرائعة التي تتميز بها منطقة البحر الأسود من مشرقها إلى مغربها.
ويصعب غض الطرف عن القواسم المشتركة الموجودة في الطابع الهندسي لتلك البيوت البسيطة بالإضافة إلى القصور الفارهة. يربط البيوت بالوادي مجموعة من الأسلاك والكابلات المعدنية التي تمتد لمئات الأمتار، وتنقل البضائع والأحمال بين البيوت والوادي بجميع أنواعها. وتلعب تلك الأسلاك دور “التليفريك” الذي يمكننا أن نراه في الأماكن السياحية.
وبالرغم من شق الطرق الجديدة إلا أن عمليات الصعود والنزول من المرتفعات لاتزال شديدة الصعوبة. لم تزد فائدة تلك الطرق الجديدة عن تقصير المسافة فقط. كما تتميز المنطقة بمناحل العسل التي تم تصميمها بطراز يتلاءم مع الطبيعة المحيطة بها.
وتعتبر خلايا النحل المعلقة على أغصان الأشجار العالية التي لا تستطيع الدببة الصعود إليها، والمعروفة باسم “خلايا النحل السوداء” (Karakovan)، من المعالم القديمة المميزة للمنطقة.
وعند الخروج في أي يوم مشمس، يمكن رؤية سحابة من الضباب تتصاعد من الوادي وكأنها دخان يتصاعد من فوهة مدخنة أحد المنازل.
لا بد من الانتباه لهواء البحر الأسود!
يعمل البحر الأسود على التخفيف من حدة الرياح الباردة الجافة القادمة من الاتجاهات الشمالية، ثم يسمح لها بالمرور إلى أودية جبال كاتشكار. مما يجعل الأعشاب رطبة باستمرار، ويجعل قطرات الندى على أوراق الأشجار والتي تتسرب شيئًا فشيئًا حتى تصل إلى التربة لتغذيتها.
يبلغ تباين درجات الحرارة بين فصلي الصيف والشتاء في المنطقة حوالي 10 درجات مئوية. فتتحول الطرق والأودية إلى كتل ثلجية بعد شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام. لا يمكن تجاهل حجم تلك الأمطار الثلجية القوية، والتي قد تخلف طبقات من الجليد لا تنصهر أو تذوب حتى شهر يوليو/ تموز التالي.
وتتميز مدينة أرضروم التركية خلال فصل الشتاء بثلوجها الجافة، التي تشبه حباتها الغبار، المناسبة بالدرجة الأولى للألعاب الشتوية المختلفة؛ فمن المعروف أن منطقة البحر الأسود تشهد تساقطا غزيزا للأمطار. إلا أنها لا تعتبر المصدر الوحيد للمياه بالنسبة للنباتات والغطاء النباتي الأخضر بالمنطقة وإنما أيضًا الثلوج الذائبة على منحدارت جبال كاتشكار.
وعند الخروج في أي يوم مشمس، يمكن رؤية سحابة من الضباب تتصاعد من الوادي وكأنها دخان يتصاعد من فوهة مدخنة أحد المنازل. لا يستمر هذا المشهد طويلا، إذ يبدأ في التحول تدريجيًا إلى سحب من الضباب تغطي المنطقة، تتكون نتيجة الرياح الرطبة. ويتميز الجو بدرجة عالية من الرطوبة تجعل المارة يشعرون بنعومة بشرتهم بالإضافة إلى الإحساس بوجود قطرات من المياه والندى على الشعر، وكأن السماء تمطر.