سؤال: ما المقوّمات التي لا بدّ من استحضارها والرجوع إليها عند حلّ المشاكل الضخمة التي تبدو عصيّة على الحلّ؟
الجواب: من غير المتصوَّر من إنسانٍ مات قلبُه وخمدتْ مشاعرُه وصارت علاقتُه بربه صوريّةً أن يتغلّب على ما يواجهه من مشكلات ضخمة؛ فحلُّ المشكلات يتطلَّبُ من الإنسان أن يكون لديه عشقٌ وحماسٌ للوصول إلى غايةٍ مثاليّة، وأن يحرص على الوصول لهدفه بشوقٍ واشتياقٍ لا يعرفان السكون، وأن يمتلكَ عزيمةً تُؤهّله لمواصلة الكفاح ضدّ الظلم دون شعورٍ بيأسٍ أو قنوطٍ، ومهما تعرَّضَ للهزيمةِ مرارًا وتكرارًا فلا يتسلّل الوهنُ إلى قلبِهِ، بل يستوي وينهض مجدّدًا، ويستمرّ في طريقِهِ صامدًا ثابتًا وكأنَّ شيئًا لم يحدث، وبذلك يقدر على تجاوز الجبال التي يصعب اجتيازُها، ويحوّل الهزيمة التي مُني بها إلى نجاحاتٍ عظيمةٍ.
نقطة الالتقاء بين العشق والوفاء
وسيدنا آدم عليه السلام خيرُ قدوة لنا في هذا الأمر، فقد أودع الله تعالى في جيناته قابليةً للخطإ تتناسب مع درجة المقرَّبين، فلقد بدرت زلةٌ تُعتَبرُ في أفقِ صفيِّ الله آدم عليه السلامِ خطأً بالنظرِ إلى العلاقة بينه وبين ربه، يقول الله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾ (سُورَةُ طَهَ: 121/20)، ويقول أيضًا: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾ (سُورَةُ طَهَ: 115/20)، غير أن المهمّ هنا هو أن الإنسان بعد أن يقترفَ خطأً عليه أن يمنعَ اليأسَ والقنوطَ من التسلُّلِ إليه، وأن يتوجّه إلى ربه سبحانه وتعالى ويدعوه ألا يبتليه باقتراف مثل هذا الخطإ مرَّةً أخرى.
أجل، لقد فعل آدمُ عليه السلام ذلك، بل وردَ في الأثرِ أنه عليه السلام ظلّ بعد اقترافه هذا الخطأ يتضرَّعُ إلى الله ويتوسَّل إليه دون أن يرفع رأسه إلى السماء مدة أربعين سنة[1]، وهذا ما ينبغي أن يكون عليه حال المذنب، يجب أن ينقصمَ ظهرُهُ كالعصا، وأن يعترف بخطَئِهِ قائلًا: “كيف أعصيه وأنا أعرفه، وأعلم أنَّ كُلِّي منه، لِـمَ لَـمْ أفوِّضْ كلّ أمري إليه؟”، وبعد ذلك يتَّجِهُ إلى بابِ محبوبه الحقيقيّ، ويطلب منه السماح والمغفرة على ما اقترفه من تيميمِ وجهِه إلى ما سواه من الأغيار.
فلو اضطرمت نارُ العشق في صدر الإنسان، وغَلَّفَ العِشْقُ كلَّ كيانه، فلن يفكِّرَ أبدًا في الانصرافِ عن باب معشوقِهِ رغمَ ما يتعرَّض له من مشقّات وابتلاءات، فالعشقُ هو عنوانٌ للعلاقةِ بين الإنسانِ وربِّهِ جلَّ وعلا، واتصالِ قلبِهِ به سبحانه دائمًا، والتحرُّقِ عشقًا وشوقًا في سبيل وصالِهِ.
علاوة على أن الإنسان الذي اكتوى قلبُه بنار الوصال والعشق المتوَّج بالوفاء؛ سيستوعب رغم كلِّ شيء دقَّةَ الامتثال إلى الأمرِ، ويرجع خطوةً إلى الوراء ويقول: “اللهم لن أطلبَ منك القدوم إليك، لأنك لم تأمر بقبضِ روحي وطرحِها بين يديك، بل سأبقى إلى ذلك الحين أقومُ بمسؤولياتي نحوك بالخدمة في سبيلك”، وهذا هو أفقُ الالتقاء بين العشق والوفاء.
سبيل تحويل الهزيمة إلى نصر
والشجاعة أيضًا عاملٌ مهم للتغلُّبِ على المشكلات التي تبدو عصيّة على الحلّ؛ لأنها تعبر عن بُعدٍ مختلف للعشق، ولقد كان سيدنا مصعبُ بن عمير رضي الله عنه مثالًا لشجاعةٍ تحار لها الألباب؛ حَمَلَ اللِّوَاءَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَلَمَّا جَالَ الْمُسْلِمُونَ ثَبَتَ بِهِ مُصْعَبٌ فَأَقْبَلَ ابْنُ قَمِيئَةَ -وَهُوَ فَارِسٌ- فَضَرَبَ يَدَهُ الْيُمْنَى فَقَطَعَهَا وَمُصْعَبٌ يَقُولُ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 144/3)، وأخذ اللِّوَاءَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى، وَحَنَا عَلَيْهِ فَضَرَبَ يَدَهُ الْيُسْرَى فَقَطَعَهَا، فَحَنَا عَلَى اللِّوَاءِ وَضَمَّهُ بِعَضُدَيْهِ إِلَى صَدْرِهِ وَهُوَ يَقُولُ: “وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ“، ثُمَّ حَمَلَ عَلَيْهِ الثَّالِثَةَ بِالرُّمْحِ فَأَنْفَذَهُ وَانْدَقَّ الرُّمْحُ وَوَقَعَ مُصْعَبٌ وَسَقَطَ اللِّوَاءُ[2]، فلقد هَزمَ مصعبٌ الهزيمةَ، وحوَّلَ وجهَ الموتِ من عبوسٍ إلى ضاحك، وهكذا فلم تكن هناك أيُّ مشكلةٍ عصيّة على الحلّ أمام مثل هذا الشخص مثالِ الشجاعة النادرة.
أجل، لا جرم أن وجهَ الموتِ عبوسٌ، ولكنك إن تبسَّمْتَ له تبسَّمَ لك، زيادة على أن الله تعالى يتولَّى ردّ تلك الأمانة بنفسِهِ دون أن يعهد بها لأحدٍ من الوسطاء، ومن هذا المنطلق كان الأولياء العظام أمثال الشيخ الجيلاني وأبي الحسن الشاذلي يرجون الله ويتضرّعون إليه دائمًا بأن يتولى قبضَ أرواحهم بيديه.
ولقد كانت الشجاعة والجرأة من صميمِ الخصالِ النبويّة المحمّديّة، واذكر إن شئتَ على سبيل المثال ما تعرَّض له المسلمون من هزيمةٍ مؤقّتةٍ يوم أُحُدٍ، فالقائد صلى الله عليه وسلم كان مُصيبًا حقَّ الإصابة فيما أخذَ به من إستراتيجيّات؛ ولقد كان يرغبُ بدايةً في عدم الخروج من المدينة والبقاءِ للدفاع عنها، ثم نزل على رأيِ أصحابِه المفعمين بالحماس وأقرَّهم على الخروجِ إلى أُحُدٍ، كما أَمَرَ الرماةَ بأخْذِ مواقعهم الدقيقة على الجبل، إلى غير ذلك من الإستراتيجيات التي استخدمها في محلِّها فأضلّ الأعداءَ وأوقع بينهم، لكن لما نزل الرماةُ من فوق الجبل ومُنِيَ المسلمون بالهزيمة قال القرآن الكريم: ﴿إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 155/3)، ونستنتج من الآية أن بعضا من الصحابة المصطفين الذين كانوا حول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخطؤوا في الاجتهاد.
أجل، لم يكن بعضُ الصحابة رضي الله عنهم قد استوعبوا بعدُ دقَّةَ الامتثال للأمر يومَئذ، فمُنِيَتْ جحافلهم بهزيمةٍ مؤَقَّتةٍ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم حوّل تلك الهزيمة المؤقتة إلى نصرٍ مؤزر، إذ إن المشركين بقيادة أبي سفيان لَمَّا انْصَرَفوا عَنْ أُحُدٍ وَبَلَغُوا الرَّوْحَاءَ، قَالُوا: لَا مُحَمَّدًا قَتَلْتُمُوهُ، وَلَا الْكَوَاعِبَ أَرْدَفْتُمْ، وَبِئْسَ مَا صَنَعْتُمْ، ارْجِعُوا فَلَنَكرَّنَّ عَلَيْهِم فنستأصلنَّ بَقِيَّتهمْ -وأرادوا أن يرجعوا للقضاءِ الكاملِ على المسلمين- فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَدَبَ النَّاسَ فَانْتَدَبُوا حَتَّى بَلَغُوا حَمْرَاءَ الْأَسْدِ وَبِئْرَ أَبِي عِنَبَةَ، فلما رأى أبو سفيان المسلمين بصحيحهم وجريحهم من ورائه عدَلَ عن فكرته وفضّلَ العودة إلى مكّة خشيةَ الاشتباك والهزيمةِ أمام كتائب المسلمين، فقال هو وأصحابه: “لِنَرْجِعْ إلى أهلينا بالنصر الذي حقَّقْناه، ونُثْلِجْ صدورَهم”، ولم يجرُؤْ على مواجهة المسلمين كرة أخرى.
وهكذا حوّل الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابَتُه الفضلاءُ الهزيمةَ إلى نصرٍ من جديد، وذلك بشجاعتِهِم وإقدامهم وملاحقتِهم العدوّ رغمَ ما كانوا يُعانونه من جروحٍ وقروح، وأنزلَ الله تعالى قولَهُ: ﴿الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 172/3).
وما أشبه ما جرى في “حُنَين” بما حدث في “أُحُد”، فقد كانت هَوازن وثَقيف من أمهر القبائِلِ العربيّة رميًا بالسهامِ والنِّبَالِ، ولما دخل المسلمون وادي حنين رشقوهم بالنبال، فتصدَّعَت صفوف المسلمين، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يركض بغلته قِبل الكفار وهو يقول: “أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِبْ، أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ“، يقول سيدنا العباس رضي الله عنه: “وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع”، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أَيْ عَبَّاسُ نَادِ أَصْحَابَ السَّمُرَةِ“، قَالَ: فَوَاللَّهِ لَكَأَنَّمَا عَطَفْتُهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةَ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالُوا: “يَا لَبَّيْكَاهُ يَا لَبَّيْكَاهُ!”، فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَالْكُفَّارُ، وَالدَّعْوَةُ فِي الْأَنْصَارِ يَقُولُونَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، ثُمَّ قُصِرَتِ الدَّعْوَةُ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَقَالُوا: يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ، كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إِلَى قِتَالِهِمْ فَقَالَ: “هَذَا حِينُ حَمِيَ الْوَطِيسُ”، ثُمَّ أَخَذَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَصَيَاتٍ فَرَمَى بِهِنَّ فِي وُجُوهِ الْكُفَّارِ، ثُمَّ قَالَ: “انْهَزَمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ“، قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ رَمَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَصَيَاتِهِ، فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلًا، وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا”[3].
ومن ثمّ فمن الأهمية بمكان ألا يخنع المؤمنُ لليأس والقنوط عند مواجهة المشاكل والأزمات، وأن يحاول التغلّب عليها بشجاعة وجرأة، وألا يتخلى عن شدّه المعنوي الذي يجعله يقول: “لو تجلّت مشيئة الله لي فيمكنني بفضلِهِ وعنايتِهِ أن أُغيِّرَ مجرى الأرض”.
أجل، ما من مشكلةٍ يمكنها أن تقهر المؤمنَ إذا ما لاذ إلى حول الله وقوَّته وامتلأ قلبُه شجاعةً وجرأةً.
لا بدّ لِلعشق والشجاعة أن يخضعا لحماية العقل المشترك
إن المشاعر السامية كالعشق والاشتياق والشجاعة، وإن كانت مهمّة جدًّا في حل المشكلات الكبرى، إلا أنه يجب أن تُقام وتؤسّس على أرضيّة إستراتيجيّة وفقَ منطقٍ حقيقيّ وجادّ جدًّا، وتُستَعْمَلُ في مكانها المناسِبِ، وتُربط بمخطَّطٍ سليمٍ وقويٍّ، فأنتم تستطيعون بأنفاسكم المخلصة الدافئة المنبعثة من فؤادِكم أن تكونوا أصحاب جذبٍ معنويٍّ يستطيع أن يصهر ولو حتى الجبال الجليدية التي تعترضكم، غير أن هذا فحسب ليس أمرًا كافيًا في حلِّ المشكلات؛ فإلى جانبه يجب علينا أن نعرفَ الطرفَ الآخر معرفةً جيِّدَةً، وأن نضع في حسباننا القدرات والإمكانيات التي يمتلكها ونطوِّرَ خططًا وفقًا لذلك، وإلا فإن كلَّ مجهودِكم الذهني والفكريّ يُصبح سُدًى ويذهب هباءً منثورًا.
ولا سيما إن كان يحيط بكم أناس يجاهرون بالعداء والخصومة في صورة دوائر متداخلة متشابكة؛ فهذا يعني أنكم في مواجهة جبهةٍ معاديةٍ ضخمةٍ جدًّا، وإن كان لكلِّ جبهةٍ عدائيّةٍ حساباتها الشخصية الخطرة جدًّا ومخطَّطاتها الإباديّة ضدّكم، وكان بعض هؤلاء يتفق مع بعضهم، وقسمٌ من تلك المخططات يتواءم مع غيره فإنَّ هذا يستوجب أن تكونوا أكثر حذرًا، وأن تتصرَّفوا وتتحرّكوا بيقظةٍ وانتباهٍ أكبر؛ لأن دوائر العداء المتلاحمة التي تشكل فيما بينها صفًّا واحدًا قد تنزل على هامتكم كالمطرقة بشكل غير متوقع ودون أن تنتبهوا أنتم لذلك.
ومن هذه الناحية فإن العشق والحماس والشد المعنوي والشجاعة والجسارة لا بد وأن تخضع كلها لحماية وضمان المحاكمة العقلية مطلقًا، ويمكنكم أن تعتبروا هذا توازنًا يتطلّبُه البناء، ولنفرض أنكم أسَّستم بناءً على أرضٍ غير صلبة ولا ثابتة فإنَّ كلَّ شيءٍ سوف يتقوَّضُ وينهارُ في مواجهةِ أصغرِ صدعٍ أرضيٍّ قد يحدثُ، وسوف تُعانُون أنتم أيضًا تحت وطأة ما فعلتموه، وهكذا فإنه ينبغي لكم كي لا تضيع كلُّ هذه الجهود سدًى أن تَحْمُوا حماسَكم وتُؤمِّنوا نشاطَكم بالمنطِقِ والمحاكَمَةِ العقليّة، والأهمّ من ذلك بالعقل المشترك، فإن وجود أناسٍ يُناقِشُون القضايا والمشكلات مع بضعةِ أشخاص ويتشاورون حولها فيما بينهم أعلى وأرفعُ درجةً من وجود بضعة عباقرة يغيرون الجغرافية العالمية بمنطقهم ومحاكماتهم العقلية.
وإذا ما ربط الحقُّ تعالى عنايته وتوجهه إلى الناس بالاستشارة، فلا طاقة لكم على تغيير هذا، كما أن رسولنا صلى الله عليه وسلم قد قال في هذا : “مَا خَابَ مَنْ اسْتَخَارَ، وَمَا نَدِمَ مَنْ اسْتَشَارَ“[4]، فضلًا عن ذلك فإن مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم ربما لم يترك أمرًا إلا واستشار فيه، لدرجة أنه حين افترَتْ كَذِبًا وإفكًا مجموعةٌ من الأفواه الجوفاءِ المغرضة على أمنا السيدة عائشة التي تُوازي بِطُهرِها ونقائِها ملائكةَ السماء؛ فإنه -وهو الذي لم يجزع ولم ير الذعر في حياته ولو حتى في المنام- استشارَ بعضًا من أصحابه حتى في هذه المسألة. أجل، لقد تباحث صلى الله عليه وسلم مع كلٍّ من: سيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا عليّ ومع آخرين غيرهم في قضيةٍ خاصّة وسرّيّة تتعلق بزوجِهِ المصون، فتفضلوا جمعُيهم بكلام جميل طيِّبٍ يؤيِّدُ ويقوِّي رأيَ وقناعةَ رسولِ الله الطاهرةِ النزيهةِ بحقِّ حرَمِهِ المصونِ أمِّنا السيّدة عائشة رمزِ العفَّةِ والعصمة رضي الله عنها.
والواقع أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤيَّد بالوحي لم يكن في حاجة إلى أن يستشير الآخرين في أيّة مسألة قطّ صغيرةً كانت أو كبيرةً، وإن فكرتم في خلاف ذلك فقد أسأتم الأدبَ تجاهه، وكشفتم أنكم لم تفطنوا إلى معنى الوحي ولم تعوه، فالله جل جلاله لم يتخلَّ عنه ولم يودّعه قطّ طيلة حياته صلى الله عليه وسلم، ولم يتركه في أيِّ وقتٍ قطّ عُرضة لأيِّ موقف يمكن وصفه بأنه خيبةٌ وفشلٌ؛ حاشا وكلَّا، بل كان إلى جواره دائمًا كما يُفهم من الآية الكريمة: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾ (سُورَةُ التَّوْبِةِ: 40/9)؛ فواصل رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته -التي نفديها بأرواحِنا- في حمايةِ الله وضمانِه ومعيَّتِه، وبالرغم من هذا فقد كان صلى الله عليه وسلم يحُلّ حتى أصغر المسائل عبر الاستشارة، وعلّم أمَّتَه كيف يجب عليها أن تتصرَّف، وأرشدها إلى ذلك، ومن هنا نقول إن حلَّ القضايا والمشكلات التي تتعلّق بالعامة على وجه الخصوص عبر الرجوع إلى العقل المشترك والوعي الجمعي أفضلُ وأسمى بكثير وكثير مما يقوم به العباقرة.
إنكم حينما تقومون بمسؤولياتكم وواجباتكم ربما تطوِّرون الخُطَطَ البديلة من الألف إلى الياء حتى في مواجهة مشكلةٍ واحدةٍ، غير أنه ورغم كل هذه التدابير قد تواجهكم مشكلات لم تضعوها في حسبانكم تكمن وراء حساباتكم، فتحدثُ في أعماقكم انكساراتٌ جزئيّة، وهكذا فإنه ينبغي في مثل هذا الموقف أيضًا ألا نيأسَ أبدًا، ولا نسمح للوهنِ والقنوط أن يتسلَّل إلى أفئدتنا؛ إذ إنه توجد في الوقت الراهن صدوعٌ مبدئيّة مصدرُها الظلمُ والحسدُ والبغضاء الموجودةُ مع الأسف في كلِّ المناطق الجغرافية التي يعيش بها المسلمون، وهي مهيَّأةٌ للانكسار والظهورِ في أيّةِ لحظةٍ، ومن هذه الناحية فقد تواجهون في بعض المواقف مجموعةً من السلبيات غير المتوقَّعة مهما كانت حساباتكم سليمةً ومدروسة، ولذلك فإنه ينبغي ألا يسيطرَ اليأسُ أبدًا في مثل هذه المواقف، وألا يُستسلم لآراء وأقوالٍ سلبيّةٍ تشُلُّ الإرادة من قَبيل: “ليس ثمَّةَ ما يمكن فِعْلُهُ بعدَ هذا، لقد غُلبنا”، وذلك لأن: “اليأسَ يمنع كلَّ كمالٍ” كما قال الأستاذ بديع الزمان.
ويقول الشاعر محمد عاكف أيضًا:
اليأس مستنقع عميق الغور، إذا وقعتَ فيه فأنت غريقُ،
فعانِق الأملَ بقوة، وانظر ما ستؤول إليه حالك يا صديقُ.
إن من يحيا يحيا بعزيمته وبأمله المنشودِ،
واليائس يغلّل روحه وضميره بقيد حديديٍّ منضودِ.
إنه عقدة في الذهن ملعونة لا تُحَلُّ،
واليأسُ عبوسٌ كجَانٍ مخيفٍ عُتُلُّ.
كما يخاطب القانطَ في أول قصيدته التي تلفت الانتباه إلى هذه الحقيقة قائلًا:
أيها الحيّ الميت! لكلِّ رأسٍ يدانِ،
هلمّ فانهض… فَلَكَ الرأسُ ولك اليدانِ.
لماذا عزيمتُكَ عن الاستمرار في طريقِ الخلاصِ عاجزة!؟
أأنت الجبانُ أم أَمَلُكَ الموتُ نَاجَزَه؟
والحاصل أن الذين اختلَّت عقولُهم وتعكَّرَتْ نظراتُهم ربما يريدون عرقلةَ خدماتكم الأكثر براءةً وصفاءً، ويعرقلون عجلةَ العطاء والنماء، ولكنه حتى وإن أُعدّت كثير من المؤامرات فلا بدَّ من تجنُّبِ اليأس والقنوط تجنُّبًا تامًّا، وألا نهتزَّ أبدًا، بل نقف دائمًا ونثبت منتصبين كالأَلِفِ، ولا بدّ من البحث عن السبل المناسِبَةِ لتحويلِ “أُحُد وحُنينَ” إلى نصرٍ من جديد، ومواصلةِ السيرِ قُدمًا نحو كعبة الإيمان وقِبلتِه، مما يؤدي بدورِهِ إلى ثقة الناس في هذه المسيرة، وينبغي لنا ألا نَمَلَّ ولا نَكِلَّ في مواجهة كلِّ ما نتعرَّض له من مؤامرات، وأن نواجه المعوّقات والطرق المسدودة بالتوكُّل على الله، ونبحث عن البدائل المختلفة، فربما لا يُمنَحُ الإنسان كلَّ ما يريده ويرغبُ فيه فورًا حتى وإن كان يسيرُ في طريق الحقِّ ويطلبه بإخلاص، ولا نستطيعُ معرفةَ الحكمة من المِحَنِ الجارية، غير أنه قد يمنّ الحقُّ بعد هذه المحن بأضعافِ ما منَّ به سابقًا، ولنترقّب في صبرٍ فعَّالٍ نَشِطٍ؛ فكم مِن فَجْرٍ يُولَدُ من رَحِمِ الليالي.
[1] السيوطي: الدر المنثور في التفسير بالمأثور، 141/1.
[2] الواقدي: المغازي، 239/1.
[3] صحيح البخاري، الجهاد، 52؛ صحيح مسلم، الجهاد، 76.
[4] الطبراني: المعجم الأوسط، 365/6.
من موقع herkul.org