بقلم: عبد الحميد بيليجي
كان الجناح الراديكالي للإسلام السياسي في تركيا يرى الديمقراطية القائمة على قرارِ وإرادةِ الناس كفراً. وكوْن الديمقراطية من اختراعِ وصنعِ الغرب كان سبباً كافياً للاعتراض عليها من الأساس. وهناك الكثير ممّن ينتمون إلى مختلف الحركات الإسلامية نظروا إلى الديمقراطية بهذا المنظور في الماضي والحاضر.
كما كان هناك من المنتمين إلى معسكر الإسلام السياسي مَنْ يتبنون النظام الديمقراطي من خلال إسناده إلى مبدأ الشورى الوارد في القرآن الكريم. وهؤلاء أيضاً كانوا يؤمنون بفكرة أسلمة المجتمع عبر استخدام آلية الدولة، إلا أنهم كانوا يفضلون لعبة الديمقراطية كطريقة لتحقيق ذلك، كالإخوان المسلمين في مصر وحركة الرؤية الوطنية ” ميللي جوروش”بقيادة الزعيم الراحل نجم الدين أربكان في تركيا.
ولا داعي لمزيد من الكلام حول النوع الأول المتطرف. أما الذين تبنوا فكرة الديمقراطية في الحكم فلم تنقطع الأسئلة الدائرة حول صدقهم في ذلك. هل اعترافهم بالانتخابات وصناديق الاقتراع كطريقة للوصول إلى السلطة يجعلهم ديمقراطيين مباشرة؟ أم كانت الديمقراطية مجرد أداة للوصول إلى السلطة ثم التخلي عنها بعد تحقيق القوة المطلوبة؟ وهل كانوا سيعترفون بالحقوق الديمقراطية لغيرهم بعد أن تكون القوة بأيديهم؟ وهل سيرحلون بالانتخابات كما جاؤوا بها؟
عندما كنت طالباً أدرس العلوم السياسية في مطلع التسعينات،كان أساتذتنا يطرحون هذه التساؤلات، كما كانت المصادر المحلية والأجنبية الخاصة بعلم السياسة تركز على هذه النقاط. وكنت أنظر آنذاك إلى هذه الانتقادات بعين الريبة. ومع أنني لم أكن أهتم بفكرة الإسلام السياسي، إلا أنني كنت أرى تلك الانتقادات، بوصفي مسلماً متديناً، مبنية على أحكام مسبقة بحق الإسلام وليست قائمة على أساس علمي. أكان من الممكن أن يكون المحللون السياسيون الملحدون والعلمانيون والمعادون للإسلام أصحاب نوايا حسنة تجاه الإسلام؟
إن أردوغان ورفاقه المنحدرين من هذه التجربة بإيجابياتها وسلبياتها أسّسوا حزب العدالة والتنمية على أساس “الديمقراطية المحافظة” لا على التيار الإسلامي، وقد عارضوا بشدة أن يوصفوا بـ”الإسلاميين”. حيث كانوا يريدون أن يسيروا على نهج عدنان مندريس وتورجوت أوزال، وقد خلعوا رداء “الرؤية الوطنية” للزعيم أربكان. وكانوا يريدون العمل على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وإقامة علاقات ودية مع الدول الإسلامية والغربية معاً. الإصلاحات التي أجرتها حكومة العدالة والتنمية في إطار مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والعلاقات الوطيدة التي أسستها بالدول الغربية وكذلك بالدول الإسلامية على حد سواء، لعبت دوراً في إضعاف وتقليل شكوك البعض المفرطة في نواياهم الديمقراطية. فضلاً عن أن كل الديمقراطيين في تركيا والعالم كانوا يقدِّرون هذا التحول (التحوّل من الإسلام السياسي إلى الديمقراطية المحافظة) ويصفقون له. ولا يخفى على الخبير أني لم أدخر جهدا في سبيل إقناع الناس المتشككين بديمقراطية أردوغان المنحدر من جذور إسلامية.
ولكن حينما تراجعت عناصر الوصاية العسكرية ولم يعد هنالك حاجة لمراعاة موازين القوى في تركيا إثر الاستفتاء العام الذي جرى في سنة 2010 لتنفيذ إصلاحات جذرية في الدستور، عاد أردوغان وفريقه إلى طبيعتهم وفكرتهم الأصلية التي تختزل الديمقراطية في”صناديق الاقتراع”. فهم باتوا يرون أن القضاء المستقل والإعلام الحر والمجتمع المدني ليس من المؤسسات التي لا يمكن الاستغناء عنها بأي حال من الأحوال في الأنظمة الديمقراطية، بل أصبحوا يعدون هذه الأجهزة عناصر وأدوات تشكّل مشاكل وعوائق. وكلّ مَنْ ليس من أنصار حزب العدالة والتنمية من الممكن أن يكون “عدو الدولة”. وكانت الأحزاب التي تمثل 60% من الشعب كيانات غير قانونية. وكان الجميع، باستثناء مؤيدي العدالة والتنمية، امتدادات داخلية للقوى الصليبية والصهيونية في الخارج. لذلك رأينا أنهم أغلقوا “جامعاً”تابعاً لجماعة لا تفكر على طريقتهم، وغضّوا أبصارهم عن الانتخابات ولم يلقوا بالاً لها عندما تمخضت عن نتائج لا يريدونها. وفوق كل ذلك أرسلوا قوات الشرطة لاقتحام رياض الأطفال. فبدلا عن أن يرغِّبوا كل أفراد المجتمع في الإسلام بفضائلهم وحسناتهم وصفوا 60% منه بالخيانة، وشحنوا الـ40% الباقين بالكراهية والبغضاء تجاه المجموعة الأولى.
وبالنسبة لي، فإن ما تشهده تركيا اليوم في ظل حكومة العدالة والتنمية هو النتيجة المريرة لتغاضينا عما قاله العلم والتجربة. إلا أن الأمرّ والأسوأ من ذلك هو ضياع الجهود الإسلامية المستمرة منذ 80 عاما بسبب الاستبداد والشعبوية وممارسات الفساد. وكما قال زميلي في الدراسة البروفسور يوكسل طاشكين لمجلة أكسيون الأسبوعية: “لقد انتهت قصة إسلامية العدالة والتنمية، إذ إنه اكتفى بمحاولة سدّ فراغه الديمقراطي من خلال مؤيديه من الليبراليين وأفراد حركة الخدمة لفترة معينة، ولم يبذل أي جهد أبداً لاستيعاب مبادئ الديمقراطية.”