لاله كمال
الذين يرددون كلمات وعبارات من قبيل: «لو كان الشعب صوّت لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية الأخيرة وحصل الحزب على 400 مقعد برلماني كي يتيسر له إعلان انتقال البلاد إلى النظام الرئاسي من النظام البرلماني المعمول به حاليًا لما كنا نشهد اليوم هذه الفوضى والإرهاب». لا شك في أنهم يقامرون على تركيا ويزجون بها في رهان خاسر في سبيل تحقيق رغباتهم وأطماعهم الشخصيّة.
ينتابني قلق ومخاوف من احتمال اندلاع أحداث فوضوية أكثر مما حدث حتى اليوم لتحقيق مصالح ضيقة خلال الفترة القصيرة المقبلة التي ستمضي حتى موعد الانتخابات المبكرة. وعلى الرغم من أن الإعلام الموالي لحزب العدالة والتنمية الحاكم والرئيس رجب طيب أردوغان يغض الطرف عن انتقادات أهالي الشهداء للمسؤولين خلال مراسم تشييع الجنازات إلا أن تركيا بأكملها تسمع صيحاتهم وما يقولون؛ لدرجة أن صراخهم وأنينهم يؤلم أصحاب الضمائر الحية ويقض مضاجعهم ويؤرق نومهم.
حضرتُ اللقاء الذي جمع الرئيس السابق عبد الله جول بأهالي الشهداء قبل بضع سنوات في قصر “تشانكايا” بأنقرة، وكنتُ شاهدة عيان على عمق الآلام – التي لم تهدأ حتى بعد سنوات- لأولئك الذين فقدوا فلذات أكبادهم في الاشتباكات المسلحة بين قوات الجيش التركي ومقاتلي منظمة حزب العمال الكردستاني الإرهابية المستمرة منذ أكثر من 30 عامًا. وكانت قاعة الاستقبال بالقصر تصدح بصراخ الأمهات اللواتي أغمي على بعضهنّ ويدوي في أرجائها عويلهنّ وصراخهنّ بمجرد سماعهن نداء أسماء أولادهن الشهداء. أما الأمهات اللائي توفي أبناؤهن الذين لم يبلغوا سن العشرين من عمرهم في صفوف حزب العمال الكردستاني؛ فيحملن هذا الألم في صدورهن بصمت.
إن آلام الأمهات والآباء والأخوة والأزواج الذين فقدوا أبناءهم في الاشتباكات التي اندلعت مجددًا في هذه الأيام لن تخمد لعشرات السنين. ثمّ إن ذلك الذي كان يقول: « إذا كان الحل يكمن في تجرع سم الشوكران، فأنا مستعد لتجرعه من أجل إنهاء الإرهاب»، (في إشارة لأردوغان)، هل يرى أن هذه المشكلة كانت تستحق السماح بإعادة بدء الاشتباكات في البلاد بدلا عن مواصلة المحاولة لتسوية المشكلة سياسيًّا؟
لقد دخلنا مرحلة عصيبة للغاية لدرجة أن نيرانها لن تحرق فردًا واحدًا فحسب بل ستأتي على الأخضر واليابس وتجعلنا نرتجف بشدة بطرق مختلفة. وبغض النظر عن أننا اتخذنا مقاعدنا في الصفحات المظلمة للتاريخ باعتبارنا دولة لا تمتلك إرادة تسوية مشكلة الإرهاب في القرن الحادي والعشرين عبر طرق سياسية، إلا أن الدولة تنجرف بسرعة نحو فوضى عارمة.
لكن الأمر الذي يبعث على الدهشة والغرابة حقًّا هو أن أحد الفاعلين السياسيين الذين ينبغي أن يساهموا في تسوية المشكلة بطرق ديمقراطية يفضّل تأجيج نار الاشتباكات، ويطالب بالترويج مجددًا لسيناريو الهدم والتخريب عن طريق الدعوة لإعلان الأحكام العرفية في بعض المدن.
وتجدر بنا الإشارة هنا إلى أن المواطن التركي مُرغم ومضطر منذ سنوات طويلة على حزب العدالة والتنمية بسبب حزب معارض لم يبرهن على إرادة تسوية مشكلات الدولة بسياسة ديمقراطية لكنه أدرك في الآونة الأخيرة ضرورة أن يكون حزبًا للشعب وليس للوصاية من أصحاب العقلية العسكرية والانقلابية.
وعندما استيقظ الناخب من غفلته السياسية في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في السابع من يونيو/ حزيران الماضي وأحبط فرصة العدالة والتنمية في الانفراد بالحكم مجددًا والحصول على الأغلبية المطلقة في البرلمان، إلا أنه للأسف الشديد سبق السيف العذل وكان الأمر الواقع أسرع من أن نلوم بعضنا، ونكثر الكلام في المسألة؛ حيث إن النظام أُسّس على استغلال مرافق الدولة، بمعنى أنه كان ستيولى مجددًا الحكم بمفرده أو عدم إسناد هذا الحكم لآخرين والتضحية به.
لكن هل يحقق صناع القرار وأصحاب الأمر والنهي اليوم أهدافهم ومآربهم في الحصول مجددًا على الانفراد بمقاليد الحكم في حال التوجه لانتخابات مبكرة بالأساليب الاعتيادية يا تُرى؟ تظهر استطلاعات الرأي أن نتائج انتخابات مبكرة محتملة اليوم لن تختلف في أغلب الاحتمالات عن انتخابات السابع من يوينو التي أفرزت إرادة المواطن الذي قال للساسة “عليكم أن تشكلوا حكومة ائتلافية وتجدوا حلَّا معًا للمشكلات المتفاقمة في أنحاء البلاد”.
لكن بالنظر إلى المشهد الراهن لا نرى أن فرصة حزب العدالة والتنمية في الانفراد بالحكم مجددًا بفارق أصوات أقل لن تتضاءل فحسب، بل سنلحظ أيضًا أنه سيتجه نحو نقطة تقل فيها أصواته عن حزب الشعب الجمهوري، وكل ذلك يحدث على خلفية أحداث وصراعات أبرزها؛ جنازات الشهداء التي تُشيع يوميًا سواء كان شهيدًا واحدًا أو سبعة أو ثمانية شهداء في مدن جنوب شرق البلاد ذات الأغلبية الكردية التي تحولت إلى ساحة حرب، إلى جانب الأمهات اللائي يصرخن ويبكين أبنائهن الضحايا وإشارات الإنذار لاقتصاد الدولة.
تذكروا معنا أن المواطن هو الذي صوّت للعدالة والتنمية الذي جاء إلى الحكم في عام 2002 الذي شهد ردود فعل كبيرة من المجتمع على أحداث فساد كبيرة مستشرية وبيروقراطية متفشية وأكبر أزمة اقتصادية في تاريخ الجمهورية التركية. والعجيب في الأمر أن الحزب نفسه يحلم بالحكم مرة أخرى على أرضية تشهد الأسباب نفسها ومشهد تعود فيه فترات العنف إلى سابق عهدها.
نعم، العدالة والتنمية يراوده من جديد حلم الانفراد بالحكم، لكن علينا أن نعلم أنه لو حدث ذلك فقد تخرج تركيا عن زمام السيطرة، وتحيد عن مسارها، وتصطدم بشيء ما يقض مضجعها. ومن ثمّ فعلى أصحاب المسؤولية ألا يسمحوا بذلك، وعلى الجميع أن يكون يقظا ويتوخى الحذر لهؤلاء الذين يحيكون المؤامرات وينصبون الفخاخ والكمائن وينتظرون بفارغ الصبر وقوع البلاد فيها.