1-الجهاد ضمان الاستقرار الداخلي والخارجي
إن كل أمة تملك قوة معينة. فإنْ لم تبذل تلك الأمة طاقاتها وقوتها تجاه العدو الخارجي وبلوغ حاكمية الأرض، تحدث الاضطرابات والقلاقل في الداخل. حتى تبدأ المشاحنات بين الأفراد أنفسهم مما يؤدي إلى إراقة الدماء في الشوارع وتشاهد مناظر الجنائز في كل زاوية من البلاد. ولا تجد في هذه البلاد إلا الأرامل والثكالى اللائي يذرفْن الدموع على فقدان أولادهن وأزواجهن. فلا أحد يأمن على حياته حيث الفوضى والإرهاب يطالان حتى الشرف والأعراض.
والحال أن الأمة التي قدّر لها أن تكون حاكمة على الأرض أو في الأقل تكون عنصر توازن فيها، فلا محل للفتن الداخلية فيها إطلاقاً. حيث لا تتوثق عرى المحبة بين الأفراد إلا بالاتفاق تجاه العدو الخارجي فهي من الوسائل التي تقلل المشاحنات الداخلية إلى الحد الأدنى.
ولا بد أن نذكر هنا أمراً وهو: إن غايتنا وهدفنا الأساس ليس هو الحاكمية على الأرض لمجرد الحاكمية، ولا تحقيق الأمن والنظام في الداخل، بل هذه الأمور ثمرات ونتائج لغايتنا الأساس. أما غايتنا الأساس فهي إعلاء كلمة الله على الأرض قاطبة. ولا شك أنه لبلوغ هذه النتيجة من الضروري أن نكون أقوياء كأمة ونـزيل الموانع والعوائق في سبيلنا. وفي الحقيقة يجب ألاّ نخلط هذين الأمرين بعضه ببعض. نحن نريد القوة كي نستخدمها في سبيل إنفاذ أمر الله سبحانه وإلاّ فلم يخطر ولا يخطر ببال المسلم أن يحقق القوة لأجل الغلبة والقهر والتحكم والاستبداد.
إن أمة ترزح تحت الذلّ والهوان لا يمكن بحال أن تتمثل الحقائق السامية، فكيف لها أن تعرض هذه الحقائق إلى غيرها؟ وأنّى لغيرها أن تتقبل منها وهي تعاني الذل والهوان. لذا ينبغي أن نثبت قوتنا وطاقتنا على أعلى مستوى في جميع مرافق الحياة الأساسية التي توقف الأمة على قدميها قوية عزيزة. فجيشنا لا بد أن يزود بأحدث الأسلحة. ومرافق التربية والتعليم يجب أن تكون مهداً لأحدث الاكتشافات والعلوم. وقوى الأمن فينا يجب أن تكون لها من القوة ما يلقي الرعب في قلوب الإرهابيّين والفوضويين في العالم كله حتى تستنجد بنا الدول الأخرى لدفع ما يعجزون عن دفعه من الفوضى والاضطرابات عندهم. وأن يبلغ اقتصادنا شأناً نوزع من فضائله هدايا ومنحاً للأمم. نعم فلأجل أن نكون أهلاً لتحقيق الحقائق السامية ونتمثلها حقًّا ينبغي أن نكون حاكمين على الأرض وهذا شرط آخر لا يتحقق إلاّ بالجهاد.
إن المؤمن مضطر إلى دفع الظلم في أي مكان كان في العالم. لأن المؤمن عنصر توازن في العالم. ولهذا يبدأ بمحيطه أولاً ثم يجهد باحثاً عن وسائل لتوسيع هذه الدائرة، بهمة رفيعة عالية ترقب العالم كله من علوها، وتُخطط النظم والوسائل المتوافقة مع سموقها وشمولها.
لا شك أن المؤمن رحيم على الخلق كريم بهم، وهذا هو السبب الذي يجعله يضطرب قلقاً لإنقاذ الآخرين. حتى أنه يَحتمل في هذه السبيل كل أذى وجرح وإهانة، وهو سمح حليم. إلاّ أنه في الوقت نفسه كالطود الأشم أمام الفوضى والإرهاب حتى قد يضحي بنفسه في سبيل دفع آثارهما وتعدياتهما. والقرآن الكريم يثني على المؤمن بصفته هذه فيقول: ﴿أَعِزّةٍ عَلَى الْكَافرِينَ﴾(المائدة:54).
والمؤمن إذا اقتضى الأمر يجاهد جهاداً مادياً حفاظاً على شرفه وكرامته ويقف في صف أمن ونظام البلاد فيجاهد بنفسه وبأهله، شيخاً كان أو شابًّا بل حتى بأطفاله إذا استوجب الأمر لحين تطهير البلاد من شبكة الفساد المنتشرة في أنحائها.
ذلك لأن المؤمن يعلم بفراسته الإيمانية أنه إذا أعطيت أقل فرصة للإرهاب الذي لا يعرف معنى للإنسانية والذي أحاط بالعالم كالحية الرقطاء فذلك يعني فتح باب في الغد إلى ما لا نهاية لها من التنازلات والمطاليب.
فالإرهابي الذي يبلغ مطلباً واحداً من مطالبه مهما كان هيناً، لا يكتفي به قطعاً بل يسعى لأخذ مطالب أخرى وإلإرغام على تنازلات أخرى، حيث التنازل يدعو إلى تنازل آخر وهكذا. فلئن وضع في يوم من الأيام شرفنا وأعراضنا ووطننا ككل بل كل مقدساتنا على مائدة المفاوضات فما ذلك إلاّ نتيجة أليمة -لكنها حقيقية- لهذا التنازل الذي أُعطي لأول مرة. ولهذا ينبغي للمؤمن أن يكون دقيقاً جداً في عدم التنازل منذ بداية الأمر ويكون حازماً صاحب قرار حاسم.
فلئن طالب الإرهابيون بغلق المحلات والدكاكين ليوم غد فالمؤمن يفتح محله منتظراً فيه حتى لو كان معذوراً -من جهة أخرى- لسد محله في ذلك اليوم. فهذا العمل يعدّ بالنسبة له أعظم جهاد لأنه يعني مجابهة الظلم، فكأنه يبصق بوجه الظالم. وهذا في نظره باب يُفتح له للشهادة. لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: “مَن قُتل دُون ماله فهُوَ شَهيدٌ”.[1]
وإذا ما أتى الإرهابي المسلّح إلى باب دارك وطلب منك شيئاً ولو زهيداً جدًّا لا بد أن تقاومه بعدم إعطائك له هذا الشيء، لأن تحقيق مطلبه الأول يسوقه ليأتي في وقت آخر ويطلب أموراً أخرى وهكذا حتى لا يبقى لديك شيء وعند ذلك تندم أشد الندم لتفضيلك الحياة على الموت لدى تنازلك لأول مرة. فالعلاج الوحيد لهذا الأمر وللحيلولة دون السقوط في مثل هذا الذل بيدك أنت، إذ عليك أن تفضّل الموت الذي ترقى به إلى مرتبة الشهادة والسعادة الخالدة على بضعة أيام من الحياة الدنيا تقضيها في ذل وهوان.
إن أي نوع من أنواع الإرهاب والفوضى حالياً أجنبي المنشأ بلا شك، فهم يريدون أن يحوّلوا هذا الوطن الشبيه بالجنة إلى جحيم لا يطاق. ولا أسهل من إرغام دولة خارت قواها نتيجة الإرهاب والفوضى. وهذا ما يصبو إليه الأجانب. فهم يريدون أن تتحول هذه البلاد إلى مستعمرة يستغلّونها. والإرهابيون والفوضويون جميعهم ما هم إلاّ عملاء أولئك المستعمرين. ولكن لن يصلوا إلى مبتغاهم -بإذن الله– وسيحيق المكر السيئ بأهله. وهنا أمر مهم وهو أن الانشغال بالإرهابيين والفوضويين سيؤخرنا عن بلوغ ما نصبوا إليه من هدف. أليس هذا هو ما يريده أعداؤنا بالدرجة الثانية؟ إذ هم يخشون أن يصلب عود المسلمين يوماً من الأيام، فيصبحوا -أي الإرهابيون- كالحمُر المستنفرة فرّت من قسورة.
وهنا أمر لا بد أن لا يُنسى أبداً وهو: أن المسلم إذا اقتضى الأمر يكون مع قوى الجيش والأمن للدولة تجاه أي نوع من أنواع الاعتداءات الخارجية أو الداخلية، فهذا واجب عليه، ولا يمكن أن يتصور تركه لهذا الواجب. ويكفي أن تدعوه الدولة وتكلّفه بوظيفة كهذه. ولا شك أنه سيؤدي هذه الوظيفة متممة لعمل الدولة، وبخلاف هذا فإن أية حركة فردية تؤدي حتماً إلى تهيئة إرهاب آخر. فعلى المؤمنين أن يكونوا يقظين في هذا الأمر. إذ لا يملك الإرهاب والفوضى أي جانب شرعي، ولا بد أن تُجتث جذورهما.
وأحياناً تقوم الدول بإحداث الفوضى والإرهاب، كما تفعله أمريكا وروسيا والصين… فالوظيفة التي تقع على عاتق المؤمن حينذاك أن يستعمل كل طاقاته وإمكاناته إلى أقصى حد ممكن ويجابه الفوضى والإرهاب المفتعل. وعندما يبلغ الأمر إلى هذا الحد فمعنى ذلك أن الدولة قد أصبحت تحت رحمة الأعداء. وعندئذ فالواجب قد أُلقى إذن على كاهل كل فرد. أي أن الأمة ستؤدي حينذاك ما عليها من واجب وتضيف بطولة إلى بطولاتها المذكورة في التاريخ. نسأل الله تعالى أن يبعد وطننا ومساكننا عن مثل هذه المواقف. ولكن لو قدر الله ذلك فما لنا من محيص غير هذا العمل. فالمؤمن دائماً هو من يفضّل “الموت عزيزاً” على “الحياة ذليلاً”، فلا يخيفه الموت. وعلى القوى الخارجية والدول التي تزود الإرهاب وتثير الفوضى أن تعلم هذا جيداً.
فالهروب من الجهاد وترك البلاد والمساكن تحت رحمة الأعداء صفة ذميمة لا ترد حتى في رؤيا المؤمن، فضلاً عن أنها دناءة وحقارة ينأى عنها المؤمن ويتجنبها. والقرآن الكريم يعلّم المؤمن طريق العزّ وما يجب عليه عندما يئن الضعفاء والمساكين من الرجال والنساء تحت الظلم والتعذيب وليس لهم طريق الخلاص إلاّ الدعاء.
تقول الآية الكريمة: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً﴾(النساء: 75) يا له من دعاء!! دعاء كي يخرجوا من ديارهم ومآويهم، ذلك لأن المسلمين استُضعفوا في تلك الديار. لقد انقطعت قوة الحق، ولكن الوطن هو وطنهم لا لغيرهم، وما فيه من مساكن ومآوى هي مساكنهم ومآويهم، على الرغم من هذا يريدون الخروج منها، لئلا يعانوا هذا الذلّ والمسكنة، وهذا الخضوع والخنوع. ذلك لأنهم حُرموا من أبسط حقوق الإنسان، أولئك الذين اغتُصبت جميع أموالهم بل كل ما يملكون، أولئك الذين ديست مقدساتهم بما فيها حرياتهم. وحيث أن المنظر يبين لنا هذا الوضع المفجع، يقول القرآن الكريم: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ بحيث يهز المؤمن المخاطب هزًّا عنيفاً حيث تنـزل عليه الآية الكريمة بالتقريع والتوبيخ تلو التقريع والتوبيخ.
إننا لم نقدر الحق حق قدره ولم نقدر على الاستجابة لدعوة القرآن الكريم، ولم نصرف كل طاقاتنا في سبيل رفع رايته في جميع أنحاء العالم. لذا قُطّعنا أوصالاً، تفرقنا شذر مذر. وحيث إن وضعنا هو هذا الوضع الأليم، والأعداء يتكالبون علينا، ونحن نكتفي بالتفرج عليهم كيف يلتهموننا قطعة إثر قطعة دون مبالاة. ونقول -آسفين- أن العالم الإسلامي بأكمله يعاني هذا الوضع الذليل المهين، وكأن الحلول انتهت وفقدت كليًّا، فبقينا وحدنا بدون حل لمآسينا. كلا.. ثم كلا.. فإن أحاط الظَّلام بالمؤمن من يمينه وشماله ومن أمامه وخلفه فعليه أن يوجد نوراً لإضاءة تلك الجهات الأربع. وعليه أن يوثق صلَته بالله تعالى ويرتبط مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيوجد من الأنوار ما ينير العالم أجمع ثم يهرع إلى عالمه الخاص فينيره أيضاً.
فليس للمؤمن غير ما سعى وغير ما بذله بنفسه. إنه يحصل على كل شيء بعرَق جبينه وبجهده وبمقاساته ومكابداته. ثم يتبنى قضيته بنفسه وفي النتيجة يكون قد أنقذ نفسه وأنقذ الإنسانية جمعاء.
فسواء أكانت القلاقل والاضطرابات ناشئة من الفساد الداخلي، أم من الأزمات الناجمة من الإرهاب والفوضى، أم من الضيق والقلق الذي يولده الاعتداء من الخارج، أم من الآلام التي تصيب المسلمين.. هذه البلايا وغيرها لا حل لها إلاّ بالجهاد المادي والمعنوي.
والخلاصة أن الجهاد هو ضمان استقرارنا الداخلي والخارجي. فالدنيا التي لا جهاد فيها فلا ضمان فيها ولا أمان.
2-الجهاد يحول دون الذل والهوان
المؤمن إنما يعزّ بما يقدمه من جهاد داخلي وخارجي. وحينما يترك ما يترتب عليه من واجب، وتستهويه لذائذ الحياة وينحصر همّه في أذواقه الشخصية، يفقد المهابة والعزة، ويذل ويهان. فالرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: “…وتَركتم الجهادَ سَلّط اللهُ عليكم ذُلا لاَ ينـزعه حتى ترجعوا إلى دِينكم”.[2]
وهذا يعني أن الحياة العزيزة إنما هي في تحمل بعض المشقات باسم الجهاد. والأمة عموماً تستحق هذه الحياة العزيزة عندما تقاوم وتثبت تجاه تلك المشقات. فلو ترك كل فرد منها الجهاد منغمساً في لذائذ حياته الشخصية عندئذ يحل العذاب الإلهي العام عليها فيصيب الظالم والمظلوم والبريء والمذنب. ولهذا لا بد للأمة من التمسك بالجهاد ككل، كي تحول دون نـزول البلاء عليها بساحتها.
وأريد أن أبين هنا حديثاً شريفاً عن سيد الكونين صلى الله عليه وسلم وهو:
“إذا تَبايَعتم بالعِينة وأخَذتم أذْنابَ البقَر ورضِيتم بالزَّرع وترَكتم الجهاد سلّط اللهُ عليكم ذُلا لاَ يَنـزعُه حتى تَرجِعوا إلى دِينـكم”.[3]
وقد فسّرت العينة بشكلين:
أولهما: هو شراء بضاعة من أحدهم دَينًا، وبعد ذلك بيع البضاعة نفسها بثمن أقل إلى صاحبها الأول نقدًا. والغاية من هذا البيع هي: إن الشخص محتاج إلى نقود، وحيث إن أخذ النقود ودفعها بزيادة هو ربا. فيتوسل بالعِينة لئلا يكون ربًا واضحًا. ويمكن أن نوضح ذلك بمثال: لنفرض أن أحدهم بحاجة إلى ثمانمائة ألف ليرة، فيبتاع بضاعة من شخص بمبلغ مليون ليرة ديناً، ثم يبيع البضاعة نفسها إلى الشخص نفسه بقيمة ثمانمائة ألف ليرة نقداً. فالظاهر أنها عمَلية بيعٍ وشراء إلاّ أنها عملية لا تفترق عن الربا، فلا تجوز قطعاً.
أما ما قبله أغلب الفقهاء من التفسير الثاني (للعينة) فهو:
إن العينة عبارة عن تطبيق للبيع المؤجّل. مثال ذلك: يأتي المُدان إلى المَدين ويبلّغه أنه لا يتمكن من دفع الدَّين لهذا الشهر. فيضاف مباشرة فرق الأجل إلى دينه.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يشير في هذا الحديث بتفسيريْه معاً إلى سوء الاستعمالات في الأمور التجارية، ويقول: متى ما استولى عليكم سوء الاستعمالات هذه فانتظروا الذلّ والخنوع.
أما الشطر الآخر من الحديث الشريف “وأخَذْتُمْ أذْنابَ البقَر ورَضِيتم بالزَّرع” فلا شك أن النقد الموجّه ليس إلى الزراعة، لأن الرسول الكريم يقول في حديث آخر “إنْ قامت الساعةُ وبِيَد أحَدكم فَسِيلَة فإنِ استطاع أن لا يقُوم حتى يَغرِسَها فَليَفعَلْ”[4] وكذلك هو القائل “مَن أحيا أرضًا ميتَة فَهي له”.[5] بمعنى أن الإسلام لا يطيق صبرًا على أرض ميتة، فلا بد أن تستغل وتحيا. فالحديث الشريف يشير إلى اختلال التوازن، لأن شريان الحياة الاقتصادية هو الإنتاج، فإذا ما حُصر الإنتاج في الزراعة وحدها وأُهملت التجارة والصناعة، معنى ذلك حدوث الخلل في الإنتاج. وإن التصور بحصول التقدم بالتوجه إلى الصناعة وحدها أو إلى التجارة وحدها ليس إلا تعبيرًا عن الخلل نفسه. ولهذا فالأمر الأساس هو إعطاء كل ساحة ما تستحق من الاهتمام… وبذلك يضمن التوازن في الإنتاج.
ومن المعلوم أن الزراعة تكون في القرى، فأهل القرى إذا توجّهوا جميعهم إلى الزراعة، يعنى ذلك توقف تقدم المدن كليًّا. وتوقف التوسع في المدن يؤدي حتمًا إلى مَوت التجارة والصناعة. ونقيض هذا هو زحف أهل القرى جميعهم -تاركين مزارعهم- إلى المدن الكبيرة وهذا يولد خللاً آخر. وما نراه في وقتنا الحاضر من توسع المدن الكبيرة بسرعة هائلة وحدوث مشاكل متناسبة مع تلك السرعة، وإخفاق الخدمات -سواءً تحت الأرض أو فوقها- وانتشار العطالة إلى أقصى حد.. كل ذلك ما هو إلاّ بضع أعراض للخلل.
إنه لا مفرّ من أن نكون تحت رحمة أعدائنا دائماً إن كانت النهضة والتقدم غير متوازنيْن، وظَلّ قِسم من الحياة الاقتصادية مرتبطاً بالخارج، حيث إن المؤسسات الصناعية والأمتعة التجارية والمنتجات الزراعية المرتبطة بالخارج… كل ذلك عناصر تهديد للحياة الاقتصادية. معنى ذلك أن الأصل هو إحداث التوازن في جميع الميادين.
وحيث إنه لم تحدث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مشاكل الهجرة إلى المدن بسرعة، لذا أشار الحديث إلى الخلل الاقتصادي بحصر النظر في الزراعة فحسب. أما في وقتنا الحاضر فقد جلبت الهجرة إلى المدن بكثرة وبسرعة مشاكل وأزمات حديثة. لذا فإن فكرة العَودة إلى القرى أو الاستقرار والإسكان فيها إحدى الحلول التي تفرض نفسها، وهو المفهوم من الحديث الشريف.
من جهة أخرى فالحديث ينطوي على انتقاد الرجوع إلى البداوة أو الإصرار في البقاء على البداوة، بعد التحضر. فهذا كله يورث المجتمع الذل والهوان.
أما الأمر الثالث الذي يفهم من الحديث الشريف هو «وترَكتم الجهادَ» أي عندما تنغمسون في أموركم الخاصة وتخلدون إلى الراحة، فإن الذل والهوان ينتظركم. أي كما إذا اسودّ وأظلم هواؤكم المادي، فهواؤكم المعنوي أيضاً سيسْودّ، وتنكدر النجوم في سماء روحكم، وينخسف قمركم وتنكسف شمسكم. أي لا تسمح لكم الشريعة الفطرية بالعَيش على وجه الأرض.
فالله سبحانه وتعالى لا يرفع ذلك الهوان منكم مهما حاولتم في دفعه ومهما توسلتم وتضرعتم إليه ما لم ترجعوا إلى الدين.
تُرى كيف يكون الرجوع إلى الدين لأمثال هؤلاء؟ إن علينا وعلى كاهلنا في الوقت الحاضر حقوقاً هائلة تراكمت منذ عصور. فنحن في هذا العصر لم نوفّ حقوق أنفسنا بعدُ ناهيك عن الحقوق الأخرى. وكذا لم يتحقق في هذا الوقت ما ينتظره منا أهلنا وأمتنا وجيلنا من أمور. فلقد تراكمت على ظهورنا الضعيفة آثامٌ كثيرة وكثيرة جداً. فالمسلم المدرك في القرن العشرين ينسحق تحت هذه الآثام. نعم إنها ليست مسألة هينة، بل عسيرة وجادة. لأن في آذاننا صرخاتُ انهيار منذ ثلاثة قرون، فلن تهدأ هذه الصرخات بمعاناة ربع قرن فحسب. ولا شك أن المسؤول الأول في تردّينا إلى هذا الوضع هو أنفسنا نحن. فلا نجاة إلاّ بأنفسنا كذلك. فسوف نضغط على أنفسنا، ونضرم مشاعلنا بأيدينا ونتوجه إلى عناية الله، ونحقق هذا التوجه قولاً وفعلاً، فبمقدار قيامنا بهذا العمل تفتح أبواب الرحمة، فتنتشلنا يد الرحمة مما نحن فيه من وضع أليم ونصل بإذن الله إلى ساحل السلامة.
آ-أبطال اقتحموا العقبة..
كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يجاهد العالم أجمع بجماعة، وأن كل فرد من تلك الجماعة كان يعلم جيداً ما يترتب عليه من واجب في أي صفحة من صفحات الحياة. فـ”أُحد” موقع تجلت فيه مناظر خالدة من هذا الشعور، فلقد بذلوا جميعاً ما عليهم من حق وواجب رجالاً ونساءً صغاراً وكباراً شيباً وشباباً، وبكل إخلاص وتفانٍ، حتى تبدل الموقف لصالح المسلمين.
يذكر أنس رضي الله عنه: إثنتان لم تغادرا نظري. الأولى: والدتي “أم سُلَيم” رضي الله عنها، والأخرى أمّنا “عائشة” رضي الله عنهما، كانتا تسرعان إلى المدينة فتأتيان بالماء إلى الجيش فترويان به. وما إن تنتهيا من ذلك حتى تتوجها إلى ضماد جروح الجرحى، وهكذا لم تفارقا هذا العمل طوال اليوم.
وفي هذه الأثناء جاءت عجوز، حتى يمكن أن يقال إنها مقعدة لا طاقة لها على العمل. أتت وهي تمسك بيد طفلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فما كانت تقدر على ضماد الجرحى ولا على غيره من أعمال الحرب، وإنْ كانت على شعور تام بما عليها من واجب. فكانت تريد أن تشارك في “أُحد” بالقدر الذي يتيسر لها وبأفضل وجه.
فلكَمْ يستحق هذا المنظر الجميل التأمل في وجه هذا الطفل والعجوز وشوقهما لخدمة الحق! إن السيف المعلق في كتف الطفل يكاد يلامس الأرض. إن جسمه صغير كاد ألاّ يحمل السيف بخلاف روحه التي تناطح السماء. قالت العجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لي ما أعطيه ولا طاقة لي بعمل. ولكن هذا ابني، أَهَبه لكم، كي يحارب ويدافع عنكم. فنظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطفل الذي تبرق عينه منتظراً الجواب منه. فكأنه يقول بنظراته الثاقبة: اِئْذنْ لي يا رسول الله أن أفديك بروحي. فالذي يطلب هذا الطلب النابع من صميم القلب، لا يمكن أن يُرفض. لذا قبِل الرسول صلى الله عليه وسلم طلب هذا الطفل وضمّه إلى صفوف جيش المسلمين. فاقتحم الطفل بسيفه الذي هو أطول منه صفوف العدو، وكأنه قد كبر حالاً وتحوّل إلى شاب يافع. بيد أن “أُحد” كان ثقيلاً جدًّا، فما كان يتحمله إلاّ أمثال حمزة رضي الله عنه، وابن جحش رضي الله عنه، ومصعب رضي الله عنه.. إلا أن الطفل أيضاً قد أخذ على كاهله جزءًا من هذا الحمل الثقيل. ولكن هذا الجسد النحيف لم يتحمل ذلك الحمل الثقيل، فوقع على الأرض بضربات العدو -وبعد قليل سيتسابق مع الملائكة في طريقه إلى الله- فاحتضنوا هذا الطفل وحملوه إلى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان قلبه يخفق خفقان قلب الطير. ووجهه يشعّ بابتسامة وبهجة والفرح يطفح من عينيه، لأنه سيلقى بنفسه في أحضان الشهادة وسيغادر رياض “أُحد” التي تلتهب ناراً إلى سفوح الجنة.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يحدق بنظره الشريف في عيون الطفل التي تلمع فرحًا وسرورًا: أ تشعر بألم. والطفل يخشى أن يؤلم الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: لا يا رسول الله. وكأن الشمس الحزينة التي أوشكت على الغروب على “أُحد” تتهيأ للشروق مرة أخرى في وجه الطفل.[6]
“وقاتلت أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية يوم أُحد، فذكر سعيد ابن أبي زيد الأنصاري أن أم سعد بنت سعد بن الربيع كانت تقول دخلت على أم عمارة فقلت لها يا خالة أخبريني خبرك. فقالت: خرجت أول النهار أنظر ما يصنع الناس ومعي سقاء فيه ماء فانتهيت إلى رسول الله وهو في أصحابه، والدولة والريح للمسلمين، فلما انهزم المسلمون انحزت إلى رسول الله فقمت أباشر القتال وأذب عنه بالسيف وأرمي عن القوس حتى خلصت الجراح إلي. قالت: فرأيت على عاتقها جرحا أجوف له غور فقلت لها من أصابك بهذا؟ قالت ابن قمئة أقمأه الله، لما ولى الناس عن رسول الله أقبل يقول دلّوني على محمد، لا نجوت إن نجا. فاعترضت له أنا ومصعب بن عمير وأناس ممن ثبت مع رسول الله فضربني هذه الضربة ولقد ضربته على ذلك ضربات ولكن عدو الله كانت عليه درعان”.[7]
استمرت المعارك إلى المساء. كان من الضروري الحفاظ على المدينة من الداخل. وكانت صفية كبرى عمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، فانطلقت إلى “أُحد” حالما سمعت بجراح الرسول صلى الله عليه وسلم. كانت ترمى نفسها كأم عمارة على المصيبة مخترقة صفوف العدو بعدما أخذت رمحاً من الأرض. لم يتحمل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الموقف، فقال لابنها: “انطلق إلى أمك.. فهي امرأة”. قاله خوفاً عليها، حيث كانت تواجه الكفار وتجعلهم يولّون الأدبار،[8] بمعنى: أنه إذا اشتد البأس فالمرأة كذلك تنهض بواجبها.
نعم، إن المؤمن سينطلق إلى الجهاد تجاه المصائب المقبلة سواء من الخارج أو من الداخل، ويوفى مسؤوليته حقها تجاه أهله ودينه ووطنه وأمته. ولا بد من جهاد بالنساء والأطفال والرجال والشباب والشيوخ فلا تبقى الجهود منحصرة في صفحات معينة من الحياة، بل في كل صفحة من صفحات الحياة.. وبكل مستويات المجتمع.. إذ بخلاف هذا فالهزيمة محققة مقدّرة لا محالة. فكما يحتضن المؤمن الحياة كلها، فالجهاد أيضاً معنى شامل كهذا يحتضن الحياة كلها.
بـ-من أجل حياة عزيزة..
إن طريق الحياة العزيزة تمرّ من معرفة ما هو جدير بالموت. نعم، الموت في سبيل ما يُستَحَقُّ من أجله الموت. فإذا ما استسهلنا الموت في سبيل ما نحن مكلَّفون بالحفاظ عليه من أمورنا المقدسة، أو إذا استعددنا للموت في سبيلها سنذوق لذائذ الحياة الأبدية ولمّا نغادر هذه الحياة الدنيا، فضلاً عمّا أُعدّ لنا في الآخرة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. فالرسول صلى الله عليه وسلم يستثير عشقنا للجهاد ويقوى من عزيمتنا في حديثه الشريف الآتي:
“لَولا أن أشُقّ على أُمّتي لأَحبَبتُ أن لا أتَخلّف خَلفَ سَرِيّة” “لَودِدتُ أنِّي أَغزُو في سبيل الله فأُقتَلُ ثم أَغزُو فأُقتَلُ ثم أَغزُو فأُقتَلُ”.[9] فيا لها من مرتبة عظيمة وشرف رفيع سام، الموت في سبيل الله والجهاد في سبيله، وما أعظمه من وظيفة مقدسة جليلة حتى يرغب سيدُ المرسلين وسيد الكونين والثقلين، وهو في ذروة الكمالات في أن يكون مع كل سرية في سبيل الله، علاوة على مهمة الرسالة العظمى التي يؤديها. ويتمنى أن يُقتل في هذه السبيل ثم يُحيا ثم يُقتل ثم يُحيا ثم يُقتل ثم يُحيا. فما أضيع إذن تلك الحياة التي لا جهاد فيها! وفيه هذا الشرف العظيم، الذي يطلبه ويحرص عليه كل ذي لب لا محالة.
فالأحاديث الواردة في الجهاد تلْفت النظر حقًّا، نذكر منها:
“عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن مات ولَم يَغزُ ولَم يُحَدِّث به نفسَه مات على شُعبَة مِن نِفاق”.[10] أي أن هذا الإنسان يسلِّم روحه في وسط النفاق. وفي رواية أخرى: “مَن لَقيَ اللهَ بغَير أثَر مِن جِهاد لَقِيَ اللهَ وفِيه ثُلمَةٌ”[11] أي إن مثل هذا يأتي إلى المحكمة الكبرى محمرّ وجهه من نقص يُخجله ويخزيه. إن بين أيدينا وأيماننا وشمائلنا الكثيرين جدًّا من المظلومين المعتدى عليهم الذين يئنّون تحت الظلم ويكابدون العذاب. ومثلما يجب أن نسعى لإنقاذ المظلومين هؤلاء كذلك من واجبنا أيضاً كفّ الظالم عن ظلمه. وإلاّ نَلقى رب العالمين ونجازى بما يفوق كل الآلام التي نراها في الدنيا. فأية شقاوة أكثر من لقاء رب العالمين بهذا الخزي والعار؟!
وفي حديث آخر للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يذكر فيه ما يصيب الأمة من بلايا حتى يسأل الصحابي كل مرة: وهل هذا حادث يا رسول الله؟ يسأله وهو متعجب مما سيقع. ويجيبه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: بل يحدث أشد من ذلك…
“عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف بكم أيها الناس إذا طغى نساؤكم وفسق فتيانكم؟! قالوا يا رسول الله إن هذا لكائن؟ قال: نعم وأشد منه. كيف بكم إذا تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! قالوا: يا رسول الله إن هذا لكائن؟ قال: نعم وأشد منه. كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفا والمعروف منكرا؟!”.[12]
وهكذا تتبين أهمية ما نحمله من أمانة وتكليف. إن أعماق قلوبنا وأشد مواقعها شعوراً ورقة ترزخ تحت أثقال ذنوب وخطايا تراكمت منذ ثلاثة قرون مضت بل تئنّ من آلامها أنيناً موجعاًً. ولا دواء لدائنا إلاّ بمكابدة دائنا لا غير.
إن الذهاب إلى الجامع لأداء الصلوات أحياناً وأداء فريضة الحج منابع طمأنينة لبعضنا. والحال إن ما نحن فيه من فظاعة الموقف لا يزيلها أداء تلك الفرائض حقها وحدها. ولا أظن أن لنا حلاًّ لما حلّ بنا من وضع مخيف إلاّ بإيفاء وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حقها غير منقوص. ولا شك أن إيفاء هذه الوظيفة السامية حقها موكل إلينا نحن أيضاً، نعم نحن فرداً فرداً، وإلاّ لا ننجو من مغبة السقوط في الهاوية التي وصفها الحديث الشريف، وقال إنها كائنة فينا بإعلام من رب العالمين، وكأنه وصف لأوضاع مجتمعنا الحاضر.
الهوامش
[1] البخاري، المظالم 33؛ مسلم، الإيمان 226.
[2] أبو داود، البيوع 54؛ المسند للإمام أحمد، 2/42.
[3] أبو داود، البيوع 54؛ المسند للإمام أحمد، 2/42.
[4] المسند للإمام أحمد، 3/191.
[5] البخاري، الحرث 15؛ أبو داود، الأمارة 37.
[6] انظر: المصنف لابن أبي شيبة، 7/370-371؛ حياة الصحابة للكاندهلوي، 1/598-599.
[7] السيرة النبوية لابن هشام، 3/86-87؛ البداية والنهاية لابن كثير، 4/35.
[8] حياة الصحابة للكاندهلوي، 2/88؛ الإصابة لابن حجر، 4/349.
[9] مسلم، الإمارة 28؛ البخارى، الإيمان 26؛ النسائي، الجهاد 3.
[10] مسلم، الإمارة 157؛ أبو داود، الجهاد 17؛ النسائي، الجهاد 2.
[11] الترمذي، فضائل الجهاد 26؛ ابن ماجه، الجهاد 5.
[12] مسند أبي يعلى، 11/304؛ مجمع الزوائد للهيثمي، 7/280-281.
من موقع الأستاذ فتح الله كولن