بقلم: مصطفى أونال
إن ما حدث من فشل لحزب العدالة والتنمية الحاكم برئاسة رئيس الوزراء أحمد داوداوغلو في محاولات تشكيل حكومة ائتلافية مع الأحزاب الأخرى لم يكن مفاجأة على الإطلاق؛ إذ حدث السيناريو الذي كان متوقعًا من قبل الأوساط المختلفة. وعاد داوداوغلو من مشاوراته مع كل من حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية خالي الوفاض يجرجر أذيال الخيبة.
استمر اللقاء الذي جمع داوداوغلو ودولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية قرابة الساعتين ونصف الساعة. لكن هل تباحثا في سُبل تشكيل حكومة ائتلافية بينهما؟ كلا.. حيث راح داوداوغلو يتحدث عن مكافحة الإرهاب، وتحدث قليلا عن أسباب عدم توصلهم إلى اتفاق مع الشعب الجمهوري.. وانتهت مسألة الائتلاف في ظرف خمس دقائق، لأن القرار كان واضحًا من الأساس.
وضع حزب الحركة القومية أربعة شروط للموافقة على الدخول في حكومة ائتلافية مع العدالة والتنمية وأعلن عنها للرأي العام قبل اللقاء. ولم يكن أي من تلك الشروط “لا يمكن قبولها”، وهي؛ مكافحة الفساد المستشري وسط غياب الحلول، التزام رئيس الجمهورية بالحدود الدستورية المنصوص عليها، عدم المساس بالمواد الأربعة الأولى من الدستور، وإنهاء عملية السلام الداخلي مع الأكراد. أيّ حزب يا تُرى يرفض الشروط الثلاث الأولى منها؟. نعم فما يؤلم العدالة والتنمية هو موضوع الفساد، لذا فمن الطبيعي أن يتضرر من ذلك. لكن ألم يقل داوداوغلو “لن نتهاون في قطع يد من يعتدي على أملاك الدّولة، حتّى لو كان هذا المعتدي أخا لنا”؟!
وفي واقع الأمر فإن “النظام الرئاسي” الذي لطالما يحلم به أردوغان منذ أكثر من عام ونصف العام لا يبدو ممكنًا. هل يريد أحد ألا يبقى رئيس الجمهورية في إطار الدستور؟ هل يرغب أحد في مواصلة الأمر الواقع الراهن؟ أهو داوداوغلو؟ لا ليس بإمكانه الموافقة على ذلك، وحتى لو فعل فهو يعلم أن القصر الرئاسي سيستدعيه في هذا الأمر. أما عن عملية السلام مع الأكراد فهي كانت أصعب الأمور حتى الأمس. ولم يبق اليوم فارق يُذكر بين العدالة والتنمية والحركة القومية؛ إذ اقترب الأول من الأخير، أو بعبارة أخرى صار على نهجه وتشرب من أفكاره ورؤاه. لقد حدث تقارب في الرؤى والأفكار لدرجة أنكم لو لم تروا أية توقيعات أسفل تصريح بشأن عملية السلام، فلن يمكنكم أن تعرفوا إذا ما كان ذلك التصريح صادر عن العدالة والتنمية أم الحركة القومية. فالحزبان صارا يستخدمان لهجة وأسلوبًا واحدًا.
منذ فترة طويلة وأنا أُصر على إيضاح هذه النقطة؛ وهي أن داوداغلو لم يبذل قصارى جهده من أجل التوصل إلى اتفاق مع حزب ما لتشكيل حكومة ائتلافية. بل الحقيقة هي أنه تظاهر وكأنه بذل مساعي حثيثة وجهودا مضنية من أجل ذلك. وبصراحة أرى أن الهدف من المشاورات التي أجراها لأسابيع عدة مع كل من حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية ليس “البحث عن حكومة جديدة” بل كان ذلك من التكتيكات السياسيّة. فقد تظاهر بأنه يقوم بذلك على الملأ، هادفًا من ذلك إنهاء المهلة الدستورية البالغة 45 يومًا التي ينص عليها الدستور. إذ أسّس القصر اللعبة بأكملها على الانتخابات المبكرة، أي أن كل شيء شهدناه عقب انتخابات السابع من يونيو/ حزيران الماضي كان جزءًا من هذه اللعبة؛ في حين أن كتلة المعارضة كان بإمكانها إحباط هذا المخطط، لكنها لم تنجح في ذلك بسبب الماس الكهربائي الذي نشب في خط حزبي الحركة القومية والشعوب الديمقراطي الكردي. والمشهد السياسي الراهن واضح وضوح الشّمس في رابعة النهار.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن داوداوغلو كان يأمل خلال لقائه الحركة القومية في موافقته على اتخاذ قرار بإعلان انتخابات مبكرة على الأقل، وظنّ أنه سيحصل على دعمه في هذا الموضوع، وهذا أمر طبيعي إذ كان بهشلي أول زعيم طالب بانتخابات مبكرة. غير أن شروط الحزب تغيّرت، بعد أن صارت البلادفي طوق من النار، وبات أمن الانتخابات وعدم التزوير فيها في خطر. ولم يقدم حزب الحركة القومية الدعم الذي كان يرغب فيه داوداوغلو لحكومة أقلية من العدالة والتنمية بسبب عامل حزب الشعوب الديمقراطي الكردي. وقال في تصريح له إن ذلك “ليس مشكلة الحركة القومية بل مشكلة القصر”. وألقى بالمسؤولية واللوم على رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان.
وهنا يلزم أن نعطي داوداوغلو حقه؛ حيث استنفد المهلة أيما استنفاد، وماطل الشعب مماطلة على حساب مصلحة البلاد. وأضاع الوقت بشكل أكبر على أرض المعارضة وخدعهم. وأرى أن عدم تشكيل الحكومة ليس فشلا بالنسبة له بل على العكس من ذلك يعد نجاحًا له. سار في الطريق الذي رسمه له القصر دون أن ينحرف ولو بمقدار ميليمتر واحد دون الاكتراث بالضغوطات الاجتماعية تحت ظل الإرهاب الثقيل. وهل تظنون أنه إن لم تكن هناك شروط لحزب الحركة القومية كانت ستتشكل حكومة ائتلافية. بالعكس تماما.ولم نكن نحن فقط –الصحفيين في أنقرة- من رأى هذا المشهد السياسي بل لاحظه أيضًا عامة الناس بوضوح.
وبالمناسبة، فسياسة العدالة والتنمية في إلقاء اللوم على الشعب الجمهوري والحركة القومية وتحميلهما المسؤولية عن فشل تشكيل الحكومة باءت بالفشل. لم تكن هناك صحف ووسائل إعلام أخذت هذا الأمر على محمل الجد وروّج له إلا الإعلام الموالي للحكومة المعروف بـ “إعلام الحوض المالي” لأنه يُموّل من رجال الأعمال المقربين جدًا للحكومة وأردوغان. وأصبح العدالة والتنمية في سجلات التاريخ هو الطرف الذي لم يرغب في الاتفاق على تشكيل الحكومة. أعتقد أنكم لستم مولعين بمعرفة سبب تعامل داوداوغلو بشكل جدي في إعادة مهمة تشكيل الحكومة الذي كلّفه به أردوغان. مع أن ما فعله لا يناسب الأخلاق والأعراف السياسية بالمرّة. فلا يصح أن يصرّح سيادته بقوله “سأعيد هذه المهمة إن اقتضى الأمر ذلك”.
ويلزم أن تتاح الفرصة للزعماء الآخرين؛ ذلك أن تركيا ليست «جمهورية موز»، فهي دولة بها دستور وقوانين وقواعد وأعراف. صحيح أنه بقيت مدة قصيرة من الوقت لكن السؤال الذي يدور في أروقة أنقرة حاليًا هو؛ هل سيمنح رئيس الجمهورية أردوغان مهمة تشكيل الحكومة لزعيم الشعب الجمهوري كمال كليتشداراوغلو يا تُرى؟ أرى أن الشعب الجمهوري ليس متفائلًا في هذا الموضوع، لكن على أردوغان أن يمنحه إياها لأن الديمقراطية والاتفاقيات المرعية تقتضي ذلك بالرغم من ضيق الوقت. كما أرى أن ادعاءات منح مهمة تشكيل الحكومة لدنيز بايكال -زعيم حزب الشعب الجمهوري السابق- لا تحمل أية دلالات أو معان. والإرادة الوطنية ليست عبارة عن أصوات العدالة والتنمية؛ فأصوات المعارضة أيضًا تعد جزءًا من تلك الإرادة.
إن كل ما يحدث على الساحة في الوقت الراهن يعد امتحانًا للديمقراطية بالنسبة للقصر. ولاشك في أن فرصة كليتشدار أوغلو في تشكيل حكومة ضعيفة. وكانت فرصة داوداوغلو أيضًا ضعيفة أو بالأحرى كانت نسبتها “صفر” لأنه لم تكن لديه نية في تشكيل الحكومة. إلا أنه يجب منح هذه الفرصة لكليتشدار أوغلو ولدولت بهشلي كذلك، يجب أن يُتاح لهم الحق في ذلك وفق الدستور. وعلى أية حال، هذا النقاش لا ينتهي وسيستمر حتى الساعات الأخيرة من المهلة البالغة 45 يومًا والتي ستنتهي في 23 أغسطس/ آب الجاري. وسيدون التاريخ قرار القصر.
تركيا في طريقها إلى انتخابات مبكرة ولكن كيف سيتم ذلك، وبأية حكومة سيتم؟ الخيارات محدودة، والحركة القومية أعلن صراحة عن عدم تأييده لحكومة موقتة. والاحتمال الأقوى هو حكومة مؤقتة بين أحزاب العدالة والتنمية والشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي. لننتظر مرور مهلة الـ 45 يومًا ولنر ما ستسفر عنه الأيام المقبلة.