عمر نورالدين
إذا حاول الواحد منا أن يحصي عدد المرات التي تحدث فيها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن إرادة الشعب فربما يعجز عن ذلك .. فهو تعبير مرتبط بالعديد من المواقف وبمواسم الانتخابات.. وبتبرير الفساد وبتزييف الوعي وبتزيين الافتراءات وقلب الأكاذيب إلى حقائق.. وهو التعبير الذي يستدعى دائما في كل أزمة لتوظيفه من جانب الزعيم الديماجوجي الذي لا يرى إلا نفسه.
ألم تكن نتيجة الانتخابات البرلمانية في 7 يونيو/ حزيران الماضي، التي أقصت حزب العدالة والتنمية عن حكم تركيا منفردا بعد 13 عاما، من قبيل التعبير عن ” إرادة الشعب”؟.. لا بل كانت هي عين إرادة الشعب والتعبير الحقيقي عن رفضه أولا لاستغلال فوز العدالة والتنمية بالأغلبية في تحقيق مشروع أردوغان الرئاسي للانفراد بالحكم وتجميع كل الصلاحيات والسلطات في يديه، فكان العقاب من الشعب مضاعفا برفض مشروع أردوغان وبعقاب حزب العدالة والتنمية الذي تماشى مع رغبات أردوغان الذي كان يتعين عليه بحكم الدستور بعد أن أصبح رئيسا للجمهورية أن ينأى بنفسه عن التنافس بين الأحزاب وأن يقف على مسافة متساوية من الجميع، وعقابا أيضا على الفساد الذي استشرى تحت حكم هذا الحزب.
إذن قال الشعب كلمته وعبر عن إرادته، فهل أعجب ذلك أردوغان؟
بالطبع لا، فما شهدته تركيا بعد انتخابات السابع من يونيو/ حزيران يثبت أنها تسير بسرعة الصاروخ في عكس اتجاه الديمقراطية، بل إنه وضع الديمقراطية نفسها على المحك، وستكون النتيجة هي خروجها بجروح عميقة حتى لو انتصرت في النهاية.
كان أردوغان يتحدث دائما عن صناديق الانتخابات، وعن الاحتكام إليها، ويعتبر أن الحديث عن انتخابات مبكرة هو خيانة للوطن وإهدار لمقدراته.. هذا عندما كان يفوز حزب العداالة والتنمية بالأغلبية المريحة في كل انتخابات يخوضها حتى جاءت انتخابات 7 يونيو، ونكص أردوغان عن كل مقولاته السابقة، بل إنه ذهب إلى اعتبار أن ما أتت به هذه الصناديق” المقدسة” لم يكن هو إرادة الشعب، اللهم إلا عندما أخذته سكرة الصدمة بعد النتيجة وخرج عن صمته بعد اختفاء لأيام عدة ليقول إن علي الجميع احترام إرادة هذه الأمة، وحاول أن يتذكر أنه رئيس للجمهورية وادعى أنه يقف على مسافة واحدة من الجميع.. ثم تبين أن حتى هذا الموقف كان جزءا مما سيأتي لاحقا من عرقلة تشكيل االحكومة الائتلافية مع أي من الأحزاب الممثلة في البرلمان.
لكن أردوغان في الوقت نفسه، كان قد بدأ مع أذرعه اليمنى واليسرى ورجاله في القصر الأبيض خطة لاستعادة ما خسره حزب العدالة والتنمية في تلك الانتخابات، وبالتالي ضمان تحقيق مشروعه الحلم ” النظام الرئاسي بنكهة تركية” .. ليس مهما أن تغرق تركيا في الدماء أو أن تعود منظمة حزب العمال الكردستاني للإرهاب، وليس مهما أن يعود شرق وجنوب شرق تركيا بالكامل إلى الأجواء القاتمة والسوداء لحقبة التسعينيات وأن يفرض حظر التجول وحالة الطوارئ وأن تتوقف الحياة، طالما أن كل ذلك سيوقف صعود حزب الشعوب الديمقراطي الذي كان السبب الرئيسي في خسارة حزب الداالة والتنمية وإجهاض مشروع أردوغان الرئاسي قبل أن يرى النور.
وليس مهما أيضا أن تفتح تركيا قواعدها لأمريكا لضرب داعش في سوريا والعراق حتى لو لم يتحقق الشرط التركي بإقامة منطقة آمنة داخل الحدود السورية طالما أن أمريكا ستسمح بضرب الأكراد، فالقصة بالأساس ليست داعش.
وليس مهما أن يثبت يوما بعد الآخر أن كل ماروج له أردوغان وأعوانه من افتراءات حول حركة الخدمة ووصفها بالكيان الموازي وإلصاق كل الموبيقات بها، كان محض كذب وبهتان، ولا مانع من الاستمرار في الحديث الممجوج نفسه عما يسمى بالكيان الموازي بين حين وحين، وليس مهما أن يغيب الصحفيون والقضاة ورجال الشرطة المخلصين في غياهب السجون بلا سند من قانون.. في دولة سقط فيها القانون تحت زعم رئيسها أنها ” ليست جمهورية موز” .
ليس مهما أن يبكي الشعب شهداءه وليس مهما أن يتضور الفقراء جوعا أو ييتم الأطفال وتترمل النساء، المهم أن يتحقق مشروع الرئاسة الحلم وأن يبقى حزب العدالة والتنمية في الحكم وألا يمس أحد رموز الفساد والرشوة بسوء .. فكم تعب هؤلاء حتى يعيش الشعب في رخاء ثم تبين أنهم سرقوا منه أحلامه وقوت يومه وأرزاق أطفاله!
كانت الديماجوجية تعني قديما عندما ظهرت كمصطلح ” العمل لمصلحة الشعب” ومع تعاقب العصور وظهور الديكتاتورين في أطراف الأرض، باتت الديماجوجية هي احتراف خداع الشعب .. واليوم يقول ديماجوجيو تركيا إن البلاد تتجه سريعا نحو الانتخابات المبكرة لأنها تلبي إرادة الشعب!