عبد الحميد بيليجي (رئيس تحرير وكالة أنباء جيهان التركية)
يعتبر الملف السوري أكثر الملفات التي استهلكت طاقة تركيا في السياسة الخارجية في الفترة الأخيرة. فالحكومة التركية التي لم تكن معتادا على التدخُّل في شؤون الدول الأخرى، والتي كانت تتوخى الحذر من التحرك بالعقلية المغامرة الهدامة للاتحاديين لما أسفرت وراءها عن دمارا في علاقات تركيا بجيرانها، سلكت هذه المرة مسارًا مختلفًا تماما، من خلال إعلانها الدعم الصريح للمعارضة السورية في مواجهة نظام بشار الأسد.
فلو كانت حسابات الحكومة التركية صائبة، لسقط حزب البعث في سوريا، فلربما كانت تركيا لها الكلمة المسموعة في الشرق الأوسط، بعد مائة عام مضى. إلا أنه يبدو أن الرياح هبت بما لا تشتهي السفن، وأخفقت تلك الحسابات. ولم يسقط نظام الأسد، بل تحولت تركيا إلى مستنقع تجول فيها وتصول عناصر التنظيمات الإرهابية. وترتبت على عاتق تركيا فاتورة باحظة في الكثير من المجالات.
في فترة وجيزة خرجت الأزمة السورية من كونها صراعا داخليا بين النظام الحاكم والمعارضة الداخلية، وتحولت إلى قضية دولية بعد تدخل القوى الدولية والإقليمية. من ناحية وقف كل واحد من روسيا والصين في صف النظام داعما الرئيس السوري بشار الأسد، في حين أعلنت الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية دعمها لقوات المعارضة. بينما قررت تركيا ودول الخليج العربي الوقوف في صفوف المعارضة السورية، في حين أعلنت إيران وقوفها وراء بشار الأسد. لم تكتف طهران بدعم الأسد بالأموال، والأسلحة، والبترول، والأفكار فحسب، بل وصل الأمر إلى انضمام قوات من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني إلى صفوف قوات حزب البعث في سوريا. وهنا يظهر الدور الفعَّال لإيران في بقاء بشار الأسد في سدَّة الحكم في بلاده.
ولكن كان الأمر يلتبس علي، وكنت أجد صعوبة في فهم العلاقة الحميمية بين أنقرة وإيران، بالرغم من الخلافات القوية التي تشهدها وجهات النظر بينهما فيما يتعلق بالمعادلة السورية. أولا: كان ذلك وضعا فيه مشاكل من الناحية الأخلاقية والأيدولوجية الفكرية. لأن حكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا، كان يبني سياسته في المسألة السورية على مسند أخلاقي، إذ كانت تدعم المعارضة السورية لأنها تراها محقة في نضالها. أمَّا إيران فكانت تقف بجانب الظالم الذي أحدث دمارا كبيرا في سوريا وسبب في هجرة الملايين من وطنهم، وقتل ما يزيد عن مائتين مليون آخرين. إلا أن كل هذا لم يكن كافيًا لتغيير فكر أردوغان وتيار الإسلام السياسي الداعم له، ونظرتهم الإيجابية تجاه إيران، ولم تتأثر العلاقة بين البلدين. وقد بات هذا واضحًا خلال زيارة الرئيس التركي أردوغان لطهران بصحبة فريق وزرائه كاملًا، إذ قال خلالها: “إن إيران بيتنا الثاني”.
ثانيا: كانت هناك مشكلة سياسية في الواقع. إذ أن تقارب الحكومة التركية ومودتها للدولة التي تدعم الخصم في الحرب المستعرة في سوريا، كان يعني دعم الخصم أو العدو بطريقة غير مباشرة. إذ كان أردوغان هو الذي مد يد العون لإيران، فيما يتعلق بنقل الأموال، في وقت كانت تعيش إيران صعوبة في بيع نفطها بسبب الحظر المفروض عليها. وإن قسما من الأموال التي كانت تصل إلى إيران من خلال الوسطاء من أمثال بابيك زنجاني ورضا ضرَّاب، في تجاهل متعمد من السلطات التركية، كان يرسَل إلى سوريا لدعم حزب البعث السوري في الحرب الداخلي.
وفي الوقت الذي كانت تستمر بين البلدين هذه العلاقات التي تشوبها أسئلة تصعب الإجابة عليها من الناحية الأخلاقية والسيسة الواقعة كانت تفيض وسائل الأعلام الموالية لأردوغان والحزب الحاكم بأخبار تتهم حركة الخدمة بمعاداة إيران. فعلى سبيل المثال وليس الحصر؛ نشِرت في يناير/ كانون الثاني 2014، في إحدى الصحف الموالية مقالة كتبها أحد المسؤولين في حزب العدالة والتنمية حيث قال فيها “إن حركة الخدمة تموقع نفسها في معارضة إيران. ويرجع هذا إلى سببين رئيسين: الأول، هو أن حركة الخدمة تمثل الانعكاس المحافظ للدولة العميقة، وأن هذا الانعكاس يشكل عدوانا تاريخيا مع إيران”. كما كتب مدير تحرير لإحدى الصحف الموالية كذلك قبل أربعة أشهر: “إن جماعة كولن – عدو لإيران – تعد مخططات لجرّ تركيا إلى حرب مع إيران”.
ولكننا نلاحظ في الأيام الخيرة تحولا جذريا في سياسة حزب العدالة والتنمية تجاه إيران، كما حدث في مواضيع أخرى. والذين كانوا يتعاطفون منذ فترة طويلة مع جمهورية إيران الإسلامية رغم دعم الأخير لبشار الأسد في المجزرة التي يتعرض لها الشعب السوري، وكانوا يصمتون على أردوغان رغم تودده لإيران لدرجة قال بصراحة: “إن إيران بيتي الثاني”، بدأوا بين عشية وضحاها الحديث عن الخطر الإيراني المهدد للكعبة المشرفة، وشرعوا في اتهام حركة الخدمة بالتعاون مع إيران(!) هذه المرة. فتحولت حركة الخدمة التي كانت في نظرهم متعاونة مع أمريكا وإسرائيل، وصارت متهَمَة بالتعاون مع إيران.
وحتى وإن بدأوا الترويج إلى أن فكر وتوجه حزب العدالة والتنمية قد تغير بعد اتفاق إيران مع الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنهم أنفسهم من فتحوا قاعدة “إنجيرليك” أمام طائرات الولايات المتحدة الأمريكية لمواجهة التنظيم الإرهابي داعش. وقال وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو: “إننا نتخذ كل القرارات بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية”. هنا فقط بدأت أجد جوابا للأسئلة التي كانت تدور في رأسي حول سياسة أردوغان وحزب العدالة والتنمية تجاه إيران، إذ بدأت أفكر أن “السياسات القائمة على الأموال” قد تكون هي السبب الحقيقي وراء التراجع التام الذي تشهده سياساتهم في الفترة الأخيرة.
وإن حاولت بعض الأيادي الخفية غلق ملفات الفساد والرشوة التي تكشفت وقائعها في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2013، والتي فضحت دور بعض الساسة من الحزب الحاكم والمقربين من أردوغان ورجل الأعمال إيراني الأصل رضا ضراب في نقل أموال البترول الإيراني عبر تركيا، إلا أن إيران لا تمل من البحث عن 2.8 مليار دولار المفقودة من أموال البترول. وإن السلطات الإيرانية اعتقلت رجل الأعمال بابيك زنجاني الذي يدّعى أنه شريك رضا ضراب، ومن المقرر أن يتم تحويله إلى المحكمة خلال شهر أكتوبر/ تشرين الأول القادم. وأدلى “سلطاني”، عضو لجنة الفساد والرشوة بالبرلمان الإيراني، بتصريحات مثيرة: 1- إن أموال رجل الأعمال الإيراني “بابيك زنجاني” الذي تحقق معه السلطات الإيرانية، في يد صديقه وشريكه رضا ضرَّاب. 2- حركة أموال ضراب وزنجاني يديرها كيان “مافيوي” واحد.
وخلاصة الكلام أنه لم يكن تحول وضع إيران في نظر أردوغان وحزب العدالة والتنمية، من صديق حميم ومن “بيت ثان”، وتحول وضع حركة الخدمة في نظرهم أيضا بسرعة فائقة من اتهامها بالعداوة لإيران، إلى اتهامها اليوم بالتحالف مع إيران، لم يكن عن فراغ، أو من دون أي طائل وراءه.