بقلم: علي بولاج
إن الأحداث والتطورات التي نشهدها حاليًا في تركيا تتطلب بالضرورة الاستفسار والتساؤل عن العلاقات التي تؤسسها التيارات الإسلامية مع الدولة. وثمة العديد من العوامل التي تلعب دورًا في العلاقة التي يقيمها الإسلاميون مع الدولة، يمكن إيجازها على النحو التالي:
- استغلال الدولة لرجالها الذين وضعتهم منذ فترة طويلة داخل المجموعات والتيارات والجماعات الإسلامية، عندما يحين الوقت لذلك.
- اندماج الإسلاميين الذين ترتكز مصالحهم ومآربهم في الأساس على الحياة الدنيوية مع الدولة بسهولة تجاه المغانم الموضوعة أمامهم.
- استيعاب الإسلاميين، الذين ترتكز آراؤهم وأفكارهم السياسية على الاستحواذ على الدولة، لسياسات الدولة بسهولة عندما يتمكنون من فرصة الحكم.
- اعتقاد الإسلاميين بأن إقامة علاقات مع الدولة ستعود عليهم بـ “المكاسب” مع مرور الوقت.
ولعبت هذه العوامل الأربعة دورًا في ممارسة الإسلام السياسي في تركيا. إلا أننا سنتناول في هذا المقال الإسلاميين الموجودين في المجموعة الأخيرة.
لا شك في أن الإسلاميين الذين قدّموا دعمًا للدولة بنية سليمة حققوا بعض المكاسب. فعلى سبيل المثال؛ يتم فتح المجال أمامهم في الإدارات المحلية والمركزية، ويحصلون على العطاءات، ويزيد عدد المباني المخصصة لأوقافهم، ويحصلون بسهولة على منح للطلاب الذين يتولون تعليمهم، ويوظفون رجالهم في مناصب بالدولة، ولا يتم عرقلة فعالياتهم، بل تزيد هيبتهم وسمعتهم لدى الدولة، وهلم جرا. إلا أنهم مع مرور الوقت يفقدون هوياتهم المدنية والمعارضة، ويمنحون الدولة زمام أمورهم لتتحكم فيهم كيفما تشاء، وسرعان ما ينقلبون وتجدهم قد غيّروا فكرهم الديني وفق سياسات الدولة. ولدينا ثلاثة نماذج مثيرة للانتباه في هذا الصدد:
النموذج الأول؛ تعرّضت سفينة مرمرة الزرقاء (مافي مرمرة) التركية التي انطلقت من إسطنبول بهدف إيصال مساعدات إنسانيّة لغزة لهجوم إسرائيلي مسلّح في 31 مايو/ آيار 2010 والذي راح ضحيّته عشرة أتراك وأصيب العديد منهم بجروح متفاوتة. وعليه، تقدّم محامو هيئة الإغاثة الإنسانيّة التركية (İHH) بشكوى جنائيّة ضد إسرائيل، وأصدرت المحكمة نشرة حمراء بحق أربعة مسؤولين إسرائيليين كان من الممكن أن يتم القبض عليهم. إلا أنه تبين لاحقًا أن السلطات التركية لم ترسل مذكرة القبض إلى الإنتربول بالرغم من مرور 15 شهرًا على صدور القرار. والأكثر من ذلك أنها حلّت أعضاء المحكمة الذين أصدروا النشرة الحمراء، بالإضافة إلى أنهم يسعون حاليًا إلى صرف أنظار متضرري هذا الحادث الغاشم عن هذه القضية. والسبب واضح للغاية؛ وهو أن الدولة اتفقت مع إسرائيل. والأكثر من ذلك أن السيد بولنت أرينتش نائب رئيس الوزراء قال في تصريحات له إن هناك وجه شبه بين الهجوم التفجيري الذي وقع قبل أسبوعين في بلدة سروج في مدينة أضنة جنوب شرق البلاد واعتداء “مافي مرمرة”، مستدلًا على ذلك بشكوك بشأن المسؤولين الذين قرروا إنطلاق السفينة. مع العلم بأن هيئة الإغاثة (İHH) لم تبرح مكانها دون علم الحكومة وإخطارها. إلا أن موقف الحكومة المتغيّر يجعل الهيئة في خطر دولي.
والنموذج الثاني؛ تناولت الصحف ووسائل الإعلام العالمية حالات الظلم التي تعرض لها أتراك الأويغور في شينجيانج (تركستان الشرقية) على يد الإدارة الصينية في شهر رمضان الماضي. وهو الأمر الذي دفع أيضًا الكتّاب والصحف التركية الموالية للحكومة أن تفرد مساحات واسعة لهذا الموضوع على صدر صفحاتها.
وبالمناسبة، استطاعوا أن يستغلوا الظلم الذي يتعرض له الأتراك لصالح الحكومة، بقولهم إنه “ليست هناك دولة أخرى سوى تركيا تدافع عن أتراك الأويغور”. غير أن التصريحات التي أدلى بها الرئيس رجب طيب أردوغان خلال زيارته للصين قبل ثلاثة أسابيع بأن أتراك الأويغور على صلة “بالإرهاب”، فسرعان ما تغيّرت لهجة خطابهم، وسكت فجأة أصحاب الأقلام التي كانت تكتب بالأمس مقالات مثيرة تحرك مشاعر الوطنية والقومية التركية لدى الرأي العام. وأدان السيد أصغرجان نائب رئيس مجلس الأويغور العالمي (WUC) موقف الرئيس أردوغان، لدرجة أنهم قالوا “لا توجد دولة في العالم اتهمتنا بصلتنا بالإرهاب غير تركيا”.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام: هل أتراك الأويغور واقعين حقًّا تحت ظلم أم لا؟ بالمناسبة، ظهرت في عقد التسعينيّات شائعة تقول إن الشعوب التركية تحت قمع وضغوطات منذ سنوات طويلة.
حسنًا، هل سنقرر إذا ما كان يتعرّض الأتراك لظلم أم لا بناءً على وجهة النظر الرسمية للدولة التركية؟ للأسف الشديد إسلاميّو الدولة يحددون مواقفهم وفق ذلك.
والنموذج الثالث والأخير؛ إن الحكومة في تركيا التي تعد طرفًا في الحرب الأهلية في سوريا منذ عام 2011 وتقدم أحيانا دعمًا وأحيانًا أخرى تبدي تسامحًا أو تسهيلات تجاه المنظمات التي تحارب ضد نظام الأسد، غيّرت من سياستها تحت ضغط الولايات المتحدة؛ حيث فتحت قاعدة “إنجيرليك” الجوية في مدينة أضنة جنوب البلاد للطائرات الأمريكية علمًا بأن هذه الطائرات لا تقصف مواقع تنظيم داعش الإرهابي فحسب، بل ستشن غارات جوية على أهداف جبهة النصرة والمنظمات الإرهابية الأخرى، وستواصل قصفها.
من ناحية أخرى، بدأ السعوديون في عقد لقاءات سرية مع الأسد. وبحسب القرار الأخير جاءت تركيا في صف سوريا،. كما وافقت على مبادرة إيران. الآن ماذا ستفعل المنظمات والجمعيات الإسلامية المحسوبة على الدولة؟ وهل إسلاميو الدولة سينظمون مظاهرات أيام الجمعة حينما يتم قصف سوريا بالطائرات الأمريكية التي تقلع من أضنة التركية؟ أم سيعلنون -في القريب العاجل-كلا من جبهة النصرة وجماعة الإخوان المسلمين التي ترافق تركيا- التي تسير على خط واحد مع أمريكا- جماعات “إرهابية” يا تُرى؟
ومجمل القول، إنه عندما وافق الإسلاميون وجميع المجموعات الدينية الأخرى على خدمة الدولة وتقديم الولاء والطاعة، فإن “مصالح الدولة العليا” المبنية وفق السياسات المتغيّرة أفقدتهم أخلاقياتهم وجعلتها بلا جدوى. وعندما ينصاع الأشخاص الحقيقيون ذوو الدين والإيمان وراء الشخصية الاعتبارية –التي لا دين ولا إيمان لها وتستهدف تحقيق غرض معين-، فيحدث عندئذ أن تستخدم الشخصية الاعتبارية الأشخاص الحقيقيين، ثم تلقي بهم كالمنديل المستخدم في القمامة، بعدما تحقق غرضها ومصلحتها.