أكرم دومانلي
أنقرة (جيهان) – زُج وطننا الجميل “تركيا” في مستنقع الإرهاب، وكان هذا واضحًا منذ البداية. كانت هناك تحذيرات حسنة النية، لكن المسؤولين عن إدارة هذا البلد لم يصغوا إلى أي كلام، وحدث ما كنا نخشاه، فمن ناحية يواصل تنظيم داعش الإرهابي هجماته الدامية، ومن ناحية أخرى يستأنف تنظيم حزب العمال الكردستاني عملياته الإرهابية.
لقد شهدت تركيا الأسبوع الماضي سقوط عشرات الأشخاص بين قتيل وجريح، كما استشهد العديد من أفراد الجيش والشرطة، ما أدمى قلوبنا. بيد أننا كنا نعرف أننا سنواجه هذه الآلام بسبب أن المسؤولين الذين عميت بصيرتهم جرّوا تركيا إلى حالة من الفوضى العارمة.
واليوم يبحث أولئك عن من يدفع فاتورة فشلهم في إدارة شؤون البلاد والعباد، وكأنهم ليسوا من يتحمل مسؤولية هذه الكارثة!
لم يكن أحد يعرف ما هي خريطة الطريق التي أطلقوا عليها “عملية السلام”، وكان الجميع متحمسًا لمعرفة إلى أي وجهة تسير هذه العملية التي يديرها شخص أو اثنان. كمموا أفواه من فكر في الاعتراض، وحكموا دون محاكمة على من أراد الإعراب عن مخاوفه، وألصقوا تهمة الخيانة بكل من قال “هذه الوتيرة لا تحل القضية الكردية، بل إنها تجعل من حزب العمال الكردستاني فاعلًا دوليًا”.
ما هي الوعود التي قُدمت في أوسلو؟ ثمة ادعاءات حول تصفية رجال الشرطة والجيش وتشكيل وحدات الدفاع الذاتية لتحل محل جهازي الجيش والشرطة. وللأسف فقد جعلوا الجيش التركي مضطرًا لأن يقف موقف المتفرج أمام ما يرتكبه عناصر حزب العمال الكردستاني من قطع للطرق وإرهاب للمارة ونقل المسلحين إلى الجبال وغير ذلك.
تحدث البعض عن أن رئيس هيئة أركان الجيش التركي الجنرال نجدت أوزل حزن بسبب هذه الوضعية وطالب بإقرار تعديل قانوني للتعاطي مع هذه الوضعية التي تمنع الجيش من التدخل، وهو محق في ذلك. لكن الحكومة لم تصغ لمدة طويلة إلى هذا الطلب القانوني. وفي تلك الأثناء وصل التنظيم الإرهابي إلى قوة لم يحظ بها في أي وقت مضى. كان هناك داخل الدولة من يتحركون انطلاقًا من حلم “كردستان الكبير” من أولئك المغامرين الذين يخططون لتوسيع “حدود الميثاق الوطني”. يظن من يسمعهم أن جميع الأكراد حول العالم ينتظرون خاضعين لأحلام السياسة الخارجية التركية…
واليوم عندما فشل الحزب الحاكم في الحصول على أصوات الأكراد ولم يفلح في الحيلولة دون أن يكون حزب الشعوب الديمقراطي حزب جماهيري عاد إلى أدراجه وبدأ من يحكمون تركيا يلعنون حزب العمال الكردستاني وزعيمه المسجون عبد الله أوجلان. بيد أن الطرفين كانا على اتفاق حتى إجراء الانتخابات. ألم يعلن حزب العدالة والتنمية أن أوجلان هو المنقذ؟ ألم يكثر رجال الدولة من المديح إليه؟ ألم يعتبر الكُتَّاب الموالون للحكومة أنه يستحق جائزة نوبل؟
تذكَّروا من فضلكم، كان أردوغان وفريقه قد تعهدوا للشعب في أول دقيقة من إطلاق “مفاوضات السلام” بأن “حزب العمال الكردستاني سيضع السلاح”. فهل حقًا تركوا سلاحًا واحدًا من أسلحتهم بالله عليكم؟! لكن الكُتَّاب الموالين للحكومة حاولوا تجميل هذه الصورة، ألا يقول لهم الشعب “لقد كذبتم علينا طيلة ثلاثة سنوات ولا تزالون تكذبون!”، وألن يسألهم التاريخ “لماذا تلقون التهم على الآخرين في حين أنكم من أكسب هذا التنظيم الإرهابي الشرعية الدولية!”؟
كان كل من لم يفقد بصيرته يرى أن تهديد داعش سيجر تركيا إلى مغامرة دامية. وقد طلبت أنقرة المساعدة من تنظيمات كالقاعدة وجبهة النصرة وداعش بغية إسقاط نظام بشار الأسد في سوريا. ألم تتعاون الحكومة التركية مع حزب الاتحاد الديمقراطي امتداد حزب العمال الكردستاني في سوريا؟ ألم يستضف مسؤولو المخابرات التركية زعيم ذلك التنظيم في أنقرة؟ أليس هؤلاء الأشخاص هم أنفسهم من أعلنوا هذا التنظيم تنظيمًا إرهابيًا اليوم وطلبوا العون من تنظيم إرهابي كداعش وغيره؟
نشرت وسائل الإعلام التركية والأجنبية أخبارًا كثيرة حول الأريحية التي يتمتع بها عناصر داعش باستخدام الحدود التركية في تحركاتهم، لكن أنقرة لم تنصت إلى هذه الأخبار حتى قتل عناصر هذا التنظيم أفرادًا من الجيش والشرطة بمدينة نيغده التركية، وأما من ألقي عليهم القبض منهم اعترفوا أنهم تلقوا مساعدات باسم حكومة الجمهورية التركية.
هل اتخذت الحكومة التدابير اللازمة؟ استطاع داعش حشد عناصر جديدة له في العديد من المدن التركية وفي مقدمتها إسطنبول وأنقرة، وعبر بهم الحدود ونقلهم إلى سوريا، فالجميع يعرف هذا، ألم يسمع المسؤولون بهذا الحدث مع أن الجميع سمعوا؟
إن قلوبنا تحترق كمدًا وأعيننا تدمع أمام جر شبابنا إلى الموت واستشهاد جنودنا من الجيش والشرطة. إن ألمنا وغضبنا كبيرين! كان يمكن للحكومة أن تتخذ التدابير اللازمة، لكنها لم تفعل. كان بإمكانها حل القضية الكردية بسهولة، لكنها لم تفعل. كان بالإمكان القضاء على من يرتكبون الجرائم باسم الدين من خلال مراجع الدين الأساسية ورسالة السلام، لكن هذا لم يحدث. لا شك أن الذين يلهثون وراء السراب من الآمال والأهواء والذين يستمدون خلاصهم من الفوضى من أجل التستر على جرائمهم يحملون أوزارا كثيرة.
واليوم يضيفون ذنبا جديدا إلى ذنوبهم القديمة؛ إذ يلصقون دون حياء تهمة الإرهاب بمنظمات المجتمع المدني التي ليس لها علاقة لا من قريب ولا من بعيد بالإرهاب. لكننا لا يسعنا في هذا المقام إلا أن ندعو من يدافعون عن هذه الجرائم إلى التحلي بالأخلاق وتحمل المسؤولية وأن نقول لهم “إن الله رقيب عليكم”، هذا طبعا إن كان لا يزال الإيمان بالله واليوم الآخر يملأ قلوبهم…
لا تقلقوا أبدًا، فتركيا ستتخطى هذه الكبوة أيضًا، وستستطيع إنجاز هذه المهمة المقدسة بالعقل والضمير والعقيدة. بيد أن الدمار كان كبيرًا ولذلك فالإصلاح سيأخذ وقتًا. وعندما ينقشع الغيوم سيفضح المشهد الذي سنراه أولئك الذين تسببوا في الفوضى واتهموا الأبرياء من أجل التستر على جرائمهم. وسيشعر البعض في ذلك اليوم بالحسرة والندامة.
ليس أمامنا حيلة سوى التصرف بالعقل السليم والميل إلى السلم ومراعات حقوق الأخوة والتحلي بالصبر والتحمل. فالسلطات الظالمة ستنهار يومًا ما، وعلينا أن نتجنب من البغضاء والعدوان حتى لا نترك وراءنا ثأرا، كما علينا أن نكون حريصين على ألا تصاب وحدة تركيا بالأذى…
لا يمكن إدارة الدولة بهذه الطريقة
نشهد في الآونة الأخيرة تخلي مسؤولين في أجهزة الأمن والقضاء في تركيا عن العمل بالدستور والقوانين وتصرفات مخالفة للقوانين. فيخرج علينا مدير أمني ليطلق اتهامًا بشأن مجموعة من الناس وكأنه قاض يصدر قرار المحكمة، ليلقي القبض عليهم مبرر قانوني. ومن ناحية أخرى نرى مسؤولًا أمنيًا آخر يتهرب من المسؤولية عندما يلقى 32 شابًا مصرعهم في بلدة سروج التي هو رئيس أمنها في هجوم إرهابي تم تسجيل لحظاته بكاميرات المراقبة ليربط هذه التفجير بأكذوبة “الكيان الموازي”… ومن ناحية أخرى نشهد مدعيا عاما يطالب بحظر بعض القنوات الفضائية دون أن يكون له سلطة في ذلك… أفلا يعتبر هؤلاء منتهكين للدستور والقوانين؟
إن الأشخاص الذين يربطون بين إرهاب داعش وحزب العمال الكردستاني وبين “الكيان الموازي” قد فقدوا عقولهم أو ضمائرهم! فالذين يفعلون هذا عليهم أن يقدموا لنا دليلًا ملموسًا أو يتركوا الأقلام التي في أيديهم ويستقيلوا من مناصبهم…
هل تبقى لدى الشعب ثقة بالقضاء في وقت ينتهك البعض الدستور كل يوم ويضعون القوانين على الأرفف وطبقوا منها ما يوافق أهواءهم؟ إن السبب الرئيس لوجود الدولة هو إقرار العدالة التي يبدأ إقرارها بخضوع الدولة للدستور والقوانين.
هل لكم أن تتخيلوا أن المحكمة الدستورية تصدر حكمًا واضحًا بشأن إغلاق مراكز دروس الدعم الخصوصية، لكن وزارة التربية والتعليم تبحث عن طريق للتنصل من تنفيذ هذا الحكم. كانوا يقولون “ننتظر الحكم المصحوب بالحجج”، فالقرار الذي ينتظرون صدوره قد صدر بالفعل بعدما أدحضت المحكمة الدستورية جميع مقترحات وزارة التربية والتعليم التي لم تنفذ هذا الحكم فيما يعتبر إخلالًا واضحًا لأحكام الدستور.
كان الداعية المعروف بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله يقول: “قد يحتوي الضد أحيانا ضده في ثناياه، ويكون اللفظ أحيانا – في لغة السياسة – عكس المقصود”… رحمة الله عليك أيها الداعية العظيم! لقد فك شفرة أخلاق النفاق للسياسيين، ويضيف بقوله: “وقد يلبس الظالم قلنسوة العدل على رأسه (حتى يظنه الناس عادلا حقا). ألا تنير هذه الكلمات التي قالها ذلك العالم الرباني منذ عقود دربنا اليوم؟
يجب على الجميع (لا سيما المسؤولين عن الحكم في البلاد) أن يعودوا إلى مجال مسؤوليتهم الأساسية، ويتخلوا عن الظلم، وألا يضحوا بكرامتهم في سبيل سياسة النفاق، فلا حاجة في الواقع إلى دولة يحتكرها حزب بعينه ولا خير في إنسان يكون عبدًا لدولة يحتكرها حزب…