عمر نور الدين
في السياسة الخارجية لتركيا تحت حكم حزب العدالة والتنمية تتكرر أساليب التعامل مع القضايا الحساسة بالطريقة نفسها وكأنها نسخ كربونية متطابقة، ترسخ قواعد مدرسة دبلوماسية تقوم على الإخفاق وافتقاد الرؤية السليمة واستشراف المستقبل، ولعل مرجع ذلك هو أن السياسة الخارجية باتت طوال سنوات العدالة والتنمية الثلاث عشرة رهينة للحسابات الداخلية والمصالح الضيقة التي تراعى رغبات فرد واحد.
تركز سياسة العدالة والتنمية منذ البداية على صندوق الانتخابات، واعتبر الحزب أن أكبر إنجاز له هو البقاء في السلطة منفردا لثلاث دورات متعاقبة وأفرغ الديمقراطية من كل مضامينها، فيما عدا صناديق الانتخابات التي لفظته في نهاية المطاف ولقنته درسا قاسيا خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة في 7 يونيو/ تموز الماضي وحرمته من الاستمرار في الحديث عن إنجاز الحكم منفردا لأطول فترة في تاريخ الجمهورية التركية.
وبجانب هذا البعد، الذي تغذى على نزعة غرور القوة لدى رئيس الحزب السابق وأحد مؤسسيه الرئيس رجب طيب أردوغان، والتي تسلل تأثيرها إلى باقي الهياكل القيادية للحزب نزولا إلى قواعده في الفروع والتشكيلات، أصاب التركيز على توظيف القضايا الإقليمية في الدعاية الانتخابية فضلا عن اعتماد مبدأ الانتهازية والتحالفات المؤقتة، سياسة تركيا الخارجية في مقتل.
وبطبيعة الحال، قاد هذا المنظور في السياسة الخارجية إلى اعتماد تكتيكات مرحلية أظهرت عدم تمتع تركيا بمدرسة دبلوماسية راسخة أو استراتيجية في التعامل مع القضايا والتحديات المختلفة، في وقت كانت تدعي فيه تركيا أنها ستتحول إلى قوة عظمى وأنها ستكون دولة كبرى تحت قيادة” زعيم العالم”، أردوغان، كما صور له حملة المباخر من حوله، لدرجة أن هذا اللقب أصبح من الشعارات الأساسية في دعاية الحزب في كثير من الاستحقاقات.
وانطلاقا من هذه المبادئ التي لا تنظر إلا إلى المصالح الضيقة، والتي تفترض أن الطرف المقابل، لايدرك حقيقة التعامل التركي، انطبعت السياسة الخارجية لتركيا في كثير من المواقف الحساسة بالنفاق، وليس من دليل واضح على ذلك أكثر مما فعله أردوغان في أواخر مارس/ آذا الماضي، عندما حمل بشدة على إيران، التي كان وصفها خلال زيارة لها العام الماضي بأنها بيته الثاني، ووجه لها اتهامات خطيرة بدعم الإرهاب في كل من سوريا والعراق وطالبها بالخروج منهما، وبعد أيام قليلة كان يزور طهران وأعلن من هناك أن هناك تطابقا في وجهات النظر بين إيران وتركيا بشأن التعامل مع القضايا والتحديات في المنطقة، وبالطبع خلال الساعات القادمة سيتغاضى عن التهديدات الإيرانية بتحويل سوريا إلى مقبرة لجنود تركيا إن فكرت في دخولها، ليهنئ ويرحب بالاتفاق النووي بين إيران والدول الغربية.
هذه الأيام أيضا يتكرر الموقف وكأنه نسخة بالكربون مع الصين، إذ أقامت وسائل الإعلام الموالية لأردوغان الدنيا ولم تقعدها بشأن ما قالت إنه اضطهاد يتعرض له مسلمو الأويغور من أصول تركية وأن السلطات في الصين حظرت عليهم الصيام في رمضان ما دفع إلى احتجاجات واسعة طالت العديد من المصالح الصينية في تركيا، قبل أن يصدر بيان عن رئاسة الجمهورية التركية ينفي صحة ما قيل عن اضطهاد الصين للأويغور، ويطالب بشكل غير مباشر بالهدوء حتى لا تؤثر الاحتجاجات على الزيارة القادمة لأردوغان للصين والتي سيتم خلالها توقيع العديد من الاتفاقيات، ليخرج الإعلام الموالي لأردوغان، باتهامات للمحتجين الذين حرضهم على الصين بأنهم يخططون لزعزعة الاستقرار في تركيا عبر تكرار الاحتجاجات الشبيهة بأحداث جيزي بارك في إسطنبول في 2013، والتي كانت وصفت من جانب أردوغان بأنها مؤامرة على تركيا.
مثل هذه النماذج تكررت في التعامل مع دول أخرى منها روسيا والسعودية التي اتهمها أردوغان بدعم ” الانقلاب العسكري” في مصر، ثم زارها بعد ذلك ليعلن أن هناك توافقا كبيرا بين البلدين وأنهما يتعاونان في جميع قضايا المنطقة.
وكانت نتيجة هذه السياسة الخارجية العرجاء أن فقدت تركيا حيثيتها ومكانتها في محيطها الإقليمي في الشرق الأوسط، الذي كانت دوله ترحب بها في إطار الأواصر القديمة والدين المشترك، كما فقدت ترحيب الغرب بها كقوة ديمقراطية معتدلة بسبب الشجار الدائم بين أردوغان والدول الأوروبية حول قضايا لا تخص تركيا، وبسبب الهجمات المتكررة على الحريات الأساسية في تركيا، والتصدي العنيف للتصريحات الأوروبية التي تنتقد هذه الأوضاع.
وتوازيا مع مبدأ النفاق الذي اعتمدته السياسة الخارجية لتركيا، والذي أظهرها بمظهر الدولة التي لا تمتلك عقلا أو اتزانا في إدارة العلاقات مع الآخرين، أصبح كل من يوجه انتقادا لهذا التخبط خائنا، بدءا من الأحزاب السياسية وصولا إلى الرئيس السابق عبد الله جول، رفيق درب أردوغان وأحد أضلاع تأسيس حزب العدالة والتنمية.
لم يتحمل أردوغان أن يوجه جول، وهو دبلوماسي ووزير خارجية سابق لتركيا قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية، انتقادا لسياسة تركيا الخارجية وتعاملها مع قضايا الشرق الأوسط ومطالبته بمراجعة هذه السياسة حتى تستعيد تركيا مكانتها كمصدر إلهام لشعوب المنطقة.
ولم يعجب أردوغان، ما قاله جول عن ضرورة تطبيع العلاقات مع مصر والسعي لتحسينها بعد الضرر التي لحق بها بسبب تصريحات ومواقف أردوغان، وعلى الرغم من أن حديث جول، الذي كان على مأدبة إفطار يحضرها أردوغان، كان عاما إلا أن أردوغان التقط حديثه عن مصر وضرورة تقييم العلاقات معها بسبب التطورات الجارية في المنطقة والتي قد ينعكس تأثيرها سلبا بشدة على تركيا، ليهاجمه ويتهمه بالخيانة والجبن، إذ قال، في إشارة إلى جول، إننا أخرجنا الخونة والجبناء من صفوف حزب العدالة والتنمية وإن الحزب سيواصل طريقه كما بدأ..
وأخيرا ، إذا كان هناك من عجز في السياسة الخارجية التركية أو قصور في الأداء الدبلوماسي .. فيكفي أن تنظروا إلى تصريحات أردوغان.