عبد الحميد بيليجي
كانت زيارة حساسة أجريت على مستوى رئاسة الوزراء التركية للعراق. وكان من المقرّر الاجتماع بالمالكي ومن ثم الزعيم الشيعي السيستاني في النجف. وكنتُ أحد المشاركين في هذه الزيارة بوصفي صحفياً. وكانت المحطة الأخيرة من هذه الجولة التي جرت في مارس 2011 هي الجزء الأهمّ من هذه الزيارة بالنسبة لي. حيث كان رئيس وزراء تركي سيزور للمرة الأولى إقليم كردستان العراق وسيلتقي رئيسه مسعود البارزاني. وكانت شوارع أربيل قد زُيّنت بالأعلام التركية آنذاك
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]يبدو أن “العقل المدبر الأعلى” للعمال الكردستاني، الذي فرض سيطرته اليوم على منطقة كبيرة من شمال سوريا، وحاز على تعاطف دول العالم بفضل محاربته تنظيم داعش، ونجح في تشكيل مجموعة كبيرة في البرلمان التركي، غلب على استراتيجية حكومة العدالة والتنمية التي تاهت في الطريق وباتت لا تعرف ماذا تفعل فسلّمت زمامها إلى “قلة أوليغارشية لا يمكن الوثوق بها والاعتماد عليها”.[/box][/one_third]اجتمع وفود الطرفين على مائدة العشاء عقب اللقاءات. وكانت الأجواء ودية للغاية. وقد عزف وزير الاقتصاد ظفر تشاغلايان بعض المقطوعات الموسيقية على البيانو وسط الصالة. أما إبراهيم كالين، أحد مستشاري أردوغان فعزف بالبزق وغنى أغنية اليمن الشهيرة، بينما كان أردوغان والبارزاني يغنيان معه. وكان البارزاني قد أوضح سبب طلبه لهذه الأغنية بقوله: “في السنوات التي حاربتُ خلالها مع أبي في الجبل كان لدي صديق من جزرة اعتاد على الإمساك ببندقيته وكأنها بزق ليغني هذه الأغنية، وقد استشهد. وكلما سمعت هذه الأغنية أتذكر تلك الأيام”.
لقد كنّا شهود عيان لحادثة تاريخية ما كنا لنتخيلها حتى قبل سنوات عدة. حيث كان البارزاني وطالباني من الأسماء المنبوذة في السياسة الخارجية القديمة لتركيا. ومع أن الرئيس التركي الراحل تورجوت أوزال حاول الحوار معهما في مطلع التسعينيات، لكن ذلك توقف رسميا عقب وفاته، فبدأت السياسة الرسمية والإعلام المركزي بإهانة هذين الاسمين. ذلك لأن أنقرة كانت تعتبر الحكم الذاتي لأكراد هذه المنطقة التي كانت تصفها بـ”شمال العراق” خطّاً أحمرَ لا يمكن تجاوزه، ناهيك عن قبولها بإقامة دولة مستقلة لهم. أنقرة كانت تعترض على ذلك بشدة بسبب تخوفِها من تقسيم العراق وانتقال هذه الظاهرة أو العدوى فيما بعد إلى تركيا وحضورِ حزب العمال الكردستاني في هذه المنطقة.
وكان التركمان هم الحلفاء الطبيعيون لتركيا في المنطقة. وكان يجري الحديث كثيراً عن ضمّ المنطقة إلى الحدود التركية لبقائها ضمن الحدود الوطنية المرسومة وفق “الميثاق القومي” في أواخر عهد الدولة العثمانية. والبرودة بين أنقرة والمنطقة استمرت حتى بعد سقوط صدام حسين وتحول العراق رسمياً إلى فيدراليات، لدرجة أنها كانت تبدي ردة فعل حتى على تسمية “كردستان” الواردة في الدستور العراقي.
وكان يرنّ في أذني كلام الساسة والدبلوماسيين الذي يذكّر بالخطوط الحمراء لتركيا في العراق حينما كنت استمع للأغنية التي غناها أردوغان والبارزاني معاً. حيث كان كل من المنطقة والسياسة الخارجية انقلبا رأساً على عقب، فأصبح إقليم كردستان أقرب دول الجوار لتركيا. وتغيّرت الخطوط الحمراء لأنقرة إلى وردية إما بسبب أنها لم تستطع اتباع سياستها الصحيحة التي وضعتها من قبلُ أو لأن هذه السياسة كانت خاطئة منذ البداية.
إن قول أردوغان “لن نسمح بقيام دولة في شمال سوريا”، بعد أن سيطر الاتحاد الديمقراطي الكردي، امتداد منظمة حزب العمال الكردستاني في سوريا على تل أبيض التي كانت تحت سيطرة داعش، ذكرني بسياستنا الملتوية المتقلبة تجاه العراق. والأمرّ من ذلك أن سياستنا تجاه سوريا أفلست منذ البداية. إذ كانت وسائل الإعلام التابعة لأردوغان وحزب العدالة والتنمية تعتبر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، الذي وسع من نطاق سيطرته على روج أوفا قبل أسبوع، أخطر من تنظيم داعش، لكن نراها اليوم تدعو الجيش التركي لمهمة عاجلة لينفّذ عملية ضد تنظيم داعش في سوريا!
وبدأت الحكومة تطالب الجيش باتخاذ التدابير اللازمة كي لا تسيطر داعش على المنافذ الحدودية الهامة مثل أونجو بينار وجيلفا جوزو. والهدف من هذا الطلب، الذي سيدخل تركيا في فوضى، غير واضح؛ فهل هو الاتحاد الديمقراطي الذي تخاف (تركيا) من تأسيسه دولة كردية، أم داعش الذي يحارب الأول، أم نظام الأسد الذي تسعى لإسقاطه؟ فإذا كان الهدف داعش فلماذا ليس هناك أي موقف صارم ومكافحة جادة وفاعلة ضده في الداخل والحدود؟ ذلك أن أكثر المنافذ الحدودية تحت سيطرة داعش أو الاتحاد الديمقراطي أو غيرهما من فصائل المعارضة.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]لن تكون عاقبة الخطوط الحمراء لحكومة العدالة والتنمية مختلفة عما كانت في العراق إن ظلّت تتبنّى هذه العقلية! لذلك فإن تركيا بحاجة ماسة إلى استراتيجية جديدة وصحيحة قبل دقّ طبول الحرب.[/box][/one_third]وإذا كان التهديد هو الاتحاد الديمقراطي فما معنى عقد لقاء بين تركيا ورئيس الاتحاد صالح مسلم في العاصمة أنقرة؟ ألم تكن حكومة العدالة والتنمية هي من مهّد الطريق للعمال الكردستاني ليكسب نوعاً من الشرعية الدولية عبر اتخاذه طرفاً ولاعباً في مفاوضات السلام التي استمرت حتى قبل 3 أشهر؟
كان معروفاً من البداية أن سوريا ستكون من أولويات العمال الكردستاني بسبب علاقاته مع الاتحاد الديمقراطي وبقضل وقف إطلاق النار بينه وبين حكومة العدالة والتنمية بموجب مسيرة السلام. كما أن المنظرين والحكماء الذين وجّهوا الحكومة بآراءهم ومقترحاتهم في هذا الصدد كانوا يزعمون ويفترضون أن عملية السلام ستتجاوز تركيا لتكون “حملة إعادة رسم حدود المنطقة المرسومة وفق اتفاقية “سايكس – بيكو”، وأن كلاً من أكراد العراق وسوريا سيكسبون عاجلاً أم آجلاً كياناً مستقلاً، لذلك فإن الموقف الصحيح هو فتح الطريق أمامهم وتأييدهم بدلاً عن الصراع معهم، بل إن ذلك سيؤدي بنا إلى فتح الأشرعة نحو آفاق “تركيا الكبرى”، على حد زعمهم. لذلك فإن الصورة الحالية التي ظهرت اليوم في المنطقة هي نتيجة طبيعية للاستراتيجية المتبعة تجاه العمال الكردستاني والسياسات المنتهجة بشأن الأزمة السورية.
ويبدو أن “العقل المدبر الأعلى” للعمال الكردستاني، الذي فرض سيطرته اليوم على منطقة كبيرة من شمال سوريا، وحاز على تعاطف دول العالم بفضل محاربته تنظيم داعش، ونجح في تشكيل مجموعة كبيرة في البرلمان التركي، غلب على استراتيجية حكومة العدالة والتنمية التي تاهت في الطريق وباتت لا تعرف ماذا تفعل فسلّمت زمامها إلى “قلة أوليغارشية لا يمكن الوثوق بها والاعتماد عليها”.
ولن تكون عاقبة الخطوط الحمراء لحكومة العدالة والتنمية مختلفة عما كانت في العراق إن ظلّت تتبنّى هذه العقلية! لذلك فإن تركيا بحاجة ماسة إلى استراتيجية جديدة وصحيحة قبل دقّ طبول الحرب.