علي بولاج
يحاول محمد عابد الجابري أن يشرح التاريخ السياسي للعرب والمسلمين من خلال ثلاثة مصطلحات محورية: العقيدة، القبيلة والغنيمة. ويرى الجابري، الذي يتحرك بشكل كبير انطلاقًا من مفهوم علم الاجتماع / السوسيولوجية عند بن خلدون، أن هذه المصطلحات الثلاثة هي التي حدَّدت العقل السياسي الخفي للتاريخ.
إن “العقيدة” هي التي كانت العامل الأساسي في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم والمراحل الأولى من حركات الإصلاح الكبرى التي تبعت هذا العهد النبوي. وتلت مرحلةَ العقيدة مرحلةُ “الدولة” التي قامت على أكتاف عصبية “القبلية”. أما القوة الدافعة الرئيسة في المراحل التالية فكانت “الغنيمة”.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]إن “العقيدة” هي التي كانت العامل الأساسي في عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم والمراحل الأولى من حركات الإصلاح الكبرى التي تبعت هذا العهد النبوي. وتلت مرحلةَ العقيدة مرحلةُ “الدولة” التي قامت على أكتاف عصبية “القبلية”. أما القوة الدافعة الرئيسة في المراحل التالية فكانت “الغنيمة”.[/box][/one_third]ويمكن أن يكون هذا التصور المستلهَم من فكر بن خلدون موضحاً لوضع العالم الإسلامي الحديث. فالموجة الثالثة من موجات الهجرة الثلاث الكبيرة التي تشهدها البلدان الإسلامية، بما فيها تركيا، متواصلة بسرعة لا تصدق. واستغرق استقرار المجموعات المهاجرة في العالم في المناطق السكنية آلاف السنين، وتحققت الهجرة من الريف إلى المدينة خلال فترة معينة كذلك، إلا أن حركات انتقال السكان من الريف إلى الحضر، وكذلك من ضواحي المدن إلى مراكزها، تتواصل اليوم بشكل سريع.
وتشير واقعتان في تركيا والعالم الإسلامي إلى الخصائص الباثولوجية لدينا (علم الأمراض الحديثة): إحداهما إجبار المجتمعات الإسلامية على قبول الحداثة بطريقة قسرية وآلية، والأخرى اضطرارها للعيش في ظلّ حكم أنظمة سياسية لم تجرّبها من قبل ولم تنبع من طبيعتها وقيمها الذاتية.
يعلم الجميع أن اليمين واليسار المركزيين يشاركان بأحزابهما المتطرفة في الصراع الديمقراطي من أجل الوصول بطبقة معينة إلى سدة الحكم، أما عندنا فتشكّلت العصبية القبلية وعشائر المدن باعتبارها أحزاباً. ولأنه تنفَّذ في مجتمعاتنا بطرق قسرية حزمة الإصلاحات والبرامج الاقتصادية التي يطرحها الوطن الأم (الغرب)، فإننا لا ننجح في إيجاد اتساق بين البنيتين الإنتاجية والتوزيعية. فهذا النوع من الدول (البلدان الإسلامية والتي على شاكلتها) تتمّ برمجتها باعتبارها وحدات هامشية لتمنح الحياة والقوام للقوى الاقتصادية والعسكرية والسياسية للوطن الأم (الغرب) بشكل متصل. ومن هذا المنطلق، فإن كل حملة اقتصادية وتنموية تصبّ في مصلحة الوطن الأم (الغرب) أكثر منا. وفي هذا الإطار، فإن إنشاء ميناء جوي ثالث في إسطنبول لا يربك العالم الغربي، بل على العكس تمامًا فإنه يضيف قوة إلى قوته. بالضبط تمامًا كما زادت نسبة مبيعات شركة كوكاكولا في السوق المحلي التركي بنسبة 60% مع دخول العلامة التجارية كولا توركا إلى السوق كمنافس.
لا تكمن المشكلة في البنية الإنتاجية المفروضة علينا فحسب، بل المشكلة تكمن أيضاً في التقسيم؛ إذ إن السوق الرأسمالي ربط التقسيم وتوزيع الموارد في الدول المتقدمة بنظام وقواعد محددة. أما الموارد لدينا فيتمّ توزيعها بوصفها “غنائم”. ولهذا السبب فإن عدم التناسق بين شكل الإنتاج وتوزيع الدخل يشكِّل أساس الصراعات السياسية، فالقبيلة التي تسيطر على الدولة توزع المُلك على حسب هواها من خلال الآليات البيروقراطية.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ]عندما تبدأ السياسة باتخاذ “الحرية والأخلاق والعدل” أساسًا لها ستتخلص حينها “الدولة” من كونها “قبيلة”، و”السلطة” من كونها “ملكاً”، و”الدخل القومي” من كونه “غنيمة”. وهذه مهمة السياسات الإسلامية، لا مهمة اليمين واليسار.[/box][/one_third]كانت أحزاب اليمين واليسار المركزية ستنهار إن عاجلًا أو آجلًا؛ لأنه لم تكن لها أسس وأرضية اجتماعية تاريخية ومادية، وقد انهارت بالفعل، وسيتجه العالم الإسلامي كذلك إن عاجلًا أم آجلًا إلى السياسات التي ولدت من رحم احتياجاته الحقيقية ومُثله الأخلاقية. وعندما تبدأ السياسة باتخاذ “الحرية والأخلاق والعدل” أساسًا لها ستتخلص حينها “الدولة” من كونها “قبيلة”، و”السلطة” من كونها “ملكاً”، و”الدخل القومي” من كونه “غنيمة”. وهذه مهمة السياسات الإسلامية، لا مهمة اليمين واليسار. فلو كان الجيل الثالث من الإسلاميين قد وضعوا “إنقاذ الدولة” أو “السيطرة على الدولة” جانبًا واستطاعوا القيام بمهمة “إعادة التعريف بالدولة”، لكانوا قد نجحوا في هذه المهمة إلى حد معين. وكان هذا مرتبطًا بتطوير سياسة بديلة على أرضية كلامية وفقهية صلبة. بيد أن الجيل الثالث من الإسلاميين اتخذوا الطاقة الناتجةَ عن العصبية للسوسيولوجية البدوية المتدفقة إلى المدن كأساس لهم. وما هؤلاء الإسلاميون إلا نتاج هذه السوسيولوجية. ولذلك فإن هؤلاء البدو أرادوا أن يمتلكوا كل ما يمتلكه الحضر من خلال شعارات وطنية مثل “الإرادة الوطنية، شعبنا العزيز، الدعم الشعبي” وما إلى ذلك. وعقيدة هذه الفئة الاجتماعية البدوية التي أفرزت زعماءها السياسيين هي: “شعبنا العظيم، الإرادة الوطنية”؛ فيما قبيلتها “ائتلاف العشائر” التي وضعت نصب أعينها السيطرة على قوة الحضر وثرواتهم؛ أما الموارد البيروقراطية والمادية والاقتصادية التي بسطت نفوذها عليها من خلال الطرق الديمقراطية فهي “الغنيمة” التي تتقاسمها فيما بينها.
وربما كانت هذه الوضعية التي عليها تركيا اليوم قد تغيرت لو لم يتودد الجيل الثالث من إسلامييها إلى الحضر، ولم يقلدوا طريقتهم في السلطة والحياة، واستطاعت النُسَخ الثلاث من الفكر الإسلامي الاجتماعي والسياسي والفكري الوصول إلى اتفاق بشأن فلسفة حكم جديدة. لكننا فشلنا في هذه المهمة، ولن يستطيع السلفيون في مصر والسعودية النجاح في هذه المهمة أبدًا. ولقد كانت الإمكانية النظرية والواقعية لدى جماعة الإخوان المسلمين، لكن النظام الدولي أراد أن يوقف مسيرتهم في الوقت الراهن، غير أن هذه المسيرة ستستمر.