عمر نورالدين
من الطبيعي أن يناقش الموضوع السوري الآن على طاولة مجلس الأمن القومي التركي، بعد أن فشلت مناقشته منذ البداية في أروقة الدبلوماسية التركية التي كانت الأزمة السورية نقطة مفصلية كشفت عن مدى هشاشتها وضعفها تحت حكم العدالة والتنمية، لينتقل نموذج العجز في السياسة الخارجية لتركيا من سوريا إلى مصر إلى ليبيا ليبيا.
بغض النظر عن دوائر الضعف الأخرى المحيطة بتركيا في سياستها تجاه دول الجوار من اليونان غربا إلى أرمينيا شرقا، فإن سياسة تركيا تجاه الشرق الأوسط والدول العربية تحديدا كانت نقطة اختبار حاسمة في نجاح أو فشل السياسة الخارجية لتركيا، ذلك أن حزب العدالة والتنمية جاء إلى الحكم رافعا شعار العودة إلى الجذور ومناطق النفوذ وسياسة” صفر المشاكل مع دول الجوار”.
لن أسهب طويلا في تعداد كبوات السياسة الخارجية لتركيا في تعاملها مع قضايا الشرق الأوسط بدءا من القضية الفلسطينية وتوظيف مأساة غزة لأغراض انتخابية ضيقة، مرورا بالأزمة السورية التي بدأت مثل دوامة نتجت عن حجر ألقي في ماء فاتسعت دوائره حول المركز، وكان يمكن من البداية وقف هذا التوسع الأفقي الذي أكل الأخضر واليابس في سوريا وتركها دولة مقسمة يعاني شعبها ويلات الموت واللجوء.. لكن الوقت ضاع.
وليس انتهاء بالأزمة السورية، وإنما مرورا بليبيا التي حاولت تركيا أن تلعب دورا في حل أزمتها فإذا بها تصبح أكبر عامل لتعقيد الوضع وتحويل ليبيا إلى دولة فاشلة، وكانت النتيجة طرد تركيا من ليبيا بشكل مهين.
اليوم، تحاول تركيا العودة إلى الساحة السورية، لكنها أيضا عودة في الوقت الضائع تفرض عليها أن تخوض حربا من أجل حماية حدودها، أزمة كبيرة وضعت تركيا نفسها فيها منذ أول تصريح للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي كان رئيسا للوزراء مع بدء تباشير الأزمة السورية في عام 2011 عندما قال إنه سيصلي في المسجد الأموي بدمشق في غضون شهرين، تصريح عكس قراءة خاطئة لموازين القوى على الأرض، واعتمد على نظرة إيديولوجية خاطئة إذ كان يعتقد في ذلك الوقت أن الإخوان المسلمين في سوريا سيكون الفصيل المرشح لاعتلاء السلطة بعد الإطاحة السريعة بنظام بشار الأسد المتجذر.
مرت السنون، أريقت دماء الآلاف وشرد الملايين من السوريين في مخيمات اللجوء في تركيا والأردن ولبنان وغيرها من دول العالم، تعقدت خريطة الصراع في سوريا بشدة، وتغلغل المتشددون وأقاموا ولايات داخل الدولة، دافع الأكراد عن كيانهم وسنحت لهم الفرصة لتأمين مساحة لهم في شمال سوريا، دخلت إيران بقوة لدعم بشار الأسد واستمرار سيطرته على المساحات التي يبسط عليها نفوذه، وبقيت روسيا ظهيرا قويا له تحميه في الأمم المتحدة والمحافل الدولية، وتدعمه في حربه، ظهرت تنظيمات إرهابية من جماعات وألوية وبزغ تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي داعش كظاهرة مزعجة، بينما تركيا تراقب وتنتظر وتصرح المرة تلو الأخرى” لن نقف صامتين تجاه ما يجرى في سوريا” .
تعرضت تركيا بسبب سياستها في سوريا لاتهامات بدعم الإرهاب وتنظيم داعش، بعضها ربما يكون حقيقيا والآخر قد يتجاوز الحقيقة، بينما كان الوقت يضيع، والخريطة تتعقد أكثر وأكثر، وتركيا التي لن تبقى صامتة باتت مكتوفة الأيدي أمام ما تتعرض له أحيانا من هجمات في عمق أراضيها أو على الأماكن الرمزية المهمة لها كضريح سليمان شاه وما أثير حوله وما أحاط به من ادعاءات، وفضلا عن ذلك لم يكن بمقدور تركيا أن توقف طوفان اللاجئين المتدفقين على أراضيها.
منذ البداية لم تفكر تركيا بالطريقة التي كان يتعين عليها أن تفكر بها تجاه ما يجرى في سوريا، فخرجت من المعادلة ولم تنجح في أن تكون لاعبا بارزا على الساحة السورية كاللاعبين الآخرين.
والآن وبعد أن تشكلت ملامح جغرافية معقدة وضارة لتركيا على حدودها الجنوبية تخطط تركيا لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه عن طريق ضربات عسكرية لتقطيع أوصال دولة كردية محتملة على حدودها.
لكن المتابع لما يدور من نقاشات بشأن شكل التدخل العسكري المحتمل من جانب تركيا، وحجم التباين في التقديرات بين الحكومة والرئيس رجب طيب أردوغان من جانب والجيش التركي من الجانب الآخر، سواء كان الهدف إقامة منطقة عازلة أو منطقة حظر طيران، أو الدخول في العمق السوري لوقف خطر داعش والأكراد، يدرك بلاشك أن العقلية نفسها التي لم تنجح في التعامل مع الأزمة السورية من البداية لاتزال هي التي تحاول أن تسود.
إن حجم التعقيدات الداخلية والخارجية التي تعترض أية خطوة يمكن أن تقدم عليها تركيا بشأن سوريا في الوقت الراهن.. يشير إلى أن تركيا، المنشغلة بالدفاع عن قصر أردوغان الأبيض وسط المخاطر الخارجية والحسابات الداخلية الخاصة بالحكومة الجديدة، تلعب مرة أخرى في الوقت الضائع.