عبد الحميد بيليجي
فسر رئيس الوزراء التركي أحمد داوداوغلو فشل حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية التي أجريت في السابع من يونيو/ حزيران الجاري بقوله؛ “أصابنا التسمم السلطويّ والكبر والغرور والدلال”. وفي الحقيقة إن ما قاله كان صحيحًا إلا أن ثمة أسباب أخرى أفضت إلى هذا الفشل مثل؛ الكذب والافتراء والظلم والفساد.
إن ما ساقه داوداوغلو من أسباب في معرض تناوله لفشل الحزب في الانفراد بالحكم، كان يتحدث عنه منذ عامين أو ثلاثة أعوام، العديد من الكتّاب الأتراك المخضرمين بدءًا من حسن جمال وجانكيز تشاندار وناظلي إيليجاك وصولا إلى أحمد ألطان الذين وقفوا إلى جانب حزب العدالة والتنمية في أحلك ظروفه عندما رغبت هياكل الوصاية في تدميره وتخريبه.
غير أن الرئيس رجب طيب أردوغان، والوسط المحيط به من زمرة القلة الضيقة، اختاروا أن يعلنوا كل من تحدث عن هذه الأسباب بأنه خائن للوطن، أو سعوا لإسكاته، أو الزج به في غياهب السجون بدلًا عن الاستماع إلى آرائه. بينما توّجوا هؤلاء الذين قاموا بمؤازرة هياكل الوصاية في الأيام العصيبة التي مر بها الحزب. ولا يخفى على أحد الآن ما آلت إليه أمور البلاد. أما الذين اصطفوا إلى جانب الحزب من أجل مصلحتهم، فبدأوا اليوم في تجاهله والانفصال عنه دون الاكتراث له.
لا شك في أن عوامل أمثال الكبر ،والتسمم السلطويّ، والكذب، والافتراء، والفساد؛ كانت سببًا رئيسًا في هزيمة الحزب. وفي الحقيقة فإن هذه العوامل هي عواقب ومحصلة لعلة وآفة لا تزال في طور البداية. حيث كانت وجهة نظر أردوغان في السابق أن الاتحاد الأوروبي نادٍ مسيحي، والديمقراطيّة مجرد وسيلة أو أداة ينتفع منها للانتقال لمرحلة أخرى فحسب. إلا أنه تعهد للمجتمع والعالم، أثناء تأسيسه لحزب العدالة والتنمية، بأن يحذو حذو زعماء ديمقراطيين مثل عدنان مندريس وتورجوت أوزال، وأنه يهدف إلى ديمقراطية دولة قانون تطبق المعايير الأوروبية، ولن يمارس السياسة الدينيّة، وسيُحسّن علاقاته بالعالمين الإسلامي والغربي.
لاتمتلك أيّ حركة من الحركات الإسلاميّة في تركيا البراديجما التي تتلاءم مع هذا الطريق الجديد الذي كان سيسلكه أردوغان ، كما قال، فهذا المسار، كان يقتضي، وهو يحتقظ بهويته الإسلاميّة من ناحية، أن يتصالح مع القيم العالميّة كالديمقراطية وحقوق الإنسان والحوار بين الحضارات، إلى جانب احتضان الشرق والغرب في آن واحد. وكان التيار الوحيد الذي يتحلّى بهذه المؤهلات هو “حركة الخدمة”؛ التي تستلهم فكر الأستاذ فتح الله كولن وتسير تحت ريادته، وذلك بفضل تجاربه وأعماله وليس أفكاره الفلسفيّة فقط.
وشدد كولن في تسعينيّات القرن الماضي، عندما كانت توصف فيه الديمقراطيّة بأنها مجرد وسيلة أو أداة ناقلة، على عدم العدول عن الديمقراطية بل المضي قدمًا في تحقيقها. وكان كولن ينظر إلى مفاوضات تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، منذ أن تقدم بطلب ذلك المرحوم الرئيس الأسبق تورجوت أوزال في عام 1987، على أنها فرصة للديمقراطية والحوار. وعليه قام كولن بلقاء بابا الفاتيكان والزعماء غير المسلمين في تركيا انطلاقًا من كونه عالما مدنيا وقائدا فكريا. ولا شك في أن منصة” أبانت” للحوار التي ساهمت في التقاء شتى أعراق المثقفين من الأتراك والأكراد والعلويين والملحدين والليبراليين والأرمن والعلمانيين والقوميين للمرة الأولى على طاولة واحدة، كانت محاولة سلام ديمقراطية تزعمتها حركة الخدمة آنذاك.
وكانت حركة الخدمة بمثابة “البراديجما” التي سيسلكها حزب العدالة والتنمية ومصدر المشروعيّة من ناحية القاعدة الإسلامية على وجه الخصوص. وليس من قبيل الصدفة أن العديد من الوزراء في أولى حكومات العدالة والتنمية كانوا ممن لمعت اسماؤهم في “ملتقيات أبانت”؛ وهذا كان أحد الأسباب الرئيسيّة في حدوث تقارب بين حركة الخدمة والعدالة والتنمية.
وبدأت تظهر المشكلات في تركيا كلما انحرفت عن هذا المسار، الذي ساهم في تقليص هياكل الوصاية والعمل على إصلاحات ديمقراطية مهمة وكان سببًا في بزوغ نجم تركيا في كل من العالمين الإسلامي والغربي، حتى عام 2010، وكلما تراجعت قوة هياكل الوصاية، لم يعد هناك احتياجًا لمفاوضات الاتحاد الأوروبي على الصعيد الخارجي، ولا لحركة الخدمة والديمقراطيين على الصعيد الداخلي.
وفي نهاية المطاف، فبينما زاد الاستبداد وعدم الاعتراف بالقانون والفساد بالداخل، تشكّل ميل نحو الشرق الأوسط كعداء للغرب وتآمر عليه بسبب مشروع التحويل القسري للمجتمع الذي نهل منذ القدم من الإسلام السياسي حتى الآن. إلا أنه عندما ضعفت سمعة الدولة وهيبتها في الغرب، باءت الأحلام المعلقة على أمل الشرق الأوسط من ناحية أخرى بالفشل الذريع.
شهدت الدولة تحولا غريبًا لدرجة أنه رحل الزعيم– أردوغان- الذي زُج به في السجن بسبب أنه قرأ أبياتا من الشعر، وجاء آخر يزج بالصحفيين في غياهب السجون. ورحلت الدولة التي كان يُصفق لها بالأمس القريب بعدما كانت تراها بعض دول المنطقة على أنها نموذج للديمقراطيّة، وجاء زعيم يتخذ الدول الاستخباراتيّة نموذجًا بسبب قوانينه الاستخباراتية القمعية ويلقبه الإعلام العربي بـ “السلطان” وليست الصحف الغربية فحسب. لقد رحل حزب راح ضحية قرارات مجلس الأمن القومي، وحل حزب يهدد ويتوعد من يختلف معه بقرارات المجلس والكتاب الأحمر.
في الوقت الذي كانت فيه رؤية حركة الخدمة، المستمدة من الإسلام والقيم العالمية واتباعها نهجا متوازنًا بين الشرق والغرب، على درجة كبيرة من الأهمية وبمثابة البوصلة لحزب العدالة والتنمية، شنّ قبطان السفينة حربًا شعواء ضد هذه البوصلة في خضم المحيط. أما الذين أخذوا مكان هذه البوصلة ويوجهون حزب العدالة والتنمية اليوم، فهم الذين كانوا ينظرون قبل عشر سنوات إلى مبادرة العدالة والتنمية على أنها مشروع أمريكي إسرائيلي، وسعوا بالأمس إلى إغراق حزب الرفاه وتعاملوا مع الكيانات العميقة. والمصير الذي كانت ستؤول إليه السفينة كان واضحًا. فعلى سبيل المثال يقول دوغو برينتشيك رئيس حزب العمل اليساري المتطرف إن العدالة والتنمية عاد إلى مسارهم.
وعلى الرغم من رغبة البعض في القضاء على حركة الخدمة بقوة الدولة إلا أنها لا تزال واقفة اليوم على مسار الديمقراطية والقانون داخل الدولة كما كانت بالأمس، وعلى الصعيد العالمي كذلك، فكما تحظى باهتمام في باكستان تحظى بالقدر نفسه من الاهتمام والتصفيق في بلجيكا أيضًا. وكما تلقى اعتبارا في فلسطين فهي مهمة ولها سمعة أيضًا في كل من نيجيريا أو المغرب أو البوسنة أو ألبانيا.