شاهين ألباي
ثمة دروس يجب على جميع الأحزاب السياسية في تركيا استخلاصها من الانتخابات البرلمانية الأخيرة. ولاشك في أن حزب العدالة والتنمية يأتي في مقدمة هذه الأحزاب.
لم يكتفِ الشعب التركي بالقضاء على رغبة رئيس الجهورية رجب طيب أردوغان، الزعيم الفعلي للحزب الحاكم، بتحويل نظام الحكم إلى النظام الرئاسي ليدير البلاد وكأنها شركته الخاصة، بل حذَّره من تخطي حدوده والخروج على صلاحياته المنصوص عليها في الدستور.
وقد اعترف الرئيس الشرعي (القانوني) للحزب أحمد داوداوغلو بذلك عندما قال: “أردنا نقل تركيا إلى النظام الرئاسي، لكن الشعب لم يسمح بهذا…”، وقصد أردوغان حينما قال “ندعو الجميع إلى أن يفعل ما يقع على عاتقه في إطار واجباته وصلاحياته”.
لم يكتفِ الناخب بقوله “لا” لأردوغان”، بل حرم حزب العدالة والتنمية من أن يكون في السلطة بمفرده. وقد بدأ عقب ذلك نقاش داخل صفوف الحزب يدور بشأن: “ماذا فعلنا حتى فقدنا السلطة؟!”. وقد أعرب داوداوغلو عن الحاجة الماسة للنقاش بقوله: “علينا أن نحاسب أنفسنا ونمارس النقد الذاتي…”. كما يتحدث عدد كبير من مؤسسي الحزب، بمن فيهم عبد الله جول وبولنت آرينتش، عن الأخطاء المرتكبة. ولو استمر هذا النقاش بشكل صحي، أي من خلال مواجهة الحقائق، فإن المستفيد من هذه العملية سيكون حزب العدالة والتنمية وتركيا بأسرها.
أما الحقيقة الأولى التي يجب على مسؤولي الحزب مواجهتها فهي أن حزبهم أدار ظهره خلال فترته الثالثة في الحكم لسياسات الحرية والديمقراطية التي تبناها للنهوض بتركيا خلال أول فترتين له في السلطة. فهل يمكن للحزب الذي تغّيرت كوادره كلياً الأولى بحيث صرنا لا نعرفها أن يتخلى عن إدارة ظهره للحقوق والحريات؟ وهل يمكنه التخلي عن التستر على تحقيقات الفساد والرشوة التي لعبت دورًا رئيسًا في خسارته للسلطة؟ من الصعب الرد بالإيجاب على هذه الأسئلة، لكن ثمة فائدة كبيرة في أن يواجه مسؤولي الحزب، وكذلك أنصاره، هذه الحقائق الأساسية.
لاريب في أن الادعاء بأن فتح التحقيقات في ملف الفساد والرشوة يوم 17 ديسمبر / كانون الأول 2013 محاولة “انقلاب” ضد الحكومة ما هو إلا هراء بكل ما تحمله الكلمة من معنى. بل على العكس فإن هذه التحقيقات أظهرت أن الكوادر العليا لحزب العدالة والتنمية قد تلطخت أيديها بالفساد والرشوة بعد أن كان اتبع مبدأ دولة القانون وعمل على ترسيخه في البلاد في أول فترتين له في الحكم.
يقول الرئيس السابق عبد الله جول “لو كنت زعيمًا للحزب لكنت أمرت بعرض المتهمين على المحكمة العليا” (دون الردّ على السؤال: لماذا لم تبدِ رأيك في هذا الموضوع من قبلُ؟). كما يقول آرينتش “إنه بالإمكان إعادة فتح التحقيق” (وكذلك دون الرد على السؤال: لماذا لم تعبر عن رأيك حول هذه القضية وقتها؟). فلو كان هناك “فساد” كما ألمح جول وآرينتش فإن مزاعم “الانقلاب” أكذوبة لا أكثر ولا أقل، ولهذا يجب مواصلة التحقيق إلى نهايتها.
لقد أصدروا سلسلة من القوانين والإجراءات التي تدمر مبادئ دولة القانون ومبدأ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء من أجل التستر على أكبر فضيحة فساد ورشوة في تاريخ تركيا. فهذه الأكذوبة التي روجوا لها ترى هذه التحقيقات على أنها ليست إلا انقلابا جرى التحضير له من قبل حركة الخدمة (التي حاولوا تشويه سمعتها بوصفها بـ”الكيان الموازي”) المدفوعة بقوى أجنبية غير راضية بتركيا القوية، وذلك كذريعة لإثبات صحة ادعاءاتهم. ولاشك في أن الزعم الذي يقول إن حركة الخدمة دبرت “مكيدة للجيش الوطني” من أجل إدانة الضباط والجنرالات المتهمين في إطار قضيتي “المطرقة” و”أرجنيكون” الانقلابيتين هو أيضًا أكذوبة لا صحة لها. وقد اعترضت النيابة العامة على حكم “التبرئة الجماعية” الذي صدر بحق المتهمين في قضية “المطرقة” التي أثارت نقاشات كبيرة بين قادة الجيش.
إن ادعاء” الكيان الموازي” ما هو إلا عبارة عن أسطورة تهدف إلى تضليل الرأي العام ساقوها من أجل التستر على فضيحة الفساد والرشوة وهدم دولة القانون وإعادة إحياء انقلاب عام 1997 (بالتعاون مع مجلس الأمن القومي) وتبرئة جميع المتهمين في هذه القضايا.
ربما تضم حركة الخدمة بعض أولئك الذين ارتكبوا الأفعال المخالفة للقانون، لكن التحقيق معهم لن يكون إلا عبارة عن هراء لا طائل من وراءه ما لم يخضعوا لمحاكمات عادلة أمام محاكم لم تتشكَّل خصيصًا لإلصاق التهم بهم. ولا أرى إعلان حركة الخدمة بأسرها “كيانًا موازيًا” وحتى “تنظيمًا إرهابيًا” سوى عودة لصيحات “مكافحة الرجعية” التي كان يطلقها أصحاب الوصاية العسكرية في الماضي.
لا يمكن بأية حال من الأحوال إقامة دولة القانون في تركيا طالما ظلت أكذوبة “الكيان الموازي” مستمرة. ويجب على الجميع، وليس حزب العدالة والتنمية فقط، أن يفهم هذه الحقيقة جيدًا، لا سيما أولئك الذين يدعون أنهم المدافعون عن مبدأ دولة القانون.