سؤال: ما الدروس المستفادة من قول الله تعالى في سورة الأعراف: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ (سُورَة الأَعرَافِ: 190/7)؟
الجواب: يقول الله تعالى في الآية السابقة: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ (سُورَةُ الأَعْرَافِ: 189/7)، وتحتمل كلمةُ “صَالِح” الواردة في الآية معنَيَين؛ الأوَّل: أن يكون بشرًا سويًّا معافًى من العيوب، والثاني: أن يكون متعمِّقًا في إيمانه، مراعيًا بالغَ الدِّقَّةِ في عبادته وطاعته، متوغِّلًا في شعور الإحسان والمشاهدة.
إنّ الرغبةَ في أن يكون المولودُ صالحًا تقيًّا من مقتضيات الإيمان بالله والآخرة، فما مِن قلبٍ مؤمنٍ يتمنَّى الولدَ إلا ويرفع يديه بالدعاء قائلًا: “اللهمّ هبْ لي ولدًا صالحًا، معافًى في بدنه وسائر أعضائه، كاملَ الإيمان والإسلام والإخلاص، اللهم سلِّم بدنه وأصلح عمله، وقوِّمْ حياته الروحية والقلبية”.
ولكن رُبَما يأتي المولودُ مُعاقًا كسيحًا على سبيل الابتلاء، ومثل هذه الحالة تستلزم الصبرَ والثباتَ وتَجَشُّمَ الصعوبات؛ لأننا لا ندري الحكمة من وراء هذا الأمر، ولعلّ ربنا سبحانه وتعالى قد أراد بذلك أن يُطهِّرَ الأبوين من الذنوب والمعاصي، ويرفع درجتهما المعنوية إذا ما صبرا على تحمُّل مشقات العناية بهذا الطفل المسكين.
الخطاب للأمَّةِ كلِّها في شخصِ النبيِّ (صلى الله عليه وسلم)
قد يُفهَم للوهلة الأولى انطلاقًا مما ذُكِرَ في الآية الكريمة السابقة أن المقصود بالخطاب هنا أبونا آدمُ وأمُّنا حوَّاءُ عليهما السلام، وإن كان اللذَين سألا الله تعالى ولدًا صالحًا إياهما فإننا إذا ما أَخَذْنا بِعَين الاعتبار صفةَ العِصْمَةِ الملازِمة للأنبياء فسيتبين لنا أن المقصود بقوله “جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ” هم بعضُ بني آدم وليس آدم وحواء، ولا جرم أن الأنبياء بمقتضى ما بلغوه من أفق عالٍ في محاسبة النفس لم يُعفوا أنفسَهم من هذا الإنذار واعتبروه خطابًا موجّهًا لهم، غير أن هذه مسألة أخرى، فالإنذار الحقيقيُّ هنا هو لِأُمَمِ الأنبياء لا للأنبياءِ أنفسهم، وكما تعلمون فإنّ مخاطبةَ الأنبياء ببعض خصائص قومهم أسلوبٌ متبّعٌ في مواطنَ عِدَّة من القرآن الكريم.
على سبيل المثال يقول ربُّنا سبحانه وتعالى في سورة الزُّمَرِ مخاطبًا نبيَّهُ صلى الله عليه وسلم: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ (سُورَةُ الزُّمَرِ: 65/39)، مع أنه من المُسَلَّمِ به أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن ليتلطَّخ بالشِّرْكِ مطلقًا، وهذا يُؤكِّدُ أن الخطاب هنا إنما هو للبشرية جمعاء في شخصِ النبي صلى الله عليه وسلم، وكأنّ ربّنا سبحانه وتعالى يقول: “لئن أشركتم ليحبطنّ عملكم”؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلَّم مصونٌ معصومٌ بحفظ الله تعالى وعنايته.
أجل، لم يتلطَّخْ مفخرةُ الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم في ذلك العهد الذي غاصت فيه الإنسانيّة حتى أذنيها في أوحال ذنوبِ الجاهلية وأرجاسِها ولو بِذَرّةٍ من الشرك حتى في غُرَّةِ حياته السَّنِيَّةِ، بل دعكم من الشرك، لم يُخِلّ صلوات ربي وسلامه عليه حتى بالآداب العامة، ولم يجرَح أحدًا بكلمة ولم يُؤْذِ مشاعرَ الآخرين ولو بقدر شعرة.
ومن ثَمَّ فأيًّا كانت المسألةُ التي نتناولها فلا بدّ أولًا من الإقرار بعِصْمَةِ الأنبياء وطهارتِهم وتزكِيَتِهِم، وأن نعلمَ أن ما وردَ من خِطابٍ للأنبياء بهذا المنهجِ وعلى هذه الشاكلة إنما هو خطابٌ موجَّهٌ إلى جميع الأمة بطريق الأولى، فإذا ما أخذنا في اعتبارنا هذا الأمر يكون من الأنسب أن نستوعبَ أسلوبَ الخطابِ هنا على النحو التالي: “انتبهوا واحذروا! فإذا كان هذا الإنذار قد جاء في حقّ نبيٍّ معصومٍ بحفظ الله تعالى وصيانته فالأولى لمن لم تُضمَن لهم العصمةُ والصيانَةُ أن يأخذوا حِذْرَهُم ويضعوا هذا الإنذار نصبَ أعينهم”.
وهكذا علينا أن ننظرَ بهذا المِنْظَارِ إلى نصيبِ سيِّدنا آدم من الخطاب الوارد في الآية، كيلا ننسج هالةً قذرةً وغيرَ لائقةٍ من وحيِ الخيال حول مَن اصطفاه الله وفضّله على العالمين، يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 33/3)، فلنُنزِّه أفكارَنا وخيالاتِنا حول سادتنا العظام من الأنبياء الكرام صلوات الله عليهم وسلامه، ولذا أُذَكِّرُ مرَّةً أُخرى بأن سؤال الولدِ الصالحِ وإن صَدَرَ من آدم عليه السلام إلا أن الشِّرْكَ الحاصلَ بسببِ الولدِ لا علاقةَ له ألبتّةَ به، بل الخطاب لنا نحن.
الوَلَه بالولد قد يفتح الباب للشِّرْك
إن تجاوُزَ حدودِ الاعتدالِ في حبّ الولد قد يوقع في دائرةِ الشِّرْكِ، فبعض الناس يتعاظم هذا الشعور لديهم لدرجة أنهم يقولون: “إن ولدي هو كلُّ شيءٍ في حياتي”، فمثلًا تراه إذا ما جلس في أحد المجالس وذُكر المقطع الهجائي الأول من اسم ولده ينتهزُ الفرصةَ مباشرةً للحديث عن ولده وتعدادِ مآثِرِهِ.
أجل، قد تكون نقطةُ الضعف هذه قد استحكمت لدى بعض الناس حتى إنهم يسعَون لإيجاد مدخلٍ لِسَحْبِ الكلامِ كي يتحدثوا عن أولادهم، وهذا ما يعنيه قولنا: “الوَلَهُ بِالوَلَدِ”.
يجب أن يكون حُبُّ الأولاد وسيلةً لسعادتِهِم الأبديّة
إنّ الأولادَ الذين هم بمثابةِ مرايا صغيرة تعكس “أحسن تقويم” إنما هم وديعة الله عندنا، فلا بدَّ أن نحبَّهم ونحتضنَهم لأنّهم أثرٌ من آثار خالقِهم ومُبدِعِهم، والأهمُّ من ذلك أن نستغلَّ حبَّنَا وشفقَتَنا عليهم في تزويدهم بالتربية الإسلامية، وبعبارة أخرى: لا بدّ أن يُسهِم هذا الحبُّ في أنْ ينشَؤُوا على الاستقامة ويعيشوا عليها ويُصبِحُوا مُثُلًا عُليا لها، وعلى الآباء والأمَّهات أن يهمِسُوا بهذه الأمور دائمًا في آذان أبنائهم وهم يقبّلونهم ويمسحون رؤوسَهم ويُـرَبِّـتُـون على أكتافهم؛ حتى لا يُجاهِرَ الأولادُ اللهَ بمعاصيهم أو يقعوا في فخِّ الإلحاد أو تستولي عليهم مشاعر التمرُّدِ والتهوُّرِ التي تُفضي إلى خُسرانِ الحياة الأبديّة؛ لأن على الأبوين مسؤوليَّةَ إعداد بيئةٍ صالحة لتنشئة أبنائهم وعملَ كلِّ ما يلزم حتى يرحل أبناؤهم عن الدنيا أطهارًا كما جاؤوها، ولا شك أن الوفاء بكلِّ هذا بعدٌ آخر لِـحُبِّ الأولاد ولا غضاضةَ فيه.
ولكن إن لم يعبأ الإنسانُ بكلِّ هذا، وتعلَّقَ بولده تعلُّقًا يصل إلى العبودية لمجرَّدِ أنه ولدُه، وربطَ كلَّ شيءٍ به، ورَغِبَ في التحدُّثِ عنه دائمًا فهذا يعني أنه قد طَرَقَ بابًا من أبواب الشِّرْكِ دون أن يدري، وإن كان يدّعي أنه يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وننبِّه هنا إلى أن مَن يتلفَّظ بالشهادتين ليس بمشركٍ، ولكن لتعلُّقِه الشديد بولده صار يحملُ صفةً من صفات الشرك، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى هذا المعنى: “إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ” قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ؟ قَالَ: “الرِّيَاءُ“[1].
وإذا أردنا أن نُعَبِّرَ عن هذا الأمر بأمثلةٍ ملموسةٍ نقول: من الرياء أن يُعَبِّرَ الإنسانُ عن نفسه بقسَماتِ وجهِهِ، وأن يبالغَ في حساسيَّتِهِ عند أداء العبادات أمام الآخرين رغم أنه لا يفعل ذلك إن اختلى بنفسه، وأن يحاول إعلامَ الآخرين بمواهبِهِ الخاصَّةِ كَحُسْنِ التأليفِ والرسمِ والخطابةِ، والأنكى من ذلك أن يغلّفَ رغبته في حبِّ الظهورِ بِغِلافِ التعبيرِ عن عجزِهِ وفَقْرِهِ في مُستَهَلِّ حديثه قائلًا: “أنا الفقيرُ أنا العاجزُ”، وهذا يُعْتَبَرُ أخطرَ أنواعِ الرياءِ، وإنَّ محاولةَ الشخص إظهارَ نفسِهِ من خلالِ ولدِهِ لا يختلفُ عما ذكرناه آنفًا؛ فمِثلُه يُدنِّسُ حبَّهُ لولَدِهِ بصفةٍ من صفاتِ الشِّرْكِ، في حين أن على المؤمن أن يُراعيَ الدقَّةَ البالغةَ في المحافظة على صفات إيمانه قدرَ محافظتِهِ على عِرْضِهِ وشَرَفِهِ، ولا بدَّ أن يُطَهِّرَ أفكارَه ومشاعرَه من أيِّ شائبةٍ للشرك الخفي سواء أكان رياءً أو عُجبًا أو سمعة أو فخرًا أو كبرًا؛ لأن كل واحدةٍ منها صفةٌ من صفات الشرك، ووجودُ صفةٍ كهذه لدى الإنسان بمثابةِ وجودِ فيروسٍ فيه، وبعض هذه الفيروسات يصيبُ الجِسمَ بنزلةِ بردٍ، وبعضُها يصيبُه بالسرطان، وبعضها يصيبه بالإيدز والعياذ بالله، ولذا على الإنسان ألا يستصغرَ أيَّ صِفَةٍ من صِفاتِ الشِّرْكِ والكفرِ، وألا يُفْسِحَ المجالَ لنموِّ مثلِ هذه الصفاتِ في قلبِهِ وروحِهِ.
ولا جرم أن مَن يُبْدِي محبَّةً مُفرِطَةً وولعًا شديدًا بولده وأسرتِهِ ليس بمشركٍ وإن كان يحمل صفةً من صفات الشرك، فإن مات على الإيمان دخل الجنة، ولا يعامله الله تعالى -وهو أعلمُ- معاملةَ المشرك، غير أننا لا بدّ وأن نُفتِّشَ عن حلٍّ لهذا الأمر ونتحرَّى الدقة البالغة فيه لأن صفةَ الشِّرْكِ هذه تُشْبِهُ الفيروسَ، والفيروسُ لا يُتْرَكُ يعيثُ فسادًا في الجسمِ، بل لا بدّ من استئصاله، ففيروس الانفلونزا مثلًا إن لم نبحثْ له عن علاجٍ ناجعٍ فرُبما يصرعُ الإنسانَ أو يقتلُه، وعلى ذلك يجب على الإنسان ألا يسمح بأن يستقرّ في بنيتِهِ أيُّ فيروسٍ يتنافى مع فِطْرَتِهِ الأصلية ومع صورةِ “أحسن تقويم” التي خلقه الله عليها، فإن حاولَتْ هذه الفيروسات أن تطرقَ بابَه أغلقه في وجهها قائلًا: “لا تُتْعِبِي نفسَكِ هباءً، فكلُّ الأبوابِ موصدةٌ”.
لماذا يجب على الإنسان أن يتحلّى بهذا القَدْرِ من الحَذَرِ والدِّقَّةِ حيالَ الشِّرْكِ؟
لأن الشرك يكون أحيانًا خفيًّا أو ضئيلًا جدًّا لا يكادُ الإنسانُ يدركُه أو يعبأُ به، ولكن يجب ألا ننسى أن صغائرَ الذنوبِ التي لا نعبأُ بها ونقلّل من شأنها تصبحُ أحيانًا أعظمَ من الكبائر بكثرةِ تكرارها، بل قد تكون أخطر منها، كما يقال: “لا صغيرةَ مع الإصرار ولا كبيرةَ مع الاستغفار”، وإلى جانب هذا فإن العبد إن اطّلع على كبائره واستحضرَ وأدرَكَ فظاعتها وأخذها بمحمل الجدّ فسرعانَ ما يعودُ إلى ربِّهِ في أسًى وانكسارٍ متوسِّلًا إليه بالتوبةِ والإنابةِ والأوبةِ، وبعد ذلك يستَنْفِرُ هذا الشعورُ بالذنبِ لديه مشاعرَ مكافحةِ المعاصي، وفي النهاية يعيشُ في حذرٍ وتحفُّظٍ دائمٍ منها.
وهكذا فإن لم يحافظ الأبوان على حدِّ الاعتدالِ في ولَعِهِما بأولادهما وإن بدا صغيرًا في البداية فسيُصْبِحُ مشكلةً فيما بعد تتفاقمُ مع مرورِ الزمن.
وحتى نفهم الموضوع بشكلٍ أفضل يمكننا أن نضربَ مثالًا بالخطإ الذي وقع فيه أسلافُ قومِ نوحٍ عليه السلام، فكما تعلمون كان “وَدّ وسُواع ويَغُوث ويَعُوق ونَسْر” –في رواية- قومًا صالحين من بني آدم، وكان لهم أتباعٌ يقتدون بهم، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: “لو صَوَّرْنَاهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم”، فصَوَّرُوهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دبّ إليهم إبليس، فقال: “إنما كانوا يعبُدونهم، وبهم يُسْقَونَ المطرَ”، فَعَبَدُوهم[2]، لقد كانت هذه الفكرة بريئةً في البداية، ولكنها أصبحت مع الوقت سببًا في تأليهِ هؤلاء الرجال الصالحين، كانَ مُبتَدَؤها وجهةَ نظرٍ بسيطةً لكنّها آلت في النهاية إلى مصيبةٍ عظيمةٍ
أجل، على الإنسان ألا يُطنِبَ أو يُفْرِطَ في حُبِّهِ لأحدٍ سواء أكانوا أولاده أو غيرهم، وألا يتجاوز الحدّ المعقول؛ فطوبى لمن عرف حدَّه فوقفَ عنده.
التوازن في حُبِّ الولد
يرى البعضُ في أيامنا هذه أن الولدَ هو المرتَكَزُ الذي تقوم عليه الأُسَرُ، غير أن الأحرى أن نتساءل: هل نقطة الارتكاز في الأسرة اليوم هي الولد، أم الهوى والرغبة، أم النفس، أم الأنانية؟! كلُّ هذا تساؤلٌ دون حكمٍ قطعيّ ولكن ما نقطعُ به هو أن المرء إن اختار لنفسه نمطَ حياةٍ لا يتماشى مع الأوامر والنواهي الإلهية التي وضعها الدين فقد كثرت نقاط الارتكاز السلبية عنده، وانفتح الباب أمامه لمختلف أنواع الشرك المنافية للتوحيد.
فضلًا عن ذلك فليس من الصحيح وفقًا للأخلاق الإيمانية أن تُبنى سعادةُ الأسرة وتعاستُها على مسألة الإنجاب بل وأن تنشأ الخلافات والنزاعات من أجل ذلك؛ لأنّ مثلَ هذا السلوك -نسأل الله السلامة- يُعبِّر عن عدم الرضا بقضاء الله، والاعتراضِ على القَدَرِ، والتمرُّدِ على الله سبحانه وتعالى.
أجل، إن المشاكلَ الناشئةَ عن عدم الإنجاب -رغمَ أنه من تخصُّصات القَدَرِ- هي أمورٌ لا يرتضيها الله سبحانه وتعالى، ولنذكر دائمًا ولا ننسى أن الولدَ بوجودِهِ أو عدمِه ابتلاءٌ في حدِّ ذاتِهِ، قال تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ (سُورَةُ الأَنْفَالِ: 28/8).
أما الضَّرَرُ في اعتبارِ الولدِ كلَّ شيءٍ، والحبِّ المُفْرِطِ له، وجعله المرتكز الذي تقوم عليه العائلة فإنّه يكمن في التغاضي عن تصرُّفاته السلبية، وعدم البحث عن حلٍّ سويٍّ لهذه المشاكل والسلبيّات، فمثل هذا التصرُّفِ قد يُفضي مع الوقت إلى نشأةِ أبناءٍ غير أسوياء، بيد أن الهدف الأساس في هذا الأمر هو إنجاب طفلٍ صالحٍ مستقيمٍ طاهرٍ على خُلُقٍ حسن، فعلى الأبوين أن يبذلا جهدهما ويقوما بكلِّ ما يلزم للوصول إلى هذا الهدف، ولكن الحقيقةَ الـمُرّة تُشير إلى أن الغالبية العظمى من الأطفال اليوم قد ضاعوا وضلُّوا الطريقَ بسبب انتشارِ الجهلِ في الأسرةِ، والوحشيّةِ في الشارع، وتبلُّد الأحاسيس في دُورِ العِبادَةِ، وافتقارِ التعليمِ إلى الجَودَةِ.
تربيةُ الأبوين هي البدايةُ لِنَشْأَةِ الولدِ الصالحِ
فإذا ما ابتغينا الولدَ الصالحَ فعلينا بدايةً أن نُحْسِنَ تربيةَ والديه؛ إذ يجبُ أن يتعلّمَ الوالدانِ في البداية كيف يكونان قدوةً لأولادِهما، وكيف يعاملانهم، بل ومن الممكن أن يلتحقَ المُقبِلون على الزواجِ بدوراتٍ تأهيليّةٍ قبلَ الزواجِ، فإن حصلوا على شهادةٍ منها تزوَّجوا وإلا فلا، وخلال هذه الدورة يتعلم هؤلاء الشباب المقصد الأساس من الزواج، وكيف يمكن تأسيس علاقة صحّيّةٍ بين الزوجين، وكيف يعاملان بعضهما البعض، كلُّ هذه الموضوعات وأمثالُها لا بدّ من تأسيسها على أرضيّةٍ صلبةٍ؛ لأن المقبل على الزواج -ذكرًا كان أو أنثى- إن تزوَّدَ بالعَتادِ السليم في هذا الشأن فستصبح هذه المؤسَّسةُ المُقَدَّسَةُ التي يُشَكِّلُها مع شريكِ حياته روضةً من رياض الجنة، ولا شك أن الأولاد الذين يتربَّون في كَنَفِ مثل هذه العائلة سيغدون صالحين أسوياء، ولكن إن لم تكن لدى الأبوين كفاءة لتحمُّلِ مسؤوليّة الأبوّة والأمومة فسيظلُّ الأطفال مذبذبين لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وللأسف نشأت معظم الأجيال الحاليّة على هذا النحو، وإن نشأ البعض في بيئةٍ طاهرةٍ وبلغوا ذاتيّتهم فالغالبية العظمى لم تتمكّن من فِعل ذلك.
ولطالما تلقّى الذين تورَّطوا في حبٍّ غير مشروعٍ على خلاف مقصدهم لطماتٍ ممّن أحبُّوهم أيًّا كانوا هم، من أجل ذلك إن لم يعتبر الوالدان ولدهما وديعةً من الله عندهما، بل ونظرا إليه على أنه بضعةٌ منهما فحسب، وأحبَّاه حبًّا أنانيًّا وولِعا به ولعًا مُفرطًا؛ فسيغدو هذا الولدُ ابتلاءً لهما في المستقبل؛ لأنه كما يتسبَّبُ الإفراطُ في شيءٍ تفريطٌ في آخر، فكذلك التفريطُ بالتالي يؤدِّي إلى إفراطٍ آخر، وكما أن هذا الأمر يتخلَّلُ العلاقةَ بين الأبوين والولد فهو يسرِي أيضًا على العلاقةِ بين كلِّ مُحِبٍّ ومحبوبٍ.
حاصل القول: لو أن الإنسان وضع غيره -أيًّا كان هو- في مقامٍ أعلى من قدره، وأفرطَ في حُبِّهِ له فسيتلقَّى لطمة منه على عكس ما كان يهدُف أو ينتَظِر، ثم يأتي اليوم الذي يسمع فيه كلٌّ منهما ما لا يحبُّ من الطرف الآخر.
[1] مسند الإمام أحمد، 43/39؛ الطبراني: المعجم الكبير، 253/4.
[2] تفسير الطبري، 639/23.