أرجون باباهان
لا شك في أن النتيجة الأولى التي يمكن أن نخلص إليها من الانتخابات البرلمانية التي أجريت يوم أمس الأحد في تركيا هي حقيقة أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي انتهك اليمين الدستورية التي أداها انتهاكًا صارخًا وأخذ يطالب في جميع الميادين الانتخابيّة التصويت لصالح حزب العدالة والتنمية تلقى هزيمة ساحقة وأضاع فرصة بقاء الحزب في الحكم منفردًا ناهيك عن تحطم حلمه في الوصول إلى تطبيق النظام الرئاسي الذي يكرس لديكتاتورية بغيضة ولحكم الفرد الذي يهدد ويتوعد ويقاضي كل من يختلف معه.
نعم، فحزب العدالة والتنمية حصل على نسبة أصوات تزيد عن 40 في المائة بالرغم من أعمال الفساد والرشوة والخروج على القانون. إلا أن هذه الأصوات التي حصل عليها تعود إلى استغلال الحزب لمرافق الدولة كافة إلى جانب الخدع والألاعيب العديدة التي مارسها في الانتخابات، ذلك أنه لو اتبع نظام انتخابات نزيهة لما أمكن للعدالة والتنمية الوصول حتى إلى هذه الأصوات.
والنتيجة الثانية لهذه الانتخابات هي؛ أن حزب الشعوب الديمقراطي الكردي أصبح “حزباً تركياً”؛ إذ لم يكتف الحزب باكتساح العدالة والتنمية في منطقته فحسب (جنوب شرق تركيا)، بل أنه استطاع أن يزيد من عدد أصواته بشكل كبير في مدنٍ مثل إسطنبول وإزمير وغازي عنتب، بالرغم من تعرّضه لشتى أنواع الاستفزازات والتحريض والاعتداءات والرقابة، واستخدام الدولة كل قوتها للحيلولة دون اجتياز هذا الحزب الحد الأدني للعتبة الانتخابية وهو 10 في المائة من أصوات الناخبين. غير أن الشعوب الديمقراطية تعامل بحصافة وحذر تجاه تلك الهجمات ولم تنطل عليه كل هذه الحيل والألاعيب، وجعل “السلام” على رأس أولوياته رغم ذلك، إلى أن نجح في أن يبلي بلاءً حسنًا ويحقق نتيجة باهرة، حيث ضمن 80 مقعدًا في البرلمان بعدما كان الأكراد قبل ذلك يدخلون البرلمان نوابًا مستقلين.
ولعل أكبر ورقة رابحة في وصول الشعوب الديمقراطية إلى هذا النجاح هي الشعار البسيط الذي أطلقه الرئيس المشارك للحزب صلاح الدين دميرطاش وهو “لن نجعلك رئيسًا يا أردوغان”، في إشارة منه للحيلولة دون تطبيق النظام الرئاسي. وهو الشعار الذي أقنع الفئات المتحضرة التي كانت تشعر بقلق وتخوف من احتمال دخول الشعوب الديمقراطية في تعاون مع العدالة والتنمية، ما جعلهم يدعمونه إلى أن تجاوز العتبة الانتخابية.
كما أن السبب في عدم حصول الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، على ما ينشده من الأصوات كان انتقال الأصوات إلى الشعوب الديمقراطية بسبب العتبة الانتخابية. لذا توجه البعض من الفئات المتحضرة إلى الشعوب الديمقراطية لعرقلة كل من أردوغان والعدالة والتنمية.
وهذه النتيجة تشير إلى فاتحة لمرحلة جديدة في تركيا؛ إذ تنتهي مرحلة الأعمال الخارجة على القانون المنتشرة في البيروقراطية والقضاء، وتمضي تركيا قدمًا نحو النور ومستقبل مشرق بعد فترة ظلام دامس خيّمت عليها.
كما أن نتيجة الانتخابات هيّأت الأرضية أمام إحلال سلام دائم عن طريق إظهار الأكراد عزمهم على التعايش جنباً إلى جنب مع الأتراك. وإذا وظّفت المعارضة أفكارها المشتركة وأحسنت استخدامها في هذا المشهد، سوف تتاح لها فرصة تناول القوانين الأسياسية من جديد، وإنهاء الحزبيّة، زد على ذلك أنها ستتمكن من إلغاء نسبة الحد الأدنى للعتبة الانتخابية البالغة 10 في المائة التي أسسها النظام الانقلابي.
وهذه النتيجة تعني أيضًا محاسبة المتورطين في أعمال الفساد في الدولة وإنهاء مرحلة استصدار قوانين آلية في البرلمان.
وفي الوقت الذي أظهر فيه الشعب التركي أنه يدافع عن الديمقراطية من ناحية، برهن من ناحية أخرى على أن الآمال التي يعقدها الشعب على الزعماء في هذه الدولة لم تنته بعد بعدما تصرفوا بهدوء وحصافة ووعي سليم.
إن نتيجة الانتخابات قلبت مخططات الرئيس رجب طيب أردوغان وحساباته رأسًا على عقب؛ وأبدى الشعب بوضوح انزعاجه من تدخل رئيس الجمهورية في السياسة اليوميّة التي ليس من شأنه التدخل فيها حسب الدستور التركي. ناهيك عن أن أعمال كلٍّ من الرئيس أردوغان ورئيس الوزراء داوداوغلو لم تكن كافية لوقف خسائر الأصوات لدى العدالة والتنمية الذي خسر أصواتاً في تركيا كافة باستثناء أنقرة.
وكما أن هذه النتيجة تعد فرصة كبيرة للشعوب الديمقراطية، فهي في الوقت نفسه تضع على عاتقه مسؤولية كبيرة للغاية. إذ يتعيّن عليه مواصلة النضج والمجهود اللذين أبداهما حتى يوم الانتخابات والحفاظ على الأصوات التي منحه الشعب إيّاها ومسؤولية العمل على زيادتها.
والحقيقة الماثلة أمامنا الآن هي؛ أن الخرائط التي أظهرت نتائج الانتخابات كشفت عن أن تركيا في هيكل مجزأ، وهذه الانتخابات يجب أن تكون فرصة لجعل هذه الخريطة أكثر توازنًا.
وجملة القول هي أن هذا الشعب لم يجعل أردوغان ينال مناله ويصبح رئيسًا وفق نظام رئاسي كان ينشده بشدة، وسحب الأغلبية من العدالة والتنمية التي بدورها حالت دون تحقيق حلمه في هذا النظام، وقال للحكم الاستبداي “كفى إسرافًا وسلطويّة”. وأعتقد بعد كل ذلك أن أمر القصر الأبيض “قصر أردوغان” بات صعبًا.