علي يورتاجول
تظهِر جميع البيانات أن نتيجة الانتخابات البرلمانية التي ستشهدها تركيا بعد غد الأحد غامضة. وبالتالي فإنها مرتبطة بقدرة حزب الشعوب الديمقراطية على تخطي حاجز الحد الأدنى من الأصوات (10%) لدخول البرلمان.
وإذا نجح حزب الشعوب الديمقراطية في دخول البرلمان لن يستطيع حزب العدالة والتنمية أن يبقى في سدة الحكم بمفرده. ولو أنه من المبكر أن نخمن نتيجة كهذه، فإن التوازنات السياسية في تركيا ستتغير إذا نجح حزب الشعوب الديمقراطية في دخول البرلمان. وحتى لو استطاع حزب العدالة والتنمية الحصول على أغلبية البرلمان ستكون هذه الأغلبية هشَّة للغاية.
يبدو أن مسؤولي الحزب الحاكم لاحظوا هذا” الخطر”، ولهذا شهدنا استخدام “كارت أردوغان” في اللعبة. فالالتزامات الدستورية مثل وجوب أن يكون رئيس الجمهورية محايدًا لم تعد لها أهمية. ولقد أصبحنا أمام صراع تحول إلى مسألة حياة أو موت بين حزبي العدالة والتنمية والشعوب الديمقراطية.
إنّ تخلي حزب العدالة والتنمية عن الأغلبية البرلمانية وشروعه في الحديث عن سلبيات الحكومات الائتلافية ولفته الأنظار إلى موضوع” الاستقرار” يستهدف الناخب الحائر. فهذا الاعتقاد المبني على أن حكومات الحزب الواحد هي عنصر الاستقرار وأن الحكومات الائتلافية لا تستطيع إنجاز إصلاحات مؤسسية مهمة منتشر لكنه غير صحيح، فدول شمال أوروبا المتقدمة (مثل هولندا وبلجيكا وألمانيا والدنمارك وغيرها) تقودها الحكومات الائتلافية منذ سنين، كما أن أكثر الإصلاحات البنيوية الجذرية أهمية في ألمانيا اتخذتها حكومة الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر الائتلافية، كما أن هذه الحكومة اتخذت القرار الصعب الذي فتح باب الاتحاد الأوروبي أمام تركيا. كما أن التاريخ التركي الحديث شاهد على هذا. فالحقبة التي حكمت فيها الحكومة الائتلافية المشكَّلة من أحزاب اليسار الديمقراطي والوطن الأم والحركة القومية شهدت أكثر الإصلاحات الاقتصادية والسياسية عمقًا في تاريخ تركيا الحديث عقب حقبة تورجوت أوزال. كما ألغت هذه الحكومة عقوبة الإعدام بالرغم من الأصوات المطالبة
بإعدام الزعيم الإرهابي المسجون “عبد الله أوجلان”.
في الواقع لا يبحث حزب العدالة والتنمية عن طرق للبقاء في السلطة بمفرده، بل إنه يريد إقرار النظام الرئاسي. الأغلبية المريحة في البرلمان ولو أنها تمكّن الحزب الحاكم من تمرير حزم القوانين بسرعة إلا أنها ليست كافية للرئيس أردوغان. فهو يحلم بنظام رئاسي “على الطريقة التركية” يدار من خلال مركز واحد ولا نعلم شيئًا عن تفاصيله.
ولو كان نظام الرجل الأوحد هو ضمان الاستقرار الاقتصادي والسياسي حقًا لم نكن لنشهد موجات “الربيع العربي”. ولكانت البلدان العربية هي أكثر البلدان تطورًا تحت راية أنظمة صدام حسين في العراق ومعمر القذافي في ليبيا وبشار الأسد في سوريا.
وليس من قبيل المصادفة أن تكون إيران أفقر من تركيا بكثير بالرغم من الثروة المعدنية التي تتمتع بها. فلأن الأنظمة ذات الرجل الأوحد والمعادية للديمقراطية تكون تحت سيطرة مجموعة ضيقة من أصحاب المصالح فإنها لا تضع الجماهير العريضة من الشعب في الحسبان.
تكون أنظمة الحزب الواحد كذلك نوعًا من أنواع الائتلاف في الدول الديمقراطية. فالنجاح السياسي الذي حققه الرئيس الراحل أوزال تحقق من خلال جمعه لأربعة تيارات سياسية تحت مظلة حزب الوطن الأم. وكان حزب العدالة والتنمية قد استطاع أن يرفع نسبة أصواته في الانتخابات إلى 50% – وهي نسبة استثنائية في بلدٍ كتركيا – لأنه حقق “ائتلافًا” مماثلا لما فعله أوزال وفتح باب توجه حزب الرفاه أمام الليبراليين والقوميين وحتى اليساريين. فنرى على سبيل المثال انضمام أرطغرول جوناي إلى صفوف الحزب وإسناد حقيبة وزراية إليه دليلًا على أن سياسة الانفتاح هذه امتدت حتى شمال صفوف حزب الشعب الجمهوري العلماني. وسيكون من الكافي أن نلقي نظرة على قائمة الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني التي قدم إليه أردوغان الشكر عقب استفتاء عام 2010 وانتخابات عام 2011 لكي نفهم إلى أين وصل هذا “الائتلاف” الذي تبناه الحزب.
لقد انهار هذا الائتلاف اليوم، فحزب العدالة والتنمية أصبح في صراع مع كثير من قطاعات الشعب التركي، ولهذا فإنه يفقد من رصيده كل يوم. فالحزب قطع علاقاته مع اليساريين والليبراليين من المنتسبين إلى الطبقة المتوسطة عقب أحداث متنزه جيزي بارك. فالسيد أردوغان الذي كان يطمح لتعزيز مكانه في السلطة من خلال إذكاء نيران الصراع بين الفئة المسلمة المحافظة والفئة العلمانية اليسارية تسبب في سوء الأمور أكثر.
لقد فقد الحزب كذلك دعم حركة الخدمة التي كانت تعتبر من أحد الأعمدة الرئيسة التي يستمد قوته منها. فاليوم لم يعد الصراع يبن المسلمين والعلمانيين، بل أصبح بين دولة القانون والاستبداد. وانفضاض الناس من حول الحزب وصل حتى كوارده الأساسية. فأسماء مثل دنجير مير فرات، المحافظ الذي يعتبر ممن أسسوا الحزب، أدار ظهره لداود أوغلو ورفاقه الذين لم يتركوا مكانًا حتى لعبد الله جول الذي كان أحد الدعامات الرئيسة للحزب.
تركيا ليست بحاجة إلى مزيد من التوتر، بل إلى السلام والعدل والحرية. ولكي تتخطى مرحلة الاستقطاب التي تعيشها يلزمها ائتلاف جديد يجبر الحزب الحاكم والرئيس أردوغان والأحزاب السياسية على التحاور؛ إذ لن يتحقق السلام دون احترام الحقوق الأساسية. وللأسف فإن حزب العدالة والتنمية لم يعد يحترم حتى حق الملكية للأفراد.