مصطفى أونال
تغاضى رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو عن تكذيب محامي الأستاذ فتح الله كولن، ولم يرد إلا على الرئيس السابق عبد الله جول، بشأن الزيارة التي قام بها للأستاذ فتح الله كولن في بنسلفانيا، أي على مسألة “إن كان جول لديه علم بالزيارة أم لا”. بيد أن المحامين كذّبوا محتوى الخبر. ويا لعبارة “الشيء الصحيح الوحيد في ادعاء داود أوغلو هو عبارة أنه زار الأستاذ كولن”، ويا لصعوبة تقبلها. فهل يمكن لأحد أن يتغاضى ويتغافل عن مثل هذا التكذيب؟
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ] أعرف السيد جول منذ سنوات، كما تابعته عن كثب، كلماته وتصرفاته معتدلة، لا يستسلم بسهولة إلى الانفعال أو الغضب مهما حدث، ويهتم كثيرًا بعدم إيلام من أمامه. ولم أشهد إلى اليوم أي صراع دخل فيه منذ أن خاض غمار العمل السياسي. كما أنه لم يفسِد أسلوبه المحترم حتى أمام أقطاب المعارضة في أصعب الظروف، وعرف كيف يحافظ على شخصيته المعتدلة.[/box][/one_third]لو لم يكن داود أوغلو قد اتهم كل من ذهب إلى ولاية بنسلفانيا الأمريكية لزيارة الأستاذ كولن لما كان أحد قد تناول اللقاء الذي جمعه بكولن. وحتى لو طرح أحد هذه المسألة لما كان قد طال النقاش بشأنها.
إن عدد الذين غادروا عالم السياسة كبير جدًا. ومن الطبيعي أن يكون داودأوغلو قد زار هو الآخر الأستاذ كولن في الولايات المتحدة. ولم يكن أحد ليستغرب هذا أبدًا، ولم نكن لنسمع أي انتقاد من داخل حزبه أو أحزاب المعارضة. ويا لعبارة “نعلم لماذا يذهبون إلى هناك، فهل هناك شيء يتعلق بهم؟” ، يالها من جملة مزعجة حقًا. يا ليته لم يقلها وألمح إلى مضمونها دون تصريح.
يصرّ داود أوغلو على أنه أخبر جول، وقال “ذاكرتي قوية”، وقال إنه يتذكر ذلك اليوم جيدًا. بيد أن اعتراض جول لم يكن تكذيبًا بسيطًا، بل كان له معنى سياسي؛ إذ حاول أن يقول “لم أعد في صفكم، ولقد اهتممت بأن أبقى خارج حزبكم، فدعوني وشأني، ولا تلطخوا سمعتي بأكاذيبكم”. وهو محق في ذلك؛ إذ إنه تعرض لمعاملة لا تليق به، ونُبذ من جانب أردوغان وداود أوغلو.
لقد اختار داود أوغلو أن يواصل هذا النقاش لسبب مجهول، وذلك من خلال الاستشهاد بأن “ذاكرته قوية” وبالرد على جول الذي لا ريب في أنه شعر بالضيق والحزن بسبب تكذيبه من جانب شخص هو الذي أقحمه عالم السياسة، أي داود أوغلو. كنت أعتقد أنه لن يرد وأنه سينسحب من هذه المهاترة. لكنني أخطأت في هذا الاعتقاد؛ إذ تحدث جول خلال برنامج حواري أذاعته قناة خبر ترك. وكان ما قاله أقسى مما قاله قبل ذلك؛ إذ قال بالحرف الواحد: “وأنا أيضًا ذاكرتي قوية. هذا فضلًا عن أنني لا يمكن أن أنسى هذا الأمر بسبب الانزعاج الذي شعرت به وأعربت عنه عندما علمت أنه لم يخبرني قبل ذلك بشيء حول هذا الموضوع”.
أعرف السيد جول منذ سنوات، كما تابعته عن كثب، كلماته وتصرفاته معتدلة، لا يستسلم بسهولة إلى الانفعال أو الغضب مهما حدث، ويهتم كثيرًا بعدم إيلام من أمامه. ولم أشهد إلى اليوم أي صراع دخل فيه منذ أن خاض غمار العمل السياسي. كما أنه لم يفسِد أسلوبه المحترم حتى أمام أقطاب المعارضة في أصعب الظروف، وعرف كيف يحافظ على شخصيته المعتدلة. ربما يكون الأمر ليس ثقيلًا بالنسبة لسياسي آخر، لكن بالنسبة لجول فالأمر مختلف تمامًا.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ] طريق النجاة الوحيد أمام داود أوغلو فهو الاعتذار لمن تحدث في حقهم وكذلك للرأي العام، لأنه تخطى قصده، وإلا فإن وصمة العار هذه ستلازمه طيلة حياته.[/box][/one_third]أراه للمرة الأولى يتحدث بهذا الأسلوب الحاد. وقد كذّب داود أوغلو مرتين، وخصوصًا فإن ما قاله أمس ليس من قبيل الكلام العادي. ويمكن لأي شخص أن يلاحظ غضبه وانفعاله من بين الكلمات التي خرجت من بين شفتيه. وربما يكون لذلك سببان. من الطبيعي أن يتعكر مزاجه بسبب الزج به في نقاش سياسي سخيف في الوقت الذي يبذل فيه جهودًا كبيرة للابتعاد عن أنقرة وكواليسها. وربما يكون قد اعترض كذلك على تحميل الزيارة – أي زيارة كولن – على مهمة حكومية.
يقول داود أوغلو إنه ذهب إلى زيارة الأستاذ كولن ليقول له “عُدْ إلى تركيا” ولينذره بـ”التحذير الأخير”. ويستشهد بجول لإثبات ذلك. فنحن أمام وضعية أكثر من إخبار جول بتفاصيل هذه الزيارة. وما فهمته هو أن جول يعترض بشدة كذلك على أن هذه مهمة حكومية كما يحاول داود أوغلو أن يصورها. وهذا هو مغزى التكذيب المزدوج. وإلا فإن اسمًا كجول لا يمكن أن يكبر الموضوع إلى هذا الحد و”يجعل من الحبة قبة”.
ثمة مغزى كبير فيما صرح به جول أمس للصحفيين. كلام قصير ومختصر؛ إذ قال “لقد أغلقت هذا الملف، ليس هناك شيء مهم”. فرسالته مباشرة، وهي أنه أراد أن يقول لداود أوغلو “أغلق هذا الموضوع ولا داعي لإطالته أكثر”، وكذلك ليقول له “أبتعد عن صفوفكم عن قصد، فلا تلطخني بأكاذيبك”. ولا أعتقد أن داود أوغلو سيرد عليه. ويعرف أنه إذا رد فإن جواب جول سيكون أكثر حِدّة.
والحقيقة أن ما أوضحه داود أوغلو بشأن زيارته لمقر إقامة الأستاذ كولن في بنسلفانيا قد كُذب من جانب جول وكذلك محاميي الأستاذ كولن. وهذه تعتبر وضعية صعبة بالنسبة لرئيس وزراء دولة بحجم تركيا. ومعلوم للجميع أنه إذا أقدم رئيس وزراء في دولة غربية على فعل شيء كهذا فإنه يدفع الثمن غاليًا. فالرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون مَثُل أمام المحكمة فقط لأنه “كذب” في واقعة مونيكا لوينسكي، وحوكم واضطر إلى الاعتذار.
أما طريق النجاة الوحيد أمام داود أوغلو فهو الاعتذار لمن تحدث في حقهم وكذلك للرأي العام، لأنه تخطى قصده، وإلا فإن وصمة العار هذه ستلازمه طيلة حياته.
جريدة زمان 6/5/2015