أكرم دومانلي
خضع نظام العدالة في تركيا لامتحان خطير قبل يومين. فعندما انسد الطريق أمام الاعتراض على جميع قضاة الصلح والجزاء، تقدم المحامون إلى محاكم الجنايات الابتدائية. وعقب قبول طلب رفض القاضي، قررت المحكمة إخلاء سبيل الأشخاص المتعلقين ظلما منذ أشهر بموجب عملية طبيعية وقانونية.
وفي الواقع فإن ظل السياسة جثم كالليل البهيم على محاكم الصلح والجزاء. وكانت تصريحات السياسيين بشأن” تجهيز الأرضية” قد قضت بالكامل على مبدأ “القضاء العادي” للقانون العالمي. وماذا يعني هذا إذن؟ يعني أن القاعدة التي يطرحها القانون العالمي والدستور هي كالتالي: إذا كان هناك أي اتهام خاص بأي شخص أو مجموعة فإن هؤلاء الأشخاص يحاكَمون في إطار العملية القضائية المأثورة. وإذا تشكَّلت محكمة بغرض خاص يطلق عليها مصطلح “المحكمة المصطنعة” أو الاستثنائية، لتفتح القرارات الصادرة عن هذه المحكمة الباب أمام ترْك انطباع يشير إلى تحول القضاء إلى دمية في أيدي القوى المسيطرة. وهذا هو الشك الدائر حول محاكم الصلح والجزاء في تركيا اليوم.
على أية حال… ظهر قبل يومين تطور أفسد تناغم هذه “المحاكم المصطنعة”؛ إذ استُحدثت دوائر الصلح والجزاء، وعُيّن بها بعض المدعين العموم والقضاة المختارين، وانتقلت سلطة الاعتراض على القرارات من المحكمة الأعلى– وهذا أمر مخالف للقانون الدولي والدستور التركي– ليضطر المتهمون للاعتراض على القرارات أمام القضاة أنفسهم. وقد خُرقت دائرة الاستئناف المغلق قبل يومين، ذلك أنه اعتُرض على جميع قضاة الصلح والجزاء ورفض كل القضاة اعتراضات المحامين دون النظر إلى الحجج التي ساقوها.
إنهم يصدرون رفضًا غير مفهوم، فهل لا يتمخض عن ذلك طلب رفض للقضاة لأولئك المتهمين المعتقلين منذ أشهر؟ هذا فضلًا عن أن طلب رفض القاضي قُبل وعُرض الملف في المحكمة بشكل يتوافق مع مبدأ القضاء الطبيعي. وأصدرت المحكمة قرارًا بإخلاء سبيل مدير مجموعة سامان يولو الإعلامية هدايت كاراجا و62 شخصًا آخرين بينهم قادة من الأمن.
كان هذا ما يجب أن يكون؛ ذلك أنه عندما خرج ملف دعوى مبني على أساس غرض خاص من الحلقة المفرغة لدوائر الصلح والجزاء التي تحوم شكوك خطيرة حول عملها وفق تعليمات خاصة من السلطة السياسية كانت مبادئ القانون الدولي ستتبع إن عاجلًا أم آجلًا. وقد عاد النظام إلى طبيعته، وصدرت قرارات إخلاء سبيل المعتقلين بشكل منطقي مع بيان قانوني.
وماذا بعد؟! وفقًا للشائعات القوية فقد شُكِّلت لجنة أزمات برئاسة النائب العام بقصر تشاغلايان العدلي هادي صالح أوغلو.. لماذا؟ من أجل عدم تطبيق قرار المحكمة! فهل لدى النيابة العامة وظيفة أو صلاحية كهذه؟ لا! منذ متى والمدعون العموم يعقدون اجتماعات استثنائية كي لا يصل قرار إخلاء السبيل الصادر عن المحكمة إلى السجن؟! فما نشهده اليوم جريمة رسمية…
وفي ساعات متأخرة من الليل بادرت “لجنة الأزمات” في قصر تشاغلايان العدلي إلى شن حملة جديدة. واعتبرت دائرة الصلح والجزاء قرار إخلاء السبيل الذي أصدرته محكمة العقوبات الابتدائية غير سارٍ وفي حكم العدم. وهل دائرة الصلح والجزاء هي المحكمة العليا المختصة بهذه الدعوى؟! منذ متى ودائرة لا ترقى حتى لتكون محكمة ابتدائية تعتبر قرارًا صادرا عن محكمة عليا في “حكم العدم”؟!
حسنًا، لماذا نشهد هذا القدر من الحالات القانونية الغريبة؟ للأسف لأن السلطة السياسية في تركيا جعلت القضاء دمية بين يديها منذ زمن طويل. فما يقوله السياسيون يعتبره القضاة ومدعو العموم أوامر يجب تنفيذها على الفور دون نقاش. وعندما يكون الوضع كذلك تصبح العدالة بين شفتي العاملين في السلك القضائي. فهل يمكن أن تبقى سمعة القضاة والمدعين العموم بهذه الوضعية؟
عندما تربط صلة قرابة المتهمين بأشخاص يتولون مناصب رفيعة بالدولة نرى الموازين تقلَب ونشهد ظلمًا بيّنًا بالرغم من عشرات الأدلة الملموسة. أما إذا كان المتهمون من أولئك الذين تبغضهم السلطة السياسية الحاكمة، أو أولئك الذين تطلق عليهم الافتراءات والأكاذيب كل يوم، فإن آلية العدل تتعطل. هذا إلى جانب أن هذا الظلم يرتكَب علانية ليجري استبدال رجال الشرطة باللصوص والصحفيين الحقيقيين بالمهرجين العاملين لصالح جهاز المخابرات.
إن كل من تخطّى صلاحياته ضد قرارات إخلاء السبيل الصادرة قبل يومين وأخّر تحقيق العدالة يكون قد ارتكب جريمة.
إن القوانين المعطَّلة اليوم تشير إلى مرحلة يطبق بها الدستور وفق أهواء من يحكمون البلاد، بيد أن هذا الظلم والجور لن يستمرا إلى أبد الآبدين.
لا يعلَّق العمل بالقوانين إلا في الفترات الاستثنائية والحقب الظلامية. فعلى سبيل المثال كان لدى الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين مدعٍ عام يدعى فيشينسكي، ولم يكن هذا الرجل يعرف شيئًا اسمه القانون أو النظام بينما يؤدي مهام عمله. وكان ليس لديه إلا معيارًا واحدًا، ألا وهو تنفيذ أوامر سيده ستالين الذي كان يعتبر كل شخص في بنية الدولة اشتراكيا، وكان يرى أنه يجب الكشف عن الهويات السرية للأفراد ومعاقبتهم بتهمة خيانة الوطن. ولم يكن هناك أدنى داعٍ لدليل ملموس لاتهام هؤلاء الأشخاص بالخيانة والتجسس. فترى أسر المتهمين تتعرض للتعذيب ليُقرّ من لا يتحمل منهم التعذيب باعترافات تكون دليلًا على صحة الاتهامات الموجهة إليه. وكان فيشينسكي قد طغى وتجبر وعشق الظلم لدرجة أن ستالين كان هو الذي يعدِّل خطاباته بنفسه، فيما كان فيشينسكي يلهث كالكلب وراء سيده الذي أسند إليه هذا المنصب. فأين العدل إذن؟!
إن كل ما يتمنّاه الظالمون في كل زمان ومكان هو أن يكون لديهم جهاز قضاء دمية بين أيديهم. وكان الزعيم النازي هتلر على هذه الشاكلة؛ إذ كان لديه نواب عموم وقضاة خاصون. وإذا خرج أحدهم عن طوعه وأوامره مرة واحدة كان يغلق تلك المحاكم ويسرّح قضاتها. وعلى سبيل المثال حاول تحميل مسؤولية حريق مبنى البرلمان إلى فئة معينة من فئات الشعب، فاعتقل مئات المثقفين بعدما اتهموا بتبني مبادئ الشيوعية. فأصدر هتلر قوانين خاصة بعدما جعل هذا الحريق الكبير سببًا في تأسيس نظام البوليس السري الألماني (جيستابو)، كما أسّس محاكم خاصة وعيّن بها مدعين عموم وقضاة خاصين ومنحهم صلاحيات استثنائية. والنتيجة؟ تحول التسمم بالسلطة إلى هلاك دولة وضياع أمة. ولا تزال ألمانيا وأوروبا العظمى تعيش بهذا الخزي والعار إلى يومنا هذا…
كان في تركيا نواب عموم وقضاة لا يعرفون القانون في الحقب الاستثنائية. وكان القاضي سالم باشول عندما قال لرئيس الوزراء الأسبق عدنان مندريس ورفاقه: “إن من يريد ذلك هو الإرادة السياسية التي جاءت بكم إلى هنا” قد اعترف بأنه تحول كقاضٍ إلى شخصية سافلة، وأنه يوزّع العدل وفق هوى العصابة التي سيطرت على الدولة لا وفق القانون. وللأسف فإن هذا المقام لن يسع لسرد أسماء مدعي العموم والقضاة الذين كانت مهمتهم الوحيدة تقبيل أرجل الظالمين إبّان الانقلابين العسكريين الذين شهدتها تركيا عامي 1980 و1997…
نعيش اليوم خطرًا مشابهًا بالنسبة للقضاة ومدعي العموم. وأرى أن عليّ تذكيرهم بالحقيقة التالية: لا يمكن إقرار العدل إلا وفق روح القانون الدولي والدستور، ومن الظلم أن يصدروا قرارًا وفق أهواء بعض الأشخاص، ولن يسامح التاريخ الظالمين أبدًا، كما لن يستطيع من تحرك وفق أهواء الظالمين لا وفق القوانين أن ينظروا إلى وجوه أبنائهم وأحفادهم…
جريدة زمان 28/4/2015