عثمان أوزصوي
أمضيتُ سنوات طويلة من عمري في البحث داخل أرشيفات الدولة العثمانية. ولم أستطع أن أخفي دهشتي وإعجابي الشديدين تجاه بعض الوثائق التي وقعت عليها عيناي. وسأورد في سياق المقال بعضا من تلك الوثائق. إلا أنني أرغب في البداية في لفت الانتباه إلى نقطة مهمّة؛ حيث تلوك ألسنة الكثير من الناس معلومات مفادها أن التاريخ الرسمي لا تعكس الحقائق على النحو المطلوب، إلا أنه لم يفكر أحدًا في أن يكلف نفسه العناء ويدخل تلك الأرشيفات ليسبر أغوار الحقائق، وبيان صحيحها من سقيمها بالرغم من أن الأرشيفات والمحفوظات موجودة بجواره ومفتوحة للجميع.
الناس في تركيا يشتكون من قضايا كثيرة إلا أن الأمر عندما يتطلب بذل المزيد من الجهد لتصحيحه نجدهم دومًا يترقبون أن يقوم شخص آخر بعمل اللازم.
عندما كنتُ أُحضرُ رسالة الماجستير، في نهاية عقد الثمانينيات، كنتُ الباحث التركي الوحيد الذي يبحث في أرشيف “السجلات الشرعيّة” المحفوظة في سجلات المحكمة العثمانية؛ بمعنى أنه في الوقت الذي كان يطلع فيه الباحثون الأجانب على نظام العدل في الدولة العثمانية، لم يكن هذا الموضوع يحظى باهتمام من الأوساط الأكاديمية في تركيا.
وأتذكرُ أنه عندما توجه كنعان إيفرين رئيس الجمهورية التركية آنذاك لزيارة رسمية إلى الولايات المتحدة الأمريكية في مطلع الثمانينيات أدلى الرئيس الأمريكي رونالد ريجان بتصريح قال فيه: “إننا نقوم بالاطلاع على نظام العدل الذي جعل الدولة العثمانية باقية لمدة عصور طويلة”.
إن الخطأ الأكبر الذي يقع فيه بعضنا أثناء تقييم الأحداث التاريخية هو تقييم تلك الأحداث والوقائع وفق نتائجها فحسب؛ والأمر نفسه ينطبق على “مسألة الأرمن” التي تم تحريف وقائعها عن مسارها إلى أن غدت قضية رئيسية لدى الرأي العام العالمي بعدما تم خِداع شعوب العالم أجمع.
غير أن الأمر الذي يبعث على الدهشة والغرابة هو أن الفترة التي زُعم فيها أن الأرمن تعرضوا لإبادة جماعية، كانت حكومة الدولة العثمانية آنذاك تضم وزراء أرمن. وفي الفترة نفسها حاول جيش الاحتلال الذي بلغ عدد جنوده نصف المليون الاستيلاء على مدينة” جناق قلعه” لإدخال إسطنبول تحت لوائهم، وسعوا لتضييق الخناق على الدولة العثمانية من سبع مناطق حربية في وقت واحد.
ولعب كل من البريطانيين والفرنسيين والروس دورًا بالغًا في إدخال مخططاتهم في هذا النزاع لشغل الدولة العثمانية بالداخل حتى يتمكنوا من تقليص كيان الجنود العثمانيين الذين يقاومون ضدهم في ساحات الحرب، فقاموا بتسليح الأقليات الموجودة في الدولة العثمانية إلى أن جعلوها تتمرد عليها، أي على الدولة العثمانية، وكان على رأسهم الأرمن واليونانيون. بعد ذلك انصاع بعض الدول العربية –للأسف الشديد- إلى مخطط هذه الخيانة القذرة.
على هؤلاء الذين اتخذوا قرار بالاعتراف بإبادة الأرمن في البرلمان الأوروبي في هذه الأيام أن يجيبوا على سؤال “ما كان شأنهم في “جبهة القنال-السويس-” الواقعة بالقرب من الأراضي المقدسة وفي جبهة مدينة “جناق قلعة في ذلك التاريخ”. عليهم أن يجيبوا على هذا السؤال؛ ذلك أن الحرب العالمية الأولى التي لم تطلقها الدولة العثمانية لم يمت فيها الأرمن فحسب، إذ تُقدر خسائر الحرب بنحو 8 ملايين و856 ألفا و315 شخصا لقوا حتفهم، وأصيب 21 مليونا و219 ألفا و452 شخصا، فيما فُقد أو أُسر 7 ملايين و750 ألفا و945 شخصا.
وقام الروس بتسليح الأرمن الموجودين في المنطقة من أجل تحقيق مخططاتهم ومآربهم بسهولة لاحتلال شرق تركيا الذي بات حلمًا لطالما راودهم لعصور، كما ساعدهم الإنجليز والفرنسيون في عملية التسليح، ودرّب الضباط الروس العصابات الأرمنية.
ثم توالت الحروب بدءًا من الحرب العثمانية الإيطالية (الحرب الليبية) وحرب البلقان وتلاهما الحرب العالمية الأولى التي اضطرت الدولة العثمانية لإرسال كل من لديه القدرة على الإمساك بالسلاح لساحة الحرب وخوض غمارها إلى جانب الجنود، فلم يعد هناك من الشباب تقريبًا في القرى والنجوع باستثناء السيدات والأطفال والشيوخ.
هاهم الأرمن الذين تم تسليحهم وجدوا أمامهم الفرصة سانحة وهاجموا المسلمين الضعفاء العزّل من السلاح في القرى؛ فسفكوا دماء الأبرياء وارتكبوا أعمالا وحشية لا يمكن أن يتخيلها عقل إنسان إطلاقا. لدرجة أن بعض الضباط الروس انزعجوا كثيرًا من ظلم الأرمن الذي بلغ أبعادًا وحشيّة. ولم يكن في مقدور الدولة العثمانية إرسال وحدات من الجيش من الموجودة في ساحة القتال ليحولوا دون هذه الأعمال الشنيعة؛ وكان الوطن بأسره في جبهات القتال كافة واقعا تحت هجوم. وبعدها قررت حكومة الدولة العثمانية اتخاذ القرار المشهور الذي عُرف بـ “تهجير الأرمن” بسبب هذه الظروف. وذكرت الأسباب التي اقتضت نقل وتهجير الأرمن بصورة واضحة في قرار مجلس الوزراء الصادر بتاريخ 31 مايو/ أيار 1915.
وجاء في القرار التاريخي أن “بعض الأرمن المقيمين في المناطق المتاخمة لمناطق الحرب حالوا دون عمليات جيشنا الذي يبذل قصارى جهده لحماية حدود الدولة العثماينة من الدول الأعداء، ووضعوا صعوبات في نقل الإمدادات والمعدات العسكرية، وتعاملوا مع قوات الأعداء وخططوا معًا، وشاركوا في صفوف الأعداء، ونظموا اعتداءات مسلحة على القوات العسكرية والشعب البرئ الأعزل من السلاح في الداخل”. وفي ضوء هذا التقرير لفت القرار إلى حتمية إبعاد العناصر المتمردة عن ساحة العمليات الحربية.
كما جاء في القرار “العمل على توفير الراحة التامة للأسماء التي ينبغي إرسالها من الأرمن المقيمين في القرى والنجوع الواردة خطيًّا في القرار، وذلك أثناء نقلهم وتوصيلهم إلى المناطق المقرر نقلهم إليها بصورة آمنة، وحماية ثرواتهم وممتلكاتهم، ومنحهم بدل إقامة المهاجرين إلى أن يتم نقلهم بشكل قطعي لدى وصولهم الأماكن المحددة لهم، كما توزع عليهم عقارات وأراض بقيمة الأوضاع المالية والاقتصادية التي كانوا يمتلكونها من قبل”.
كما جاء في نص اللائحة القانونية المنشورة في 10 يونيو/ حزيران 1915 المتعلقة بتهجير الأرمن “إن الموظفين المحليين المتواجدين على الطرقات مسؤولون عن حماية أرواح وممتلكات الأرمن الذين تم إرسالهم لمناطقهم السكنية وتوفير الراحة والإعاشة لهم طوال الطريق. وعليه، فإن جميع الموظفين يتحملون المسؤولية -على التوالي- عن أية أخطاء أو إهمال يحدث”.
وفي الوقت الذي ينظر فيه الأرمن بعين التسامح للظلم البشع الذي لا يتصوره عقل الذي أرتكبوه ضد الشعب التركي، اتخذت الدولة العثمانية جميع التدابير اللازمة خشية ألا يقوم الجنود العثمانيون الذين عادوا إلى منازلهم عقب الهدنة بالمعاملة بالمثل ويقتلون الأرمن الذين قتلوا أطفالهم وهدموا منازلهم وأتوا على الأخضر واليابس.
وأواد أن أقدم لكم في هذا المقام وثيقتين فقط من بين مئات الوثائق التي قمنا بجمعها من الأرشيفات العثمانية أثناء الأبحاث التي أجريناها حول هذا الموضوع.
الوثيقة الأولى: “وورد في البيان المرسل من مديرية الأمن العام لمحافظة أضنة أنه “سيتم تسليم الفتيات والأطفال الأرمن الذين ليس لهم معيل أو أقارب لدى المسلمين للزعماء الروحيين الأرمن أو أصحابهم، وفي حال عدم قبلوهم ستتكلف الحكومة العثمانية برعايتهم”.
أجل، فالدولة العثمانية حمت وبسطت جناحها رحمة وشفقة على فتيات وأطفال ونساء العصابات الأرمينية واليونانية التي اقتحمت قرى ونجوع العثمانيين في الجبال وقتلت عشرات الآلاف من الناس، ولبّت كل متطلباتهم، ثم سلمتهم سالمين دون أن يلحق بهم أذي لأهاليهم عقب الحرب.
وكما هو موضح في الوثيقة الثانية أيضًا؛ فإنه من المدهش والغريب في الأمر أنه عند تسليم فتيات وأطفال ونساء الأرمن واليونانيين الذين تمت حمايتهم من قبل الأسر المسلمة لذويهم عقب الحرب، هرب معظمهم من منازلهم وعادوا إلى الأسر المسلمة التي كلفت برعايتهم. والأرشيفات الموجودة لدينا تضم العديد من الوثائق المشابهة المتعلقة بهذا الموضوع.
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوةٍ ويتطلب إمعان الفكر؛ لو كان هؤلاء تعرضوا أو رأوا معاملة سيئة من الأسر المسلمة هل كانوا عادوا إليهم؟ وهل هذا المشهد يمكن أن نرى فيه حقًّا “إبادة جماعية للأرمن”؟
إن الدولة العثمانية أظهرت كرمًا وسخاءً كبيرين تجاه هؤلاء الأطفال والنساء الأرمن، زد على ذلك أن الدولة العثمانية استصدرت قانونًا من شانه عدم تظلم الأرمن انطلاقًا من فكرة أنه قد اضطروا إلى بيع المنازل والممتلكات التي تركوها أثناء عملية التهجير بصورة عاجلة وبأسعار زهيدة جدًّا، وجعلتهم يوقعون على بيان “تسلمتُ ممتلكاتي كافة كما هي”؛ بمعنى أن جميع الأرمن واليونانيين استردوا جميع ممتلكاتهم كاملة دون نقصان.
ولكي لا أطيل عليكم دعونا نقدم لكم موجزًا مبسطًا عن بعض الوثائق الموجودة بشكل مفصل في كتبي.
“إرسال إعانات للمحتاجين من الأرمن واليونانيين العائدين إلى ديارهم”.
“عدم السماح بتعرض الأرمن المتجمعين في مدينة سيواس وضواحيها لمعاملات سيئة”.
“تحديد الوظائف السابقة لليونانيين والأرمن الذين تم تهجيرهم ومنحها إليهم مرة أخرى”.
“مساعدة المحتاجين من الأرمن واليونانيين”.
“إخلاء المنازل والمساكن التابعة لليونانيين والأرمن المنتقلين لأحياء أخرى بسبب الحرب”.
وبالمناسبة أجدُ أن ثمة فائدة في عقد مقارنات تتعلق بهذا الموضوع؛ فعلى سبيل المثال هاجم الأرمن منزل خوجه زاده أحمد نوري أفندي في مدينة “كستامونو”، ثم سرقوا كل ما كان يملكه في منزله. إلا أن الدولة العثمانية كانت ترسل في تلك الأيام تعليمات من إسطنبول لمدينة “أرضروم” لحسن التعامل مع كل من واهان وكانتشوريان سراب وهما راهبان من الأرمن الكاثوليك يعيشان في أرضروم.
كما داهم الأرمن منازل المسلمين الذين يعيشون في مناطق مختلفة من منطقة الأناضول وسرقوا ممتلكاتهم، في حين أن الحكومة العثمانية كانت ترسل أموالا من إسطنبول إلى الأناضول كنفقات معيشة للأرمن.
إن الدولة العثمانية لم تعمل بمبدأ المعاملة بالمثل تجاه الأعمال البشعة التي أرتكبها كل من الأرمن واليونانيين ضد المسلمين في الأناضول؛ فلم تفضل الانتقام أو الأخذ بالثأر منهم، كما لم تبث بذور الضغينة والكراهية في قلوب الشعب التركي. وطالبت حكومتنا في إحدى الوثائق بشأن هذا الموضوع “عدم السماح للنزاع والكراهية وحدوث وقائع مخالفة للقانون ضد غير المسلمين” ولم يحدث أي حادث في هذا الصدد”.
ومجمل القول؛ في حقيقة الأمر أن مسؤولي حكومات الدول الذين يعترفون حاليًا بإرتكاب العثمانيين مجزرة الأرمن المزعومة يعرفون الحقيقة. ونظرًا لأنه يوجد في تركيا حاليا حكومة من أكثر الحكومات التي فقدت هيبتها على المستوى الدولي من بين الحكومات التي تعاقبت طوال تاريخ الجمهورية التركية، ولأنها تضم سياسيين لم يحظوا باحترام من قبل العالم بسبب نظرة الاستقطاب الطائفي ضد الأرمن”، فاستغلت بعض الدول التي اعترفت بإبادة الأرمن المزعومة هذه الفرصة وضعف الحكومة التركية الاستغلال الأمثل، ويسعون حاليًا لتصفية حساباتهم القديمة مع تركيا على أحداث وقعت قبل قرن من الزمان.
للأسف الشديد لقد وقعت تركيا بين شقي الرحى على الصعيد الدولي، فالذين زاروا الدول (من سياسيي تركيا) لشكوى المدارس التركية التابعة لحركة الخدمة التي تستلهم فكر الأستاذ محمد فتح الله كولن، لم يرضوا أن يذهبوا لدولة واحدة لإثبات عدم صحة ادعاءت “إبادة الأرمن” بالرغم من أنهم بذلوا مجهودًا كبيرًا في الاستعداد لحفلات الذكرى المئوية لحرب جناق قلعة لكنهم لم يحاولوا إثبات صحة ادعاءات تركيا.
لا ريب في أن التاريخ سيسجل هذه الأيام والوقائع في صفحاته ولن يمر عليها مرور الكرام. ومَن كان يقول أو يصدق أن يحكم تركيا عقلية مثل “الاتحاد والترقي” مرة أخرى، في إشارة لحكومة العدالة والتنمية، عقب مرور 100 عام على هذه الأحداث؟.
إن أحلامهم –العدالة والتنمية- التي تفتقد إلى البنية التحتية وآفاقهم الضيقة ستهدم المنطقة والدولة.. لكننا سنقول عن ذلك “قضاء وقدر”.