أحمد كوروجان
كان ذلك قبل سنوات طويلة..
كنت أستمع إلى درس الأستاذ فتح الله كولن، وكان موضوعه الكذب ومكانته في ديننا، وكأن الأستاذ كان يقرأ من كتاب…
بالطبع لم أر أي كتاب أمامه، ولكن عند تقييمي للدرس بشكله المتكامل ومع عدم وجود أي فراغ فيه وسرد الاستاذ للاحاديث والآيات الواحدة تلو الأخرى، وذكره لتعليقات المفسرين وشراح الأحاديث وفي النهاية ذكر تعليقاته بأسلوب منطقي وسلس، كل ذلك كان سببا في إحساسي بأنه يقرأ من كتاب.
لم أنس شرحه لذلك الحديث: “في يوم سأل رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أصحابه، و قَالَهَا ثَلاثًا ” أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟
وبهذا السؤال كان قد ركز على توصيل رسالة معينة وجذب انتباه أصحابه
، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ: ” الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ” ،قَالَ : وكَانَ مُتَّكِئًا (يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فَجَلَسَ، قَالَ : ” وَقَوْلُ الزُّورِ ” ، قَالَ : فَمَا زَالَ يَقُولُهَا حَتَّى قُلْنَا : لَيْتَهُ سَكَتَ.
كان الأستاذ جالسا على كرسيه وهو يشرح هذا الحديث وعندما وصل الى الجزء الثالث من الحديث جثى على ركبتيه مقلدا رسولنا الكريم ودب الرعب في قلوبنا جميعا وكررها مرارا إياكم وشهادة الزور إياكم وشهادة الزور.
كنا قد تأثرنا من تقليد هذه الوضعية ولكن حاولوا أن تستحضروا في اذهانكم (تمني الصحابة أن يسكت رسولنا الكريم ) وفي الواقع كان هذا هو التأثر الأصلي فينا.
مرت سنوات عدة.
كنا في مجلس آخر وفي درس آخر. دار النقاش حول مواضيع عدة، وجئنا لموضوع الكذب مرة أخرى. كان الموضوع هذه المرة عن تهاوننا أمام الكذب. كان المحور الأساسي للدرس كما تعودنا دائما هو عدد من الآيات والأحاديث.
والأستاذ أوصل الحديث إلى نقطة معينة عندها بقيت متحيرا مندهشا ومصدوما.
وكيف لا أصدم وهو يقول : “فإن كنت لا تحمل هذه الروح المعنوية ولا تستطيع فداء رسول الله بروحك اذا لزم الأمر، فهذا يعد كذبا أيضا”
قالها وارتفعت نبرة صوته وكرر كلمة كذب مرارا .. كذب كذب كذب ، هكذا أتم حديثه.
الشيء الذي ذكره كمثال، هو الأنشودة التي اشتهرت في تلك الأيام وكانت تتردد على ألستنا جميعا.
كان اسم الأنشودة “على خطى النبي”. كانت تسمع في الراديو والتليفزيون وفي البرامج الدينية.
الانشودة هكذا كانت تبدأ :
نحن خادمو القرآن
نحن أصحاب الإيمان النقي ونحن الأقوياء
لن نرجع عن طريقنا هذا أبدا
نحن على خطى النبي
أيضا هناك بعض الكلمات الأخرى
قال الحق عنه حبيبي
أرواحنا فداء في سبيله
ليشهد العالم على ذلك
نحن على خطى النبي
إذا لم تخني ذاكرتي كان الأستاذ قد قرأ هذين المقطعين الأخيرين.
وقال: “من يقول فديت روحي في سبيلك يا رسول الله وهو لم يصل بعد إلى هذ النضج والمستوى وعندما يضطر الأمر به لفداء روحه ولا يستطيع فعل ذلك فهذا يعد كذبا.. كذبا.. كذبا.
مرت سنوات بعد ذلك أيضا..
كنت أعيش أسعد ساعات حياتي وأجمل لحظاتها في مجلس الأستاذ.
سأل الأستاذ شخصا كم الساعة؟ وكان هذا الشخص قد قضى مع الأستاذ سنوات عديدة بصباحها ومسائها، فأجابه عن الساعة ولم يركز على ذكر الدقائق بشكل دقيق.
في الحقيقة نسيت كيف كانت الإجابة لأن هذا كان قبل سنوات طويلة، ولكنه قال مثلا:
الساعة الثالثة ولكن في الحقيقة الساعة الثالثة إلا ثلاث دقائق، أو قال الساعة الثالثة وعشر دقائق وفي الحقيقة الساعة الثالثة وسبع دقائق.
لو رأيتم الأستاذ آنذاك، وكان قد أخذ موقفا وقال: هذا يعد كذبا.
فعلى حسب تعريف الكتب الإسلامية للكذب، هو أن تقول عن شيئ لم تره أنك رأيته أو شيئ لم تسمعه أنك قد سمعته
لقد استغربت هنا أكثر من المثالين اللذين عرضتهما سابقا واندهشت من أعماقي.
لأن هذا العمل إنما هو عمل بسيط نقوم به كل يوم من غير أن يخطر على بالنا أنه كذب.
مَنْ مِنا لا يقول الساعة بشكلها العام ولاينتبه للدقيقة والثانية بشكل دقيق.
ولكن الاستاذ قال “لا”.
أنتم بهذا القول تتفوهون بكلام مخالف للعلم الإلهي ومناف للحقيقة.
الساعة الآن الثالثة وسبع دقائق، لذلك وجب عليكم ألا تخالفوا الحقيقة وعليكم أن تقولوا الدقيقة الحقيقية وحتى أن تقولوا الثواني أيضا”.
ومرت بعد ذلك عدة سنوات ..
في الأسبوع الماضي كنت أجلس في حضرة الأستاذ أيضا.
وقد جاء عدد من الضيوف من تركيا.
رحب بأحد الضيوف الذي كان يعرفه من سنوات قائلا “أهلا وسهلا”.
وبعدها سأل عن حاله “كيف حالكم بخير إن شاء الله”
سأله لكن قبل أن يتلقى الجواب منه… وبردة فعل مفاجئة سحب كلامه واستمر قائلا :”في الأصل أصبحت عادة أن نسأل كيف حالكم هل أنتم بخير والجواب على ذلك عادة هو نفس الجواب.. أنا بخير وأنتم كيف حالكم، ألا يعد كذبا أن يقول أنا طيب وبخير وهو ليس كذلك؟ قلت سيكون موضوع الدرس اليوم حول الكذب بناء على حساسيته في الكذب كما مر معنا في الأمثلة السابقة وبدأت أنتظر الكلمات مثل الصياد.
وقال: “ليس في ثقافتنا فقط ولكن في ثقافة العرب أيضا هذه العادة موجودة، ويقولون كيف الحال والأصل في رأيي ألا يسألوا كيف الحال ولكن كيف المَعاد بمعنى كيف ستكون عاقبتك؟”
الأستاذ كان يستغل كل فرصة ويحول الموضوع إلى درس نستفيد منه ونحن هنا كنا نشهد على ذلك.
الأستاذ بدأ من كيف حالكم هل أنتم بخير وحول الموضوع الى موضوع عاقبة الدنيا والآخرة
أنا لا أجيب أنا جيد لمن يسألني كيف حالك؟
لأنني في الحقيقة لست بإنسان جيد.
ثم أفكر بسؤال هل أنت بخير على أنه سؤال دنيوي يسأل في نقطة الصحة والعافية.
في هذه الحالة لو قلت إنني بخير سيكون كذبا، لأن صحتي ليست بجيدة، إذ أصارع مع أمراض كثيرة.
لو قلت إنني لست بجيد سيكون شكوى لله تعالى.
وهذا القول لا يقوله الإنسان الذي يشعر بأنه عبد ويشعر بعبوديته.
وبعد ذلك سكت قليلا…
وفي ظني في هذه اللحظة أنه كان يبحث في ذهنه عن كلمة مناسبة لا تكون كذباً ولاتكون شكوى إذا قالها، لكن تدخل أحد الحاضرين في الصالة ونقل شيئا من ذكرياته القديمة المتعلقة بالموضوع .
سألوا الأستاذ في زيارة عيد كيف حالكم.. وقال الأستاذ:
لو قلت إنني جيد لكان كذباً، ولو قلت إنني لست بجيد لكان شكوى. ينجي نفسه من يقول إنه ليس بسيئ”.
أي ينجي نفسه من الكذب والشكوى..
استمع الى هذه الذكرى ووافق عليه مع إضافة شيء حيث قال: لنضف إليها في هذه الأيام كلمة “كثيراً” ولنقل: لست سيئاً كثيراً، ونحن نعلم أن الكذب لفظ الكافر وعلامة المنافق، نعم نعلم ذلك ولكن يا ترى هل نحرص على هذه الدرجة بأن لا يدخل الكذب في حياتنا.
هل الجواب بنعم أو لا أو ربما؟ أية واحدة من هذه الكلمات هي جوابكم هل هو نعم أم لا أو أنه ربما؟ ولماذا؟
ما رأيكم بمحاسبة أنفسنا؟