عمر نور الدين
ترى ماذا يقول الرئيس رجب طيب أردوغان عندما يخلو إلى نفسه؟ وعندما يمر أمامه الشريط الطويل لثلاثة عشر عاما حكم فيها حزب العدالة والتنمية تركيا؟
كان الحزب أملا للكثيرين في تركيا ممن عانوا مرارة الظلم واستلب حقهم في الديمقراطية والحرية وكل الشعارات البراقة التى رفعها الحزب وكانت حلما للإسلاميين والتواقين لنموذج يعكس تعايشا تم الترويج لاستحالته بين الإسلام والديمقراطية سواء في تركيا أو خارجها.
منح نصف الشعب التركي للحزب ولرئيسه أردوغان القوة الدافعة للاستمرار عبر صناديق الاقتراع، وكان الشعب التركي يحدوه الأمل في التغيير بعد حقب طويلة من المعاناة في ظل الانقلابات العسكرية والحكومات الائتلافية التي لم يكتب التوفيق لأغلبها، والأزمات الاقتصادية الطاحنة المتتالية، وظل الحزب يكسب ثقة الجمهور لثلاث دورات متعاقبة، ولعبت النجاحات الاقتصادية إلى جانب كاريزما أردوغان وخطاباته الصاعقة لمنافسيه دورا كبيرا في هذا حتى العام 2011، الذي تمكن الحزب عبر الانتخابات التي أجريت فيه من تشكيل الحكومة منفردا للمرة الثالثة في إنجاز ظل أردوغان يباهي به ويفاخر إلى أن دفعه ذلك إلى حالة من البارانويا السياسية ليتخلى عن خطابه الجامع والمحتضن لأطياف الشعب التركي، حتى لو ظاهريا، إلى خطاب أيدلوجي استقطابي حاد يأخذ من الإسلام السياسي أسوأ ما فيه وهو النزعة الفاشية التي طورها أردوغان إلى خطاب كراهية وإقصاء وتخوين.
وكما كان العام 2011 مفصليا لمنطقة الشرق الأوسط التي هبت عليها عواصف الربيع العربي كان أيضا مفصليا بالنسبة لتركيا التي لم تكن مشمولة ضمن هذه العواصف والزوابع لكنها انخرطت فيها حتى النخاع واكتوت بنيرانها بسبب السياسة الخارجية الخاطئة لحكومة العدالة والتنمية والخطاب العنيف لأردوغان وتدخلاته غير المقبولة وغير المبررة، التي وسعت من دائرة الرفض لتركيا ودائرة الكراهية لأردوغان بعد أن كان موضع ترحيب من قادة دول المنطقة قبل شعوبها.
بعد انتخابات يونيو/ حزيران 2011 بدأ خط التراجع في النهج التصالحي الاستيعابي لحزب العدالة والتنمية وانكشف ضعف سياساته داخليا وخارجيا، ولعب أردوغان الدور الأكبر في ذلك لأنه بدأت تترسخ في نفسه فكرة أنه الزعيم الأوحد غير القابل للمنافسة وأنه ليس هناك في تركيا ولا المنطقة زعيم يجاريه بل إن زعماء العالم يحسدونه ولذلك انعزلت تركيا عن العالم، وبدأ من حوله يلقبونه بـ” زعيم العالم” لتكبر القصة في رأسه، لاسيما بعد أن كان قد اقتنع تماما بأنه وصل إلى مرحلة التمكين بعد انتخابات 2011.
عمل أردوغان منذ عام 2002 وحتى عام 2011، وصولا إلى يومنا هذا، على إعادة صياغة وهيكلة مؤسسات الدولة التركية لتصبح طوع أمره مستغلا الكثير من العوامل التي هيأت له عزل الجيش عن الحياة السياسية منها الدعم الأمريكي والمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، ثم بدأ بهيكلة جهازي المخابرات والشرطة وإحكام القبضة على القضاء، فلم يعد في تركيا العلمانية مؤسسات علمانية بالمعنى المعروف ولم تعد هناك أصوات تزمجر وقت الغضب.. أصبح الجميع في حالة استسلام تطورت إلى حالة من النفاق للحاكم.
وفي غمرة كل هذا كان أردوغان يشكل كتيبة إعلامية من الصحف والقنوات التليفزيونية من خلال صفقات رجال الأعمال المقربين منه، وفي الوقت نفسه يشن الحملات لتكميم الأفواه وقمع كل صوت معارض، ولو كان الأمر بيده لاشترى تويتر وفيس بوك ويوتيوب ومختلف مواقع ووساط التواصل الاجتماعي التي تعكر صفوه وتحاول أن تذكره بأنه تجاوز كثيرا في حق الديمقراطية وحقوق الإنسان الأساسية وأضر المجتمع التركي وجعل من الدستور ” قصاصة ورق لا قيمة لها” وقضى على اعتبار تركيا على الساحة الدولية بسبب تخبط السياسة الخارجية لحكوماته المتعاقبة، ودمر علاقات تركيا بمحيطها، وأطلق على كل ذلك ” العزلة القيمة”.
وأصبح أردوغان أكبر عامل ضرر لتركيا خارجيا، كما أصبح أخطر تهديد للاقتصاد التركي بسبب تصريحاته العدائية وتدخلاته في شؤون الآخرين ومحاولته الانفراد بكل القرارات من السياسة الخارجية إلى الاقتصاد إلى تنظيم الأسرة وتصدير تهمة الخيانة لكل من لايأتمر بأمره، يستوي في ذلك رئيس الوزراء مع رئيس البنك المركزي مع كل زوجين يتورطان في استخدام وسائل منع الحمل، التي وصفها أردوغان بأنها خيانة لتركيا.. الخيانة الوطنية أصبحت أسهل وأسرع تهمة يرمي بها أردوغان معارضية أو من لاينصاعون لأوامره.
ترى ماذا يقول أردوغان لنفسه حين يخلو بها.. وهل يقارن بين صورته بالأمس وما أصبح عليه اليوم .. هل يقول لنفسه كما يقول عنه من يتابعون ويحللون ما يجري في تركيا.. لقد كان زعيما قاد بلاده إلى الصعود على الساحتين الدولية والإقليمية وجعلها نجمعا ساطعا في عالمي السياسة والاقتصاد.. وأصبح حاكما لا يفكر إلا في سلطة جامحة ويسعى بكل قوته للانفراد بحكم تركيا” الجديدة” التي يريدها سلطنة لاتحمل من تاريخ أجداده العثمانيين إلا الإسم فقط، وتخاصم كل القيم العالمية من ديمقراطية وحريات وحقوق أساسية، وتقاس عظمتها بالقصر الرئاسي الجديد، “القصر الأبيض” شديد الفخامة من الداخل والذي يقبع خارج أسواره يقبع الفساد الذي يتغذي على نزعة الديكتاتورية والاستبداد لمن شيد قصرا رغما عن القانون، وبذل كل جهوده لحماية الفاسدين الذين شوهوا صورة تركيا وسمعتها وهزوا اعتبارها دوليا وأجبروا شعبها على تحمل فاتورة فسادهم وجرائمهم داخليا.
هل يفكر أردوغان في كل ما يقال ويكتب من أنه كان نواة لزعيم يبشر بالديمقراطية والحريات ومحو ذاكرة عهود الوصاية والظلام في تركيا لينتقل بها إلى عهود الحرية والديمقراطية والانفتاح، ثم أصبح رئيسا نهما للسلطة يريد نظاما رئاسيا على مقاسه الشخصي، يحقق له كل ما يطمع فيه من صلاحيات مطلفة بعد أن حول تركيا في سبيل ذلك إلى مقبرة للديمقراطية والحريات.. هل تراه يفكر كيف كان وكيف أصبح ؟ أم يفكر في الخطوة القادمة.. و” كيف سيصبح”؟!