ديار بكر (تركيا) (رويترز) – كانت نزهة إليفتوس طفلة عندما اكتشفت مجموعة من الصور مخبأة في خزانة قديمة وباحت لها جدتها بالسر. بعض تلك الصور ظهر فيها شقيقاها المسيحيان اللذان هلكا في أعمال قتل جماعية وقعت في جنوب شرق تركيا خلال الحرب العالمية الأولى.
وعلى مدى ما يقرب من 40 عاما حاولت إليفتوس كتمان سر جدتها ظريفة أنها ولدت هي أيضا أرمنية ومسيحية وليست كردية مسلمة مثل جيرانها في قرية أونبسيلر الواقعة في التلال الصخرية بمحافظة ديار بكر التركية.
وقالت إليفتوس (48 عاما) التي ظهر من وراء وشاح أبيض غطت به رأسها أن الشيب بدأ يغزو شعرها “لكنهم كانوا يعرفون. كانوا يهينوننا وينعتوننا بأننا كفار.”
والآن أصبحت إليفتوس على استعداد للحديث عن الأصول الأرمنية لأسرتها مع تغير الاتجاهات في المجتمع الكردي إذ تقول “الآن أصبح الأكراد أصدقاء للأرمن وأنا فخورة بانتمائي للطرفين.”
وبعد مرور قرن من الزمان على مقتل شقيقي ظريفة ومئات الآلاف من الأرمن على أراضي تركيا العثمانية بدأت قصص مثل قصة إليفتوس تخرق جدار الصمت بين الأكرادالذين يشكلون 20 في المئة من سكان تركيا.
ويساهم الأكراد في بناء الكنائس وترشيح بعض الأرمن في الانتخابات العامة والاعتذار عما ارتكبه أجدادهم الذين شاركوا في المذابح مقابل وعود بتملك عقارات تخص الأرمن في الدنيا وبدخول الجنة في الآخرة لقتلهم الكفار.
ويعترف الأكراد بأن المذابح التي تحل هذا الأسبوع ذكرى مرور 100 عام على بدئها كانت عملا من أعمال الإبادة الجماعية على النقيض من بقية البلاد إذ يرفض أغلب الأتراك تأكيدات الأرمن أن 1.5 مليون أرمني قتلوا في موجة إبادة جماعية.
ويعتبر أغلب الباحثين الغربيين ونحو 25 حكومة بأن الأحداث التي شهدها عام 1915 كانت إبادة جماعية لحضارة ازدهرت فيما أصبح تركيا الحديثة لأربعة آلاف عام.
وتجادل تركيا التي لا تربطها بأرمينيا علاقات دبلوماسية بأن عددا مماثلا من المسلمين إن لم يكن أكثر قتلوا في الاضطرابات التي صاحبت حربا قضت على الإمبراطورية العثمانية. وبنيت الجمهورية التركية الحديثة على أنقاضها عام 1923.
وتجدد النزاع هذا الشهر عندما وصف البابا فرنسيس المذابح بأنها إبادة جماعية ما دفع تركيا لاستدعاء سفير الفاتيكان واستدعاء سفيرها من الفاتيكان. ومن المنتظر أن تستخدم ألمانيا مصطلح الإبادة الجماعية يوم 24 ابريل نيسان وهو اليوم الذي بدأت فيه المذابح عام 1915.
وأغضب ذلك الرئيس رجب طيب إردوغان وأشار ضمنا إلى أنه كان بوسعه أن يأمر “بترحيل” 100 ألف أرمني يعيشون الان في تركيا. واختيار الكلمات هنا له دلالته إذ أن أغلب الأرمن الذين سقطوا قتلى في تركيا العثمانية قتلوا خلال ترحيلهم إلى الصحراء السورية.
سر على مدى قرن
ومع ذلك نجا البعض وغيروا أسماءهم وديانتهم وثقافتهم لإخفاء أصلهم. وقال تانر أكجام وهو خبير تركي في الإبادة الجماعية يندر أن يوجد مثله وأستاذ للتاريخ بجامعة كلارك في ماساتشوستس إن عددا يصل إلى 200 ألف أرمني اندمجوا في المجتمع للبقاء على قيد الحياة.
وربما يصل عدد أحفادهم في تركيا الان إلى مليون أو أكثر رغم أن العدد غير معروف على وجه الدقة.
وأغلب هؤلاء “الأرمن الذين أدخلوا في الإسلام” كانوا فتيات صغيرات السن اتخذهن أتراك زوجات ثانيات أو أطفالا يتامى مثل ظريفة التي كان عمرها 12 عاما في 1915.
شاهدت ظريفة بنفسها اصطفاف مسلحين وإطلاقهم النار على سبعة من أقاربها قبل أن تفر إلى التلال حيث عثر عليها جد إليفتوس الذي كان جنديا.
وعهد الجندي بظريفة إلى عائلة كردية وعندما عاد تزوجها بعد أن أصبحت مسلمة.
وقالت إليفتوس “لم تكن تريد أن تروي حكايتها. كانت لا تزال خائفة وتشعر بالعار. فقبلت يديها وتوسلت إليها أن تحكي لي.”
وقال الكردي عبد الله دميرباش رئيس بلدية منطقة سور القديمة في مدينة ديار بكر إن مثل هذه الشهادات تزيد من صعوبة إنكار التاريخ في جنوب شرق البلاد.
وكان ثلث سكان ديار بكر في وقت من الأوقات من الأرمن وأصبحت المدينة مركزا لأعمال القتل في الحرب العالمية الأولى. وقال دميرباش إن الأكراد بدأوا يعترفون بما لحق بالأرمن بعد الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين عندما تقاتل الجيش التركي والمتشددون الأكراد في المنطقة. وقتل في تلك الحرب حوالي 40 ألفا معظمهم من الأكراد قبل إعلان وقف اطلاق النار عام 2012.
وقال دميرباش وهو يقف خارج كنيسة سان جيراجوس التي يرجع تاريخها للقرن التاسع عشر وتم ترميمها عام 2011 بمساعدة من المدينة “لهذا السبب كان الشعور بالتأنيب. فلو لم نكن حمقى لما حدث ذلك لنا.”
مصالحة
وكانت كنيسة سان جيراجوس أكبر كنائس الأرمن في الشرق الأوسط تخدم رعية يتضاءل عدد أفرادها شيئا فشيئا حتى رحل آخر قس عام 1985. والآن ظهر في ديار بكر 300 أو أكثر من نسل الناجين واعتنق عدد قليل منهم المسيحية.
وخلال قداس في عيد القيامة بالكنيسة الواقعة في أزقة مدينة سور تناول 40 شخصا الأسرار المقدسة على يدي قس أرسلته البطريركية في اسطنبول.
ويمثل ذلك جزءا من مصالحة أوسع نطاقا بين الأكراد والأرمن. فعلى النقيض من بقية مكونات البرلمان التركي يعترف حزب الشعب الديمقراطي المؤيد للأكراد بأن المذابح كانت إبادة جماعية.
وجارو بايلان (42 عاما) واحد من ثلاثة أرمن مرشحين على قوائم حزب الشعب الديمقراطي في الانتخابات العامة التي تجري في يونيو حزيران عسى أن يصبح للأرمن أول من يمثلهم منذ نصف قرن. كذلك فإن كل حزب من أكبر حزبين في الساحة السياسية رشح أرمنيا في الانتخابات.
ويبلغ عدد الأرمن المسيحيين الذين يعيشون في تركيا الآن نحو 60 ألفا.
ويقول بايلان إن صحوته السياسية ترجع إلى عام 2007 عندما أطلق مراهق مسلح النار على هرانت دينك رئيس تحرير صحيفة آجوس الأرمنية وظهر فيما بعد أن صلات تربط هذا المراهق بقوى الأمن.
وقال بايلان إن هرانت كان يحاول تسليط الضوء على الإبادة الجماعية.
وبعد مقتله أوقفت الحكومة محاكمة من يستخدم مصطلح الإبادة الجماعية. وظهرت للوجود أحداث ثقافية عن العام 1915 وترجمت عشرات الكتب التي نشرت في الخارج إلى اللغة التركية.
نبرة جديدة
خفت حدة لهجة الحكومة تجاه الأرمن وفي العام الماضي نعى إردوغان من سقطوا قتلى.
وللمرة الأولى سيشارك وزير من أعضاء الحكومة في القداس الذي يقام في الذكرى المئوية يوم الجمعة بالبطريركية الأرمنية التي وصفت ما حدث بالمصيبة الكبرى لكنها لم تستخدم مصطلح الإبادة الجماعية.
ويعتقد الأتراك أن وصف المذابح بالإبادة الجماعية سيعني الاعتراف بكذبة تاريخية. ويقولون إنه لا يوجد دليل على أن السلطات المركزية أمرت بالعنف وهي نقطة حاسمة لأن الرجال الذين أسسوا تركيا الحديثة خدموا الامبراطوية في السابق.
وقال أكجام “سيتعين علينا أن نقبل أن عددا كبيرا من آبائنا المؤسسين شاركوا في الإبادة الجماعية أو أثروا من السلب والنهب. ومن الصعب جدا على أي شعب أن يعلن أن أبطاله المحررين كانوا قتلة ولصوصا.”
وأضاف أن من العوامل الرادعة أيضا المخاوف من أن تطالب جماعات أخرى مثل الأشوريين واليونان بالاعتراف بأنها تعرضت لأعمال إبادة جماعية وكذلك مخاوف مما قد ينتج عن ذلك من المطالبة بتعويضات باهظة.
وخلال الشهر الحالي رفع المحامي جيم سوفو أوغلو دعوى باسم أحد موكليه يطالب بالاطلاع على أرشيف الدولة للبحث عن ممتلكات في مدينة فان الشرقية التي قتل فيها أغلب أفراد عائلته عام 1915.
وقال الموكل إنه علم من جده أن جذور الأسرة أرمنية وإنه تم الاستيلاء على ممتلكاتها في مدينة فان.
واكتشف الموكل أن شقيقة جده التي هربت من فان عام 1915 جردت من الجنسية عام 1964 بعد وفاتها. ونجحت مساعيه في إعادة الجنسية لاسمها لكنه حرم من امكانية الاطلاع على وثائق يمكن أن تثبت وجود ممتلكات.
وقال “ماتت وحيدة في قبر للمساكين… ربما لا يعترفون أبدا بالإبادة الجماعية لكنهم لا يستطيعون إنكار وجود عائلتي. فأنا شاهد على ذلك.”