مصطفى أونال
ماذا حدث في ولاية آغري شرق تركيا؟ هناك روايات مختلفة. ومن أدلى بالتصريح الأول كان رئيس حزب الشعوب الديمقراطية صلاح الدين دميرطاش، ثم تبعه الآخرون. غير أن التصريحات الرسمية أصابت الجميع بالحيرة بدلًا عن أن توضح تفاصيل الواقعة.
رد رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو على دميرطاش، وكذّبت رئاسة أركان الجيش داود أوغلو، فيما كذّب الرئيس رجب طيب أردوغان رئاسة أركان الجيش؛ إذ قال أردوغان بالأمس: “إن التصريحات كذب تمامًا”.
فحتى هذه التصريحات الرسمية تعتبر مؤشرًا على مدى غرابة بلدنا تركيا؛ إذ إن الدخان والضباب الكثيف يحومان حول قمة الدولة.
ليس هناك جواب صريح وقطعي على السؤال: “كم عدد القتلى من عناصر حزب العمال الكردستاني؟” إلى الآن. فنحن أمام تصريحات تتحدث عن أرقام تتراوح بين شخص واحد إلى خمسة أشخاص. ولا تعتبر هذه هي الاضطرابات الأولى التي تشهدها المنطقة، فالطرق قُطعت، والمدارس أُحرقت، وقام أشخاص مسلحون في الطرق بإيقاف السيارات والاطلاع على هويات المسافرين فيها، كما نُصبت محاكم خاصة بالتنظيم، والأهم من ذلك كله أن العلم التركي أُنزل. لكن واحدا من هذه الأحداث لم تناقش كواقعة آغري.
غضّت حكومة حزب العدالة والتنمية الطرف عن الأحداث الأخرى، غير أن حساسيتها زادت فجأة إثر واقعة آغري، وبدأت تهاجم حزب العمال الكردستاني وحزب الشعوب الديمقراطية بشكل لاذع. بيد أنها لم تكن تلقي بالًا للأخبار التي كانت تأتي من منطقة جنوب شرق الأناضول، ولم تكن تهتم بأية سلبية حتى لا تتضرر” مفاوضات السلام”. وكانت قوات الأمن تكتفي بمشاهدة الفعاليات الإرهابية عن بعد، ولم يكن الولاة يسمحون بشن عمليات ضد الإرهابيين، وهذه حقيقة يعلمها الجميع.
تذكَّروا أن أردوغان لم يسمح بإلصاق واقعة إنزال العلم التركي في منطقة عسكرية بمنظمة حزب العمال الكردستاني، وألصقها بـما يسميه “الكيان الموازي”. لكنه اليوم لا يتحدث عن شيء سوى واقعة آغري التي لا تترك لسانه ولسان حكومة حزب العدالة والتنمية. لماذا ؟ لماذا زادت حساسية الحزب الحاكم إزاء الإرهاب بين ليلة وضحاها؟ وماذا يمكن أن يكون سبب ذلك؟
صحيح أن مفاوضات السلام مع الأكراد رجعت إلى الوراء، ربما يكون من السابق لأوانه أن نقول إنها “ماتت”، لكن المؤكد أنها أصيبت بـ”الشلل”، ونُسيت حتى الدعوة التي أطلقها زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون عبد الله أوجلان من محبسه بجزيرة إمرالي في أعياد الربيع قبل عامين. ألم تكن المنظمة ستعقد مؤتمرًا من أجل التخلي عن أسلحتها؟ ألم يكن من المفترض أن تقدِم الحكومة التركية على بعض الخطوات في مقابل ذلك؟ ماذا حدث للمواد العشرة التي اتفق عليها الطرفان في قصر دولمابهشة؟ ولماذا لم يعد أحد يهتم بالسلام حتى المتحمسين له كثيرا؟
ما هذه السرعة التي ذبلت بها الصورة الشهيرة لمفاوضات السلام التي وصفتها الأوساط المقربة من حزب العدالة والتنمية بـ”التاريخية”. فلم يعد هناك أحد اليوم يتذكر المواد العشرة أو الوفد الذي كان يذهب للقاء أوجلان في محبسه. فلم تعد ثمة قضية كردية من الأساس؛ إذ إننا أمام مشكلة خاصة بالمواطنين الأكراد فقط.
السبب معلوم، ألا وهو أننا على أعتاب الانتخابات، وحزب العدالة والتنمية بحاجة إلى أصوات الناخبين القوميين الأتراك، وإلا فإن هدفه لحصد 330 مقعدًا بالبرلمان سيكون في خطر، وكذلك حلمه بحصد 276 مقعدًا. فسفينة الحكومة لم تعد تأخذ الرياح من الخلف، وصار المؤشر هابطا إلى الأسفل.
يعتبر حزب الشعوب الديمقراطية هو عقدة الانتخابات البرلمانية المقبلة… ففي حالة استطاعته تخطي حاجز الحد الأدنى من الأصوات لدخول البرلمان، سيصبح حلم حزب العدالة والتنمية لتشكيل الحكومة بمفرده في خطر. وربما تسهم خسارة الحكومة للأصوات القومية في الانتخابات ودخول حزب الشعوب الديمقراطية البرلمان في إنهاء عهد حكومة حزب العدالة والتنمية بمفردها في السلطة.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن حزب الشعوب الديمقراطية، الذي بدأ يتغلب على صورته الهامشية بفضل رئيسه دميرطاش، يمكنه تخطي حاجز الحد الأدنى من الأصوات لدخول البرلمان.
يمكن أن يقول البعض “ما علاقة ذلك بما حدث في ولاية آغري؟”، أقول لهم هناك علاقة وثيقة بينهما. فلا يخفى على أحد أن حزب العدالة والتنمية أعلن التعبئة العامة من أجل حماية موقعه بالسلطة. هل الحزب فقط من فعل ذلك؟ لا، بل كل مؤسسات الدولة التي يسيطر عليها الحزب. فالجميع يدرك ماذا يحدث. ولهذا السبب ربما يجب علينا أن نثمّن واقعة اغتيال المدعي العام سليم كيراز في قصر تشاغلايان العدلي بإسطنبول في هذا الإطار أيضا؛ فالدولة فشلت في حماية مدعيها العام، واستطاع إرهابيان دخول أكثر القصور العدلية أمنًا في تركيا وهما يحملان أسلحتهما.
هل استطاع أحد فهم ماهية الواقعة؟ لم يدفع ثمن هذه الواقعة سوى وسائل الإعلام التي نشرت صور المدعي العام (أثناء وقوعه رهينة في يد الإرهابيين) وزعماء أحزاب المعارضة الذين لم يحضروا تشييع جنازته. فهل هذا هو كل ما يتعلق بالأمر؟ للأسف فإن هذا ما بقي من واقعة تشاغلايان. حسنًا، ما هي مسؤولية من يديرون الدولة؟ أليس هناك وزيران للداخلية والعدل؟
لقد بدأت وتيرة من الأحداث مع هذا الهجوم، وتواصلت بالاشتباكات التي وقعت في آغري. أحداث غريبة ومعقدة وصعب فهمها… فمن العقل المدبر لها؟ ومن كتب السيناريو الخاص بها؟ لا شك في أن كل هذه الأحداث وراءها مؤامرة ظلامية. وليس من الصواب اتهام حكومة حزب العدالة والتنمية بكل تأكيد. لكن لا يخفى على أحد أن الحزب يسعى للاستفادة من نتائج هذه الأحداث.
لم يسفر التحقيق في واقعة آغري عن شيء إلى اليوم، ويبدو أن التصريحات الرسمية ستتوالى، وربما نشهد ظهور عناصر جديدة. من المبكر أن نبحث عن إجابة لسؤال “أيهما على حق: حزب العدالة والتنمية أم حزب الشعوب الديمقراطية؟”. وعلى عكس التوقعات، فمن الصعب أن نقول إن حزب العدالة والتنمية حصل على مراده في المرحلة الأولى، لكنه عبّر عن نيته بشكل واضح، أي أظهر حساباته الانتخابية.
لقد ألِف كل شخص يعيش في تركيا الوقائع التحريضية… كما أن المواطن العادي في الشارع معتاد على هذه السيناريوهات، ويعلم جيدًا أن الأحداث في فترات الانتخابات لا تكون كما تبدو في الظاهر، ويفهم وجود غرض أساسي مقصود من ورائها. ولهذا السبب فإن واقعتي قصر تشاغلايان العدلي والاشتباكات المسلحة في آغري تقطع الطريق على المحرضين. وربما يتحول وجع حزب العدالة والتنمية إلى مغص شديد بمرور الوقت.
جريدة زمان 15/4/2015