بقلم: محمد كاميش
عندما جرّت جمعية الاتحاد والترقي الدولة العثمانية إلى الحرب العالمية، كانت تخضع لسيطرتها مساحة شاسعة تبلغ 7.5 مليون كيلومتر مربع، وكانت شبه جزيرة البلقان ومنطقة الشرق الأوسط ضمن حدود الدولة العثمانية، والأهم من ذلك أن أكبر موارد للنفط في العالم، والتي كانت ستترك بصمتها على أحداث القرن الحادي والعشرين، كانت تحت السيطرة العثمانية. وكان أنور باشا شابًا يحمل أحلامًا طوباوية وأفكارًا خيالية ويمتلك عضوية في حزب الاتحاد والترقي الذي سيطر على السلطة بالضغط على “الباب العالي” (إسطنبول؛ عاصمة الدولة العثمانية آنذاك) في أوقات الاضطرابات العصيبة التي شهدتها المنطقة مطلع القرن العشرين. وعندما أصبح أنور باشا ناظر للحربية (وزير الحربية) في سن مبكّرة للغاية، كان يحلم بأن تعود الدولة العثمانية إلى أيام مجدها وعزها من جديد، كما لعب دورًا حاسمًا في دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى إلى جانب الألمان، وكان يرى أن هذه الحرب ستعيد إلى العثمانيين عظمتهم القديمة.
[one_third][box type=”shadow” align=”alignleft” ] لم نستطع تنظيم شؤون سوريا ولا تطبّق في مصر السياسات التي نرغبها، كما أننا لا نستطيع أن نمنع الظلم في قطاع غزة، ولا نستطيع إنقاذ قنصليتنا في الموصل وأفراد طاقمها من يد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) [/box][/one_third]
تسلم أنور باشا إدارة العمليات العسكرية كناظر للحربية عقب دخول الدولة العثمانية الحرب العالمية الأولى، وتولّى قيادة العملية العسكرية التي نفذها الجيش الثالث في الجبهة الشرقية ضد القوات الروسية شتاءً في معركة صاريكاميش. وتعرضت القوات العثمانية لهزيمة كبيرة في هذه المعركة التي دارت رحاها في يناير/ كانون الثاني عام 1915. فترك أنور باشا قيادة الجيش وعاد إلى إسطنبول، ولم يُسمح بنشر أو إذاعة أي خبر حول معركة صاريكاميش في صحافة إسطنبول لفترة طويلة.
وكما تعلمون، أصبحت الدولة العثمانية هي ربما الدولة الوحيدة الخاسرة في هذه الحرب، كما تضاءلت مساحتها البالغة 7.5 مليون كيلومتر عشرة أضعاف لتتراجع إلى 750 ألف كيلومتر بعد الحرب، والأهم من ذلك أن حقول النفط التي ستوجِّه الاقتصاد العالمي فيما بعد خرجت من تحت سيطرتها وانتقلت إلى سيطرة الآخرين، وانهارت الدولة العثمانية التي كانت واحدة من بين أقوى 5 أو 6 دول في العالم وقت دخول الحرب العالمية الأولى، بالرغم من كل الظروف، وحلّت مكانها اليوم تركيا الحديثة التي لم تقم أية دولة لها وزناً في المعادلة العالمية الجديدة. نعم، لا شك في أن أنور باشا كان محبًا لوطنه وكان يريد أن يفعل كلّ ما يعيد الدولة العثمانية إلى أيام عظمتها، لكنه لم يكن شخصًا واقعياً عقلانيًا؛ إذ كان يعيش في عالم الأحلام بعيدًا عن الواقع والحقائق، وللأسف فإن هذه النظرة الحالمة كبّدتنا الكثير والكثير جدًا من الخسائر.
وبعد مرور مائة عام كاملة على هذه الأحداث، تدفع تركيا حاليًا فاتورة باهظة للسياسات الحالمة كذلك، وفي هذه الأيام التي انطلقنا فيها استلهاماً من فكرة “العثمانية الجديدة” لاطُلْناَ
بلح الشام ولا عنب اليمن، ولا يمكن أن تتغير الحقائق بزعمنا أننا نعيش أيام النصر بينما نحن نتعرّض لهزيمة كبرى.
لا ريب في أن تركيا تعتبر دولة تمتلك مكتسبات تاريخية في منطقة الشرق الأوسط، وقد حكمت جميع المجموعات العرقية والدينية في تلك المنطقة لمئات السنين، وبالتالي فإن لدينا ذكريات جيدة وسيئة في آن واحد، ولهذا السبب كان لزامًا علينا ألا نتغاضى عن هذه المكتسبات التاريخية إطلاقًا ونحن نؤسس علاقات مع دول الجوار في المنطقة، وحتى إن تَغَاضَيْنا نحن عن هذه المكتسبات، فإن دول المنطقة والدول الأخرى لن تتغاضى عن هذه الحقائق.
ونرى جميعًا أنه من غير الممكن إعادة هيكلة الشرق الأوسط بالاعتماد فقط على الموقف الذي اتخذه رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان أمام الرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز في منتدى دافوس الاقتصادي عام 2009 عندما قال له ” minuteOne “، ففي نهاية مشوارنا السياسي الذي بدأناه ونحن نزعق بملء أفواهنا :”نحن العثمانيون الجدد!”، لم نستطع تنظيم شؤون سوريا ولا تطبّق في مصر السياسات التي نرغبها، كما أننا لا نستطيع أن نمنع الظلم في قطاع غزة، ولا نستطيع إنقاذ قنصليتنا في الموصل وأفراد طاقمها من يد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) الذين يحتجزهم كرهائن منذ حوالي شهرين دون أن نستطيع التفوه بكلمة، كما أن العراق ممزّق، وسيمزق أكثر! ومن يمكنه أن يقول إن تمزيق العراق وتقسيم أراضيه لن يمتد إلى تركيا أيضًا؟ ونحن الآن – للأسف – ندفع الفاتورة الباهظة لإعلاننا على الملأ بالطبول والمزامير أننا أنجزنا هذا أو ذاك، مع أننا لم نفعل شيئاً، في منطقة كانت تحتّم علينا التستّر والتلطّف، ولو فعلنا شيئاً، لا نشعر به أحداً من الأعداء الألداء أو من الإخوة الحساد به.
إن هذه المنطقة الجغرافية التي اكتشف بها النفط الذي يعتبر أهم المواد الخام في القرن العشرين، والتي هي مركز للديانات القديمة كافةً، لديها هيكل معقد للغاية لم نستطع بعدُ سبر أغواره. ونحن الآن نتعلم هذه الحقيقة من خلال التجارب المريرة، فالطوباوية في العهد العثماني قد أعادتنا 100 عام إلى الوراء. ونأمل ألا تكون طوباويتنا في الوقت الراهن سببًا في خسارتنا أيضاً لمائة عام قادمة.
صحيفة” زمان” التركية