عمر نورالدين
لايتوقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن التصريحات المدهشة التي تقدم كل شيء وعكسه في وقت معا، اعتمادا على أن هناك فريقا يؤمن بأن ما يقوله هو الصدق وعين الحقيقة..
لكن يبدو أن هناك حقائق أخرى ستطرحها الأيام القادمة وسيجد أردوغان نفسه في مواجهتها، ليدرك أن الأمور ليست كما كان يتوقع، فاستطلاعات الرأي الأخيرة تشير إلى تراجع شعبيته وتأثيره كزعيم سياسي وإلى رفض الأتراك تجاوزه لصلاحياته كرئيس للجمهورية وتحكمه في إدارة البلاد نيابة عن الحكومة، وإلغاء كل المناصب واختصارها في شخصه، ما يعني أن مياها كثيرة بدأت تجري في نهر تركيا الذي أصابه ركود طويل تحت تأثير التنويم المغناطيسي للزعيم الديماجوجي الذي لطالما قدم نفسه على أنه الرجل الضرورة.
لدى عودته من إيران الأسبوع الماضي، ولن نخوض هنا في رصد تراجعاته التي أبداها في طهران عن التصريحات النارية التي أطلقها ضد إيران قبل أيام قليلة من زيارته لها حيث اتهمها بأنها أكبر داعم للإرهاب في الشرق الأوسط، أدلى أردوغان بتصريحات جديدة تطرق فيها إلى العلاقات مع مصر، لكنه استدعى أسلوبه القديم الذي أقلع عنه منذ أشهر قليلة عندما استمع إلى بعض الأصوات العاقلة التي أوضحت له خطورة تدمير علاقات تركيا مع مصر.
ولن نتوقف بالتفصيل أيضا عند تصريحات أردوغان ردا على سؤال لأحد الصحفيين الموالين له ممن يصطحبهم، دون غيرهم من الصحفيين، معه في رحلاته، ولا الشروط التي وضعها لتحسين العلاقات مع مصر، وكأنه هو الوحيد الذي من حقه أن يملي الشروط وأن االطرف الآخر لا إرادة له ولا حول له ولا قوة، وعليه أن يقبل صاغرا راضخا كل ما يقوله، تماما مثلما يقبل منه مؤيدوه ويصفقون له عن اقتناع نابع من عقلية مغيبة، أو عن مصلحة تقتضي شيئا من النفاق والمداهنة والتقية.
وضع أردوغان شروطا متعددة في مقدمتها الإفراج عن الرئيس المعزول محمد مرسي وإعادة النظر في الأحكام الصادرة ضد قيادات جماعة الإخوان المسلمين وإلغائها والإفراج عن معتقليها وعودة حزبها ” الحرية والعدالة” للعمل السياسي، بمعنى عودة مصر إلى ما قبل ثورة 30 يونيو/ حزيران 2013 التي خرجت ضد نظام حكم جماعة الإخوان المسلمين، والتي أدت في النهاية إلى تدخل الجيش لعزل مرسي.
وليس المهم أيضا هنا هو تقييم ما جرى في مصر وهل كان ثورة كما يقول أغلب المصريين أم انقلابا كما يقول أردوغان، لكن الطريف أن أردوغان ناقض بنفسه جملة من مواقفه وتصريحاته السابقة في هذه التصريحات الجديدة عن العلاقات مصر.
مثلا قال أردوغان إنه عندما يتعلق الأمر بالحرية فهذه قضية عالمية ولا يجب أن يخرج علينا أحد ليقول إننا نتدخل في شؤون دولة أخرى.. حسنا، إذا كان الأمر كذلك فلماذا هاج أردوغان وماج ضد الاتحاد الأوروبي، الذي تنشد تركيا عضويته عبر مفاوضات طويلة معه تجرى منذ أكثر من 10 سنوات، عندما رفض الاتحاد الحملة الأمنية، الموجهة سياسيا، ضد الإعلام الحر في تركيا في 14 ديسمبر/ كانون الأول 2014، واعتقال الصحفيين والإعلاميين المعارضين لأردوغان ومن تناولوا فضيحة الفساد والرشوة الكبرى واتهامهم بالإرهاب دون الاستناد إلى أدلة قانوية واحتجاز بعضهم حتى الآن دون سند مثل الصحفي هدايت كاراجا مدير مجموعة سامان يولو الإعلامية، والذي اعتقل معه رئيس تحرير صحيفة” زمان” أكرم دومانلي ثم أفرج عنه مع منعه من السفر إلى خارج تركيا.
وقتها قال أردوغان:” لن يعطونا دروسا في الديمقراطية وليس من حقهم وعلى الاتحاد الأوروبي أن يركز في شؤونه الخاصة”.
أنظروا كم هو جيد ورائع عندما يتحدث عن الحرية والديمقراطية مع اقتراب الانتخابات البرلمانية في تركيا التي ستجرى في غضون شهرين، والتي يطمح أن ينتقل بعدها إلى نظام رئاسي بنكهة تركية يجعله الرجل الأوحد في تركيا.. إنه يقول ليس من حقهم أن يتحدثوا عن الديمقراطية سواء بالنسبة للاتحاد الأوروبي عندما يدافع عن الصحفيين في تركيا، فضلا عن مصر بسبب وجود سجناء رأي .. لكنه نسي عشرات بل مئات الصحفيين في تركيا المعتقلين بسبب تغريدات على تويتر، وأن هناك آلافا شردوا من وظائفهم بسبب تغريدات على تويتر أو بسبب حديثهم عن فساد حكومة العدالة والتنمية التي كان يرأسها وعن المقربين منه المتورطين في فضائح الفساد.
وحبذا لو ألقى أردوغان نظرة إلى الوراء قليلا ليرى مفهومه عن الحرية الذي يتضمن إغلاق ومنع الوصول إلى مواقع التواصل الاجتماعي لأنها ” شر سيجتثه تماما من تركيا” .. إنه يقدم للشعب التركي نموذجا فريدا من نوعه يقوم على فرض التعتيم ومنع المساس بشخصه أو المقربين منه ويسلب حرية الشعب ليتمتع هو بالحرية في كل شئ، ويطلق لنفسه العنان للتدخل في شؤون الدول الأخرى باسم الديمقراطية التركية (التي تنزف دما)، من أجل مغازلة الناخبين لصالح حزب العدالة والتنمية متناسيا مبدأ الحياد الذي يفرضه الدستور التركي على رئيس الجمهورية.
إن استطلاعات الرأي الأخيرة في تركيا تشير إلى أن محاولات أردوغان لتغييب العقل الجمعي للشعب التركي فشلت تماما وأن أكثر من 70% من الأتراك وأكثر من 40% داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم نفسه، وهو حزب أردوغان، يرون أنه ليس من حقه أن يتدخل في كل صغيرة وكبيرة حتى يلوي ذراع النظام ويغيره ويشكله على هواه لإيجاد نظام رئاسي على مقاسه الخاص.
لن نسأل عن المنطق في تصريحات ومواقف أردوغان أو مدى معقوليتها.. فقد نسمع الإجابة قريبا من الشعب التركي.