بقلم: يوسف باسم أوغلو
“هل تستغل تركيا الصراع العربي الإسرائيلي وارتفاع حدة الاحتقان في المنطقة العربية ضد إسرائيل من أجل الترويج لنفسها، وهل الهدف من دفاع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن العالم العربي لاسيما مع اندلاع ثورات الربيع العربي هو الهيمنة على المنطقة، وهل تطويعه للخطابات الدينية والشعارات الرنّانة في خطاباته هو كسب تعاطف المواطن العربي؟”. كل هذه الأسئلة وغيرها بات يرددها الشارع العربي والكثير من المعلقين والسياسيين، في الآونة الأخيرة، بعدما أصيبوا بخيبة أمل من شعارات «الأردوغانية» التي كشفت مع مرور الوقت عن أنها خاوية عن مضمونها، وأنها مجرد «أقـوال» لا «أفعـال».
إيران تهيمن على المنطقة.. ولكن بيدنا أن نوقف الدم والصراعات
أعلنت تركيا منذ اليوم الأول عن دعمها ومشاركتها في عملية “عاصفة الحزم” التي أطلقتها السعودية ضد الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن، ومع هذه الخطوة اعتقد المحللون الأتراك وغيرهم أن الخطوة القادمة ستتمثل في أزمة دبلوماسية وتوتّر في العلاقات بين تركيا وإيران خاصة مع انطلاق تصريحات إيرانية متهجّمة على تركيا. وما هي إلا أيام قليلة حتى خرج علينا أردوغان وأعلن في مؤتمر صحفي أن إيران تحاول الهيمنة على المنطقة، وقال “هل يمكن السماح بهذا؟ بدأ ذلك يزعجنا ويزعج السعودية ودول الخليج. يجب أن تفهم إيران أنه ليس من الممكن فعلا التسامح مع هذا الأمر. إن الصراع تحول إلى صراع طائفي“، ودعا إيران للانسحاب مضيفا “يجب أن تغير إيران رؤيتها وتسحب أي قوات مهما كان لها في اليمن وكذلك في سوريا والعراق وأن تحترم سلامة أراضيها”.
بعد هذه الخطابات الرنّانة وتكشيره عن أنيابه لإيران رأينا كيف تراجع عن هذه اللهجة الحادة وانزواءه إلى خطاب أكثر عاطفية في زيارته لإيران أمس التي التقى فيها نظيره الإيراني حسن روحاني عندما قال «لا يهمني لا الشيعيّ ولا السنيّ، فالذي يهمني في هذا المقام هو المسلم بصفة عامة. ولذا يتعيّن علينا أن نوقف هذا الدم الذي يُسال في المنطقة، ورأب الصدع عن طريق حديثنا وتباحثنا معا حول هذه الموضوعات. ولندعو هؤلاء الذين يضربون بعضهما البعض على طاولة مفاوضات واحدة ونتباحث في هذا الشأن».
المصريون رفضوا «العلمانية التركية»
استقبل المصريون، لاسيما جماعات الإسلام السياسي، أردوغان عندما كان يتولى منصب رئاسة الوزراء، استقبال الأبطال وكان لافتًا للنظر أنهم عندما اصطفوا في مطار القاهرة لتحيته، رفعوا لافتات تدعوه إلى إقامة الخلافة الإسلامية، إلا أنهم أصيبوا بخيبة أمل عندما خرج عليهم وتجاهل الحديث عن تلك القضية في مقابل الإشادة بنموذج «العلمانية التركية»، ودعوة الشعب المصري إلى إقامة جمهوريتهم الجديدة على أسس علمانية. واعتبرت الوجوه المنتمية إلى التيار الإسلامي آنذاك أن دعوته لإقامة مصر على أسس علمانية بمثابة تدخل خارجي في الشؤون المصرية. وشاهدنا كيف أن الخبراء والمراقبين السياسيين الذين كانوا يرددون بالأمس القريب «النموذج التركي»؛ الذي روّج له البعض وذهب البعض الآخر إلى استنساخه بالحرف الواحد معللا ذلك بأن المجتمعات العربية تحمل طابع إسلامي على غرار المجتمع التركي، لكنهم سرعان ما أعلنوا رفضهم لهذا النموذج الذي رأوا فيه إن أرضيته التي غُرس فيها لا تتوائم أصلا مع الأرضية المصرية، وبنية شعبها.
ومن ثم بدأت شعبية أردوغان، وكلماته الرنانة عن الإسلام، ودعوته للمحافظة على هويته، تتراجع لدى الشارع المصري شيئًا فشيئًا. وبلغ هذا التراجع أوجه مع تدخله السافر في شأن مصر الداخلي في الفترة الأخيرة، الذي أفضى إلى دخول العلاقات السياسية بين البلدين إلى حالة من الفتور والشد والجذب، والنتيجة كانت غياب سفير يمثل تركيا في مصر، التي تعد رائدة العالم العربي وتحظى باهتمام كبير جدًّا في نظرية “العمق الاستراتيجي” لدول الجوار لصاحبها أحمد داودأوغلو رئيس الوزراء الحالي.
سأزور غزة.. لكن العلاقات مع إسرائيل على قدم وساق
كثيرًا ما شاهدنا أردوغان يهاجم الرؤساء العرب بعدم وقوفهم إلى جانب فلسطين ومؤازرة شعبها، فضلا عن اتهامه لبعض الدول بمساعدة إسرائيل. ومن ثم بدأ يتلاعب بالكلمات لكسب استعطاف الشعوب لدرجة أنه قال في أحد خطاباته في نيسان/ أبريل 2013 إنه سيذهب إلى غزة وسيعقد فيها مسيرة جماهيرية كبيرة. إلا أنه مضى عامين ولم يذهب لغزة أو بالأحرى لم يستطع الذهاب إليها؛ لدرجة أنه بدأ لا يردد أي حديث عن زيارته لغزة مرة أخرى في خطاباته.
وفي الوقت الذي كان يترقب فيه الجميع أن تسوء العلاقات بين تركيا وإسرائيل خاصةً عقب أحداث “مافي مرمرة”، حدث عكس ذلك تمامًا وبدأت تتحسن العلاقات التجارية بين البلدين أكثر من السابق. وخير دليل على ذلك هو الطفرة التي تحققت في حجم التجارة بينهما؛ فبينما ارتفعت صادرات تركيا لإسرائيل من 2009 إلى 2014 من 2.5 مليار دولار إلى 5 مليارات دولار، اجتازت الواردات خلال تلك الفترة حدود الـ 4 مليارات دولار.
والمتابع للصحف التركية وتصريحات المسؤولين الأتراك في الشهر الأخير سيلاحظ أن هناك ثلاثة مسؤولين من الحكومة أدلوا بتصريحات مثيرة للانتباه وفُسرت من قبل السياسيين برغبة أنقرة في تقربها من تل أبيب أكثر، خاصةً غياب سفيرها كما هو الحال مع مصر. وقال نائب رئيس الوزراء بولنت أرينتش خلال لقاء مع إحدى القنوات التليفزيونية الإسرائيلية الأسبوع الماضي، «إذا رغبت إسرائيل في بدء مرحلة جديدة، فإن تركيا يمكن أن تكون شريكا مهمًّا وجيدًا من أجل تحقيق أمن إسرائيل بشكل قوي«. وجاء التصريح الثاني في نهاية الأسبوع، من القائم بالأعمال التركي في تل أبيب، دوغان إشيك، الذي قال «يوجد 8 رحلات جوية يومية بين تل أبيب وإسطنبول، فإذا أردت العبور من الصين إلى أمريكا لا بد أن تمر بتركيا، وأنه على الرغم من الخلافات السياسية بين تركيا وإسرائيل فإن الدولتين أصدقاء ولا يمكن أن ينفصلا«. وأخيرًا كان تصريح نائب وزير الخارجية التركي، ناجي قورو، الذي قال «إن أنقرة على أتم الاستعداد لعودة العلاقات».
هل سيظل داودأوغلو صامتًا أم سيتدخل عما قريب؟
في ضوء ما تقدم رأينا كيف أن خطابات أردوغان شديدة اللهجة باءت بالفشل. لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو “هل سنرى أردوغان في خطابات جديدة من شأنها التصالح مع حكومات تلك الدول، مثلما فعل أمس في طهران، بعد الانتخابات البرلمانية المقررة في السابع من يونيو/ حزيران المقبل؟ أم سيبقى على موقفه دون تغيير”. وعلى أية حال أعتقد أن داودأوغلو وكبار المسؤولين في حكومة العدالة والتنمية لن يرضوا بأن يتم سحب البساط من تحت أقدامهم وستكون لهم مواقف حازمة في الفترة المقبلة، على الأقل ستتسم بروح خطاب تصالحي مع هذه الدول التي بدأت تعاديها تركيا، بالرغم من أنها أنطلقت من مفهوم سياسة «صفر مشكلات مع دول الجوار» إلا أنها أضحت الآن «صفر علاقات مع دول الجوار».