عبد الحميد بيليجي
إذا كان هناك من يظن بأن أمور بلادنا على ما يُرام فعليه أن يتجنب الخروح من البلاد، خصوصا إلى البلاد الديمقراطية، وإلا فسوف يصاب بالإحباط. فكل من دعموا أردوغان وحزب العدالة والتنمية ضد منافسيه المعارضين للديمقراطية أُصيبوا بخيبة أمل كبيرة ويشعرون بأنهم مخدوعون. فحكومة العدالة والتنمية كان يُتوقَّع لها أن تكون مثالاً لامعاً للعالم الإسلامي وسداً منيعاً لفوبيا الإسلام التي ازدادت في الغرب، إلا أن هذه الحكومة أصبحت هي بحد ذاتها مشكلة كما يُذكر في كثير من المؤتمرات.
وما عاد هناك أحد يشك في أن قصة نجاح كان بإمكانها إثبات إمكانية الجمع بين القيم الإسلامية وحقوق الإنسان والقيم العالمية قد آلت إلى الإفلاس.
وقد أخبرنا أحد خبراء الوضع التركي من واشنطن: “لقد جرت حتى اليوم مناقاشات كثيرة حول سياسات وإدارة أردوغان والعدالة والتنمية. وكما كان هناك من ينتقد أردوغان فقد كان هناك من يدافع عنه أيضا. ولكن الآن لا يوجد أي شخص يدافع عن أردوغان سواء في الحكومة أو الكونجرس أو منظمات حقوق الإنسان أو المؤسسات الفكرية الاجتماعية أو البرلمان”.
فلا داعي لقول شيء لأيٍّ كان حول الضغوط على الإعلام والابتعاد عن الديمقراطية وتعطيل القانون وعمليات الفساد، وقد تحدثنا حول ضغوط الحكومة على حرية الصحافة في المؤسسة الفكرية “مركز التقدم الأمريكي” وفي كلية الصحافة التي تقدم جائزة بوليتزر (Pulitzer) في جامعة كولومبيا. فكان الجميع على معرفة بكل صغيرة وكبيرة. وكان متابعو الشأن التركي يقارنون تركيا بروسيا ومصر في عهد مبارك وفنزويلا في عهد شافيز.
وهم ليسوا مجحفين في تلك المقارنة بالنظر إلى الأخبار التي كانت ترِدنا من تركيا خلال بضعة أيام قضيناها خارج البلاد. وكان أحد الصحفيين البارزين قد ذكر لنا أن أحد رسّامي الكاريكاتير سُجن في تركيا بمجرد حديثنا عن حرية الصحافة. وقد علمنا في الطريق أن الصحفي أرجون بباهان الذي شارك معنا في الندوة قد رفعت ضده دعوى قضائية تطالب بسجنه لمدة عامين بسبب مقال كتبه. وطالب قرار محكمة بمحو تغريدات بعض الصحفيين على تويتر والصورة التي شاركها أحمد شيك في أحد مواقع التواصل الاجتماعي.
وكان كل من يهتم بحقوق الإنسان قد تأثر بخبر تشريع قوانين حزمة الأمن التي وصفها البروفسور “آدم سوزو أر” بأنها مخالفة للدستور وهو أحد المساهمين في وضع قانون العقوبات التركي الذي صدر في عهد العدالة والتنمية والذي يمنح الشرطة صلاحيات موسعة.
وعندما كنا في واشنطن كان أعضاء الكونجرس قد أرسلوا إلى وزير الخارجية جون كيري رسالة متعلقة بتراجع الديمقراطية في تركيا وهي الرسالة الثالثة من نوعها في غضون شهرين حيث دعوا فيها إلى تشكيل لجنة لمراقبة التطورات السلبية في تركيا.
وكانت تركيا مؤهلة لتحقيق الرخاء الداخلي لأنها باتت دولة قانون وذات ديمقراطية سليمة، كما كانت مؤهلة لأن تكون من بين الدول المحترمة في العالم، لكنها أضاعت هذه الفرصة بسبب النزعات الاستبدادية لأردوغان. إن تركيا لا تفقد في وقت من الأوقات أهميتها بسبب موقعها الجيوسياسي. وكان هناك من يتوجه إلى أنقرة حتى في مراحل الانقلابات. والآن هناك توجه إلى تركيا كذلك بخصوص قاعدة إينجيرليك العسكرية وداعش واليمن على الرغم من كل ما يحدث. ولكن كل دول الشرق الأوسط وتركيا القديمة كانت على هذه الحال دائماً. فقد دأبت تركيا على التغطية على زوال هيبتها واعتبارها وملء الفراغ الحاصل من الإجراءات غير الديمقراطية وانتهاكات حقوق الإنسان من تسويق موقعها الجيوسياسي. وبطبيعة الحال، فإن القوى الخارجية كانت تركّز على مصالحها القومية فقط ولا تهتمّ بما يجري ويحدث في تركيا ومثيلاتها. فكان المثقفون والمفكرون يزج بهم في السجون أو يُنفوْنَ، وتتم شيطنةُ وإقصاءُ فئات المجتمع التي تنتقد الجوانب السلبية للنظام، بل كان الناس في بعض البلدان يُجبرون على أكل البراز وفي بعضها الآخر يتعرضون للسلاح الكيماوي.
كانت تركيا بدأت تقطع مشوارها نحو الارتقاء إلى مرتبة عليا بفضل الإصلاحات الديمقراطية التي نفذتها في إطار عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بعد أن كانت في نادي الدول التي تنتهج سياسات غدارة تجاه شعبها وتقيم علاقاتها مع العالم انطلاقاً من موقعها الجيوسياسي فقط. نادي الدول التي حققت الوفاق مع شعبها وتطبّق مبدأ سيادة القانون بدلا من قانون السادة واللوردات، وتسود فيها حرية التعبير عن الأفكار والآراء واحترام الرأي الآخر، ولا تخاف الدولة من شعبها وتقدم المؤسسات الحكومية خدماتها للمواطنين على أساس العدل والتساوي.
ولكن كل المعطيات تشير – للأسف – إلى أن دولتنا بدأت تبتعد عن هذا النادي. إذ بدأت البلاد تعود إلى تركيا القديمة الشبيهة بالدول المستبدة في العالم تحت شعار “تركيا الجديدة”.
وفي الوقت الذي ظهر للجميع مصير ليبيا ومصر وسوريا والعراق، فلا يمكن وصف من غيّروا مسار تركيا من الديمقراطية إلى الاستبداد بالوطنيين البتة.