بقلم: عمر نورالدين
النظام الرئاسي بالنكهة التركية، أم المكسيكية، أم الفرنسية، أم الأمريكية.. أيها ألذ وأطيب لبلد يتدحرج نحو الأزمات مثل الصخرة المندفعة من قمة أعلى الجبال؟!
إذا سألتم من يريدون هذا النظام سيقولون إنهم يفضلون النكهة التركية لأنها ألذ وأطيب وفيها رائحة التاريخ وعقب الماضي الذي يأسر ألباب أحفاد سلاطين الدولة العثمانية، ومن يقولون حتى اليوم إننا عثمانيون..
هل يهم كثيرا إن كانوا عثمانيين جددا أم قدامى.. أم أن الأهم هو عرش السلطنة؟
قطعا العرش هو الأهم وقد أعد له قصر منيف أبيض.. يفوق في روعته وبهائه وعدد غرفه قصور سلاطين الدولة العثمانية، وميزانية سرية لارقيب ولاحسيب عليها تكفل لساكن القصر الذي يتكون من ألف ومئة وخمسين غرفة فخمة أن يكون له كل شئ، ولا يسمع في البلاد إلا صوته لأن الدستور الذي يحد من صلاحياته سينقرض حتما، لأنه يريد له أن ينقرض، وأن يكون رئيس الوزراء الذي يحظى بالوضع الأقوى دستوريا الآن مجرد خادم في القصر أو ناقلا لرسائل السلطان..
عاشت تركيا خلال الأشهر الأخيرة مختلف أنواع الأزمات، التي سبق أن مرت عليها في تاريخ جمهوريتها الحديثة الممتد لأكثر من تسعة عقود، من أزمات سياسية سمتها الأساسية الاستقطاب الحاد الذي صنعه بشكل أساسي من يقودون البلاد ويجندون ترسانة من الصحف ووسائل الإعلام الأخرى لبث الأكاذيب ليل نهار، ومحاولة تغييب وعى الجماهير عملا بقاعدة وزير الدعاية النازي بول جوزيف جوبلز” أعطنى إعلاما كاذبا أعطيك شعبا بلاوعي” و” اكذب حتى يصدقك الناس” على غرار ماتشهده تركيا على مدى أكثر من عام منذ افتضاح أمر وقائع الفساد والرشوة في 17 ديسمبر/ كانون الأول 2013 بأبطالها من وزراء ورجال أعمال ومسؤولين مقربين من رئيس الوزراء في ذلك الوقت رجب طيب أردوغان، الذي أصبح رئيسا للجمهورية، وانصبت الاتهامات والافتراءات جميعها وحتى اليوم على المفكر الإسلامي فتح الله كولن وجماعة الخدمة التي تستلهم فكره، والتي يصفها أردوغان وإعلامه وحكومة حزبه بالكيان الموازي أو الدولة الموازية، معتمدين على مقولة جوبلز ” لو كررت الكذبة مجموعة من المرات ستصبح حقيقة، أي سيصدقها الناس، ولذلك فإنهم ألقوا الكذبة وينفخون فيها ويضخمونها منذ أكثر من عام..
ليست هذه هي الأزمة الوحيدة التي تشهدها تركيا بل إنها تواصل السير في طريق تخبط سياستها الخارجية، من الهجوم على السعودية ودول الخليج بزعم مساندتهم ما كان يسميه أردوغان ورجاله بالانقلاب العسكري في مصر، إلى ذوبان كل ذلك والهجوم على إيران التي وصفها أردوغان منذ 14 شهرا بأنها بيته الثاني، والتي من المفترض أنه سيزورها خلال أيام قبل أن يقرر إغلاق هذا البيت، مؤقتا بالطبع، بعدما انفتح له باب العودة إلى دفء الخليج العربي، وبالطبع فإن له أهدافا أخرى غير التكتل السني في مواجهة المد الشيعي الإيراني في المنطقة.
فماذا لو خرجنا من دائرة السياسة ونظرنا إلى الوضع الاقتصادي في تركيا، لا أحد سيستطيع أن ينكر أن الاقتصاد التركي، وبحسب المعطيات الرسمية التي تشير إلى معدل نمو لا يصل إلى 3%، في وضعية الأزمة الآن وأن الشعب يدفع ثمن سياسات التناقض مابين إرادة الحكومة والإرادة الأعلى للرئيس أردوغان..
ثم كانت الطامة الكبرى التي شهدتها تركيا منذ يومين مع غرقها في أزمة انهيار منظومة الكهرباء لأسباب لاتزال غامضة حتى الساعة، والتي كشفت عن أن تركيا تدار بلا عقل وأنها لم تصل بعد إلى مصاف الدول المحترفة.
فإذا نظرنا إلى ما تواكب مع كل ذلك من حوادث أمنية أسقطت ورقة التوت عن الجهاز الأمني الذي تم إطلاق صلاحياته بلاحدود عبر حزمة الأمن الداخلي التي أقرها البرلمان منذ أيام والتي عمقت من الإحساس بالخوف وعدم الاطمئنان في نفوس الغالبية من أبناء الشعب التركي، لأصبح بالإمكان القول بلا عناء إن تركيا تندفع بكل قوتها نحو دولة استبدادية فاشلة لايهتم قادتها بأمر شعبها وإنما باستكمال ملامح مشروع خاص لشخص تضخمت ذاته السياسية، ولايرى غضاضة في أن يلقى ببلده إلى المجهول من أجل تحقيق حلمه.
نعود الآن للسؤال عن النظام الرئاسي، وهل يحتاج الرئيس أردوغان إلى السند القانوني المتمثل في تغيير النظام السياسي للبلاد إلى النظام الرئاسي عبر تغيير الدستور؟ نظريا لايحتاج لأن البلاد تسير بسياسة أمر واقع يفرض فيه الرئيس وجوده وإرادته على كل شئ.. لكن عمليا يمكن لرئيس الحكومة أن يتمرد عليه أو يشب عن الطوق ليطالب بصلاحياته التي يكفلها له الدستور.. وهناك مثال قريب جدا حدث الأسبوع الماضي وسط حرب التصريحات والتراشق والتلاسن بين كوادر حزب العدالة والتنمية الحاكم ومطالبة نائب رئيس الوزراء بولنت أرينتش الرئيس أردوغان صراحة بأن يلزم حدوده التي يرسمها الدستور.
إذن فالأمر الواقع يقول إن هناك نظاما رئاسيا بنكهة ليست تركية فحسب بل بنكهة من يجلس على مقعد الرئيس وبيده كل شئ عنوة.. لكن على الورق ليس الأمر هكذا ولابد من مستند يتحقق عبر دستور جديد.. والدستور الجديد لن يتم الوصول إليه إلا عبر أغلبية برلمانية تدين بالولاء لمن يريد هذا النظام أي للرئيس أردوغان.. ومعنى ذلك أنه وليس غيره (رئيس الوزراء أحمد داود أوغلو) من يجب أن يختار بدقة الأسماء التي ستجلس على مقاعد البرلمان وترفع أيديها بالموافقة على التحول للنظام الرئاسي المرغوب والمرتجى.. تخصيص الميزانية السرية للقصر الرئاسي كانت هي المقدمة لتكريس الوضع الجديد.. وبعد أيام تعد على أصابع اليد الواحدة ستظهر قائمة مرشحي حزب العدالة والتنمية الحاكم للانتخابت البرلمانية التي ستجرى في 7 يونيو/ حزيران المقبل.. ولن تكون مفاجأة أن يكتشف الجميع أنها قائمة بنكهة رئاسية.. ولن يكون مستغربا أيضا أن يخرج رئيس الوزراء، المتضرر من القائمة، للدفاع عنها بحكم الأمر الواقع…