مصطفى أونال
صحيح أن نائب رئيس الوزراء التركي بولنت أرينتش سكت وأن رئيس بلدية أنقرة مليح جوكتشك لن يتكلم، وعلى الأقل لن يكون بينهما تلاسن حتى الانتخابات.
لكن لا تنخدعوا بالظاهر، فالسبب الأساسي للأزمة ليس تصفية الحسابات بين أرينتش وجوكتشك. بل الخلاف في وجهات النظر بين أردوغان والحكومة: فقد أعلن أردوغان معارضته لسياسة مسيرة السلام الداخلي مع الأكراد. وقال: “لا يجوز أن تكون هناك لجنة متابعة مسيرة السلام” وقال “صورة دولمابهشه خاطئة” (صورة التقطها مساعدو داود أوغلو مع مندوبي الجناح الكردي في قصر دولمابهشه خلال اجتماع لمناقشة شروط زعيم منظمة حزب العمال الكردستاني السجين مدى الحياة في سجن إيمرالي غرب تركياعبد الله أوجلان) ،كما أنه رفض المواد العشر القادمة من إيمرالي.
في الحقيقة كلا التطورين كانا أهم مرحلتين في مسيرة السلام. اعترض أرينتش على أردوغان لتصريحاته أمام الرأي العام واصفا إياها بأنها تتسبب في صعوبات للحكومة. واتخذ خطوة نحو الأمام. وأفاد بأن الحكومة مصرة على لجنة متابعة مسيرة السلام رغم رفض أردوغان لها. طبعا تفاقم الوضع كثيرا. لأنها كانت المرة الأولى التي يقال فيها “لا” لأردوغان.
وقد حافظ أرينتش على الوضع كما هو بعد يوم واحد. وهذه هي المشكلة الأساسية أي تدخل القصر في الحكومة أو عدم ترك أي مجال لمبادرات الحكومة. فالمسألة ليست المشادة الكلامية بين أرينتش وجوكتشك ، ولا بد أن تكون الحسابات القديمة عاملا مهما في سلوك جوكتشك، ولكن ما جعله يفصح عن مكنونه هو ملاءمة الجو. حيث أراد جوكتشك أن ينتهز الفرصة مستفيدا من دعم أردوغان له. وما بعد ذلك معروف. فالمشاحنة بين أرينتش وجوكتشك ستستمر حتى بسكوتهما.
يجب التركيز على الأزمة الأساسية. التقى أردوغان داود أوغلو. خفت الحدة لكن المشكلة لم تُحلَّ. وبقيت وصاية القصر موجودة حتى حين خفت ضغوط القصر. فالمبادرة ليست من داود أوغلو. بل من أردوغان. وكان موقف الحكومة “الحازم” لينا.
سكت أرينتش وتكلم نائب رئيس الوزراء يالتشين أكدوغان الذي يتفاوض مع الأكراد. أكدوغان كان في بؤرة صورة دولمابهشه التي وُصفت بالتاريخية قبل 10 أيام. وقد تغير ما قاله، حيث قال: “تصريحات صلاح الدين دميرطاش رئيس حزب الشعوب الديمقراطي الكردي وقيادات العمال الكردستاني في جبال قنديل سممت مسيرة السلام. ولوثت الأجواء”.
فهل تلك التصريحات سممت مسيرة السلام إلى درجة أنها قضت عليها تماما؟ من المؤكد أنها عرقلت المسيرة. فتشتت الأجواء الإيجابية. فما عاد أحد يتحدث بتفاؤل حول المسيرة. والسبب معروف.. صندوق الاقتراع.
وكما في كل مرحلة انتخابية يطمع حزب العدالة والتنمية في أصوات التيار القومي، وتشير الاستطلاعات إلى احتمال تراجع نسبة التصويت لحزب العدالة والتنمية. وأردوغان هو الذي بادر بالحملة وليس داود أوغلو.
إذن ما الذي سيحدث لوصاية القصر التي تسببت في الأزمة. لا شك في أنها ستستمر وتتزايد، وهذه الوصاية تُمارس على الحكومة وحزب العدلة والتنمية. الإدارة عن بعد لا تأتي بنتائج إيجابية في السياسة. وإن كوادر العدالة والتنمية يعلمون ذلك جيدا. فكل الذين عارضوا تدخل رئيس الوزراء الراحل نجم الدين أربكان في أداء حزب الفضيلة الذي كان يترأسه رجائي كوتان استمروا بالعمل السياسي مع العدالة والتنمية. حتى إن حركة التحديث التي تمخض عنها حزب العدالة والتنمية كانت إحدى حجج الانفصال.
ولافرق بين داود أوغلو وكوتان. فالحكومة والحزب لايزالان تحت سيطرة القصر. ولكن سياسات أردوغان المثيرة للأزمات ليس لها أنصار كثيرون حتى داخل العدالة والتنمية. إن داود أوغلو لم يتحمس للدفاع عن النظام الرئاسي حتى الآن. وسيكون له حضور في البيان الانتخابي لحزب العدالة والتنمية، ولكنه لن يحول انتخابات 7يونيو/حزيران إلى انتخابات رئاسية.
فثمة بحث عن نظام ليس من أجل تركيا بل من أجل أردوغان.
لقد أسس أردوغان جدارا صلبا عازلا للعدالة والتنمية. وهذا الجدار تزايد ارتفاعه وسمكه باستمرار كما ازدات صلابته. وقبل أيام عدة التقيت بصديق من العدالة والتنمية وهو في الحزب منذ تأسيسه. أي إنه ضمن أجواء السياسة الفاعلة. وسألته إن كان مرشحا لعضوية البرلمان؟ فقال: لا. وكانت حجته مقنعة: “نحن فزنا بالانتخابات حتى اليوم وازاد التصويت لنا دوما. ولكننا خسرنا محبة الجماهير. وما عاد بإمكاننا التحدث إلى الأحزاب الأخرى. وحتى لو فزنا فما الفائدة بعد خسارة القلوب؟ إذ إن أمامنا شريحة واسعة تنظر إلينا باشمئزاز وتأفف. ولم نعد نستطيع الخروج من قوقعتنا. ولذلك فقد فترت همتي عن السياسة”.
وليس هذا فحسب.
فقبل شهر تحدثت مع مسؤول رفيع المستوى شغل العديد من المناصب المهمة في العدالة والتنمية. وكان ممتنًّا من تركه للسياسة الفاعلة. وقال آسفا: “لم تكن هذه هي تركيا التي تخيلناها . فقد كانت بدايتنا موفقة كما كان استمرارنا جيدا ولكن لم نُحسن الخاتمة . ليت الأحداثَ التي نعيشها كابوسٌ… ” .
ولم أذكر الأسماء لأنهم طلبوا عدم ذكرها. لأنهم يخشون على أولادهم، أفلا يكفي هذا للتعبير عن الأجواء التي يعيشها حزب العدالة والتنمية؟
لا يمكن أن تعود مياه العدالة والتنمية إلى مجاريها.