علي بولاج
لقد فقدت شعوب الشرق الأوسط منذ زمن بعيد قابليتها على حل مشاكلها بنفسها. إن تواجد الغرب في المنطقة ليس متعلقًا فقط بأمن إسرائيل وآبار البترول، فنحن في حاجة إلى الغربي لسببين: أولًا لأننا عاجزون عن حل مشاكلنا بإمكانياتنا الذاتية، وثانيًا لأن مَن لا يستطيع الحصول على حقه بقوته يكون محتاجًا لمساعدات الغرب.
كانت شعوب المنطقة قد دعت المسلمين في الماضي إلى تقديم يد العون في مواجهة ظلم الإمبراطوريتين البيزنطية والساسانية، وفتحوا أبواب قلاعهم أمامهم، أما اليوم فنحن كمسلمين نطلب العون من الغرب لمواجهة الظالمين من بني جلدتنا. وإذا كنا في هذه الوضعية فلا يمكن أن نحمل تماما التهمة على الغرب، فجوانب ضعفنا الداخلي تلعب دورًا محوريًا أكثر من أي شيء آخر.
تقطر منطقتنا دمًا، وفي الوقت الذي نقول إننا نسير فيه نحو الحل الكامل في إحدى المناطق، نجد أنفسنا نعود إلى نقطة البداية في لحظة. وبينما كنا ننتظر أن تقْدِم الحكومة التركية على اتخاذ خطوات جادة لدعم مفاوضات السلام مع الأكراد، خرج علينا الرئيس أردوغان ليقول “ليست هناك مشكلة كردية في تركيا!”. وهذا شعار نمطي تكرر منذ قيام الجمهورية التركية. وربما يكون أردوغان قد استخدم عبارة كهذه لوقف نزيف أصوات حزب العدالة والتنمية لصالح حزب الحركة القومية بشكل مستقر، غير أن ردود أفعال هذه العبارة قادرة على التأثير على مفاوضات السلام نفسها.
إذن لا نريد التعرض لما تعرض له كل من العراق وسوريا علينا أن نرى حقيقة، ألا وهي كما قال الأستاذ سعيد النورسي “الحال القديم محال، إما الحال الجديد أو الاضمحلال!”.
نعم، إن هناك مشكلة تتعلق بالأكراد ويطلق عليها “القضية الكردية” ولا يمكن إنكار هذه الحقيقة. فالأكراد جميعًا يشتكون من إنكار هوياتهم. وهناك من يرغبون في استخدام لغتهم الأم في التعليم وآخرون يفضلون التكلم بها بشكل اختياري. فالمناطق التي يعيش فيها الأكراد في تركيا والعراق وسوريا وإيران في وضع أكثر سوءًا من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية مقارنة بغيرها من المناطق؛ إذ أهملت الحكومات المركزية على مدار قرن من الزمان تلك المناطق .
إن ما ذكرناه هو أشياء جرى الإشارة إليها كثيرًا قبل ذلك. وربما لم تكن الأوضاع قد وصلت إلى ما هي عليه الآن لو كانت تركيا قد انتهجت إبان تأسيس الجمهورية بها “نموذج الأرضية الإسلامية الذي يمنح كل صاحب حق حقه”، أو على الأقل لم تنكر هوية القومية الكردية قبل 20 عامًا، أو حتى كانت الدولة قد اعترفت بإمكانية الدراسة باللغة الأم للأكراد خلال السنوات العشر الماضية. بيد أننا لم نشهد الإقدام على أية خطوة قانونية ودستورية. لذلك زادت المطالب في هذا الصدد، ولو كانت هناك شريحة سترضى بتدابير من قبيل الاعتراف بالهوية والتدريس باللغة الأم وضخ استثمارات بالمنطقة، فهناك شرائح أخرى لن تكتفي بها مثل:
أ – القسم الأعظم ممّن وضعوا السياسة الكردية أصلاً وينفذها.
ب – الجيل الذي تغذى على الكراهية بعدما فتح أعينه على أجواء الصراع المستمر منذ أكثر من ثلاثة
عقود.
ج – القوى الدولية التي تشير إلى آفاق أخرى.
لم يعد هناك العراق وسوريا القديمان! فمن الواضح للعيان أن نظام بشار الأسد لن يسقط على المدى القريب. ويقدم الأسد رسالة إلى الأكراد مفادها “لن أتنحى، لم يكن اتفاقنا كذلك عندما تركتُ لكم شمال سوريا لتحكموه”. لذلك قد يرتكب الأسد مذبحة مشابهة لما يرتكبه اليوم ضد الأكراد أيضاً، غير أن ذلك لن يكون سهلًا وسيفتح الباب أمام نزيف دماء مسلمة جديدة دون وجه حق.
الإقليم الكردي في العراق هو دولة اتحادية كردية. أما تركيا وإيران فعاجزتان عن الاتفاق حول رعاية المنطقة. ولقد سحق ملايين السوريين تحت أقدام فيلين يتصارعان وكل واحد منهما يحاول الانتصار على الآخر. كلاهما ارتكب أخطاء فادحة في حق شعوب المنطقة.
باختصار، يطالب الأكراد بوضعية جديدة لهم في المنطقة. فهم لا يريدون أن يبقوا تحت ظل ظلال شعوب أخرى تحت الشمس، بل يريدون أن يكون لهم وجود أو حضور ذاتي ومستقل، وهذا حقهم!
ولاشك في أن الرياح الدولية تدعمهم، سواء شئنا أم أبينا. وبطبيعة الحال يعلم قسم مهم من الأكراد أن أية وضعية تمنح لهم بدعم غربي وإسرائيلي رغمًا عن الأتراك والعرب والفرس ستكون كافية لإطلاق صراعات دامية في المنطقة تستمر لمائة عام مقبلة.
يا شعوب المنطقة! لنجمع كلمتنا، ولنبدأ الحوار فيما بيننا، ولنبحث عن نموذج يكون فيه حق الكردي كما هو حق التركي والعربي والفارسي دون زيادة أو نقصان، وألا يخضع أي عنصر ديني أو مذهبي أو عرقي للتطهير، ويعبِّر الجميع فيه عن هويّاتهم، ويستخدم فيه لغته الأم في كل المجالات، وتقسم فيه المصادر والموارد بشكل عادل فيما بيننا. ومصادر هذا النموذج المتينة موجودة في الإسلام وتاريخنا والوضعية الحالية.
نحن أمام خيارين لا ثالث لهما؛ إما أن نواصل سفك دماء بعضنا البعض إلى يوم القيامة أو أن نتحاور ونتفاهم ونعيش جنبًا إلى جنب في سلام ووئام!