ممتاز أرتركونه
فتحت النيابة العامة في تركيا 84 تحقيقًا حتى نهاية شهر فبراير/ شباط الماضي بتهمة “الإساءة إلى رئيس الجمهورية”.
نشهد زيادة مفرطة في عدد ملفات هذه التحقيقات التي تستند إلى المادة 299 من قانون العقوبات الذي يتناول فقط حماية رئيس الجمهورية. ومؤخرًا بدأت مزاعم الإساءة هذه تشكل مستنداً لاتهام” التنظيم” في مواقع التواصل الاجتماعي. وإن اعتقال سيدة يحقَّق بشأنها بهذه التهمة من مدينة موغلا (غرب تركيا) دون علم محاميها ونقلها إلى إسطنبول يدل على أن هذه الملفات التي تزيد بمرور الوقت ستخضع لمعاملة “سيئة للغاية”.
لاتتعجبوا إذا أضافوا خلال الأيام المقبلة تهمة” الانتماء إلى تنظيم إرهابي” إلى تهمة “الإساءة إلى رئيس الجمهورية”. وبما أن السلطات الأمنية تهرول وراء هذه المزاعم بهذه الحساسية وبتغليظ التهم، تظهر أمامنا نتيجة مفادها أن الانزعاج يزيد. وكيف لا يزيد؟ كيف يمكن لسياسي ينتقده أناس عاديون من خلال بضع كلمات على الإنترنت أن يستطيع حماية جاذبيته؟ لابد أن ذلك أمر صعب تحمُّله حتى بالنسبة لإنسان عادي ناهيكم عن اعتبار سياسي يجب أن يحميه.
أقول هذا الكلام لأنني أعلم جيدًا ماذا يمكن أن يشعر به. لأني أتعرض كل يوم لعدد لا نهائي من الشتائم والإهانات عبر مواقع التواصل الاجتماعي. لاشك في أن مقابلة ألفاظ غليظة تأتي إلى حسابكم الشخصي عبر البريد الإلكتروني أو تويتر ليس قبحا يمكن أن تعتادوا عليه وتستسيغوه بمرور الوقت. فنحن أمام عصابتين مختلفتين تعملان لحساب الحكومة وبشكل منظم وممنهج. وتثبت طريقة عملهما والتشابهات بينهما أنهما يعملان بشكل احترافي. فهاتان العصابتان اللتان مهمتهما توجيه إساءات للناس تعملان بشكل هرمي، وخضعتا لتدريب معين، كما أنهما تحصلان على رواتب ثابتة. وإذا سألتموني مَن يوظف هؤلاء؟ أقول لكم إن مهمة هؤلاء تتلخّص في الإساءة إليكم وشتمكم وإيذائكم أنتم وقرّائكم.
نفهم جيدًا من تكرار الأخطاء في العبارات بشكل منتظم أن الحسابات التي ترسل عبرها الشتائم حسابات مزيفة وأن شخصًا واحدًا يرسل بعض الرسائل من حسابات مختلفة. كما أن كتابتهم رسائلهم بلغة ركيكة لا يكتب بها إلا طالب في الصف الثالث الابتدائي تظهر أنهم لم يؤلفوا جملًا في حياتهم إلا للشتم والسب. وثقوا بي فإن البؤس الموجود في اللغة التي يستخدمونها يزعج الإنسان أكثر من الشتائم والإهانات. فشتان بين كتابات وطرائف متظاهري متنزه جيزي بارك وبين العصابات التي لاتعرف اللغة إلا بقدر السب والشتم ولا تستطيع حتى كتابة كلمات صحيحة نحويًا وإملائيًا؟
هناك من يزعمون أن الصياح والنباح والشتم والسب يريح الإنسان نفسيا. ويمكنكم إدراك الفرق بين الجانبين. فالعصابات المؤيدة للحكومة تفعل هذا ليس من أجل إراحة الآخرين بل من أجل إزعاجهم فقط ويقومون بالإساءة والشتم تحت إشراف رجل محترف، ذلك الرجل يتعب العقل ويجمع المعلومات، ويحاول تخمين أي الكلمات يمكن أن تزعج الشخص الذي أمامه أكثر، حتى وإن لم يكتبها بطريقة صحيحة. فعملهم هو ملأ دلوهم بالبارود واختيار رصاص مخصوص جدًا لتركيبه في خزنة السلاح وتوجيهه إلى الشخص المراد مهاجمته. ويجب أن يكون الشيء الوحيد الذي يجعل هذا الشخص يستمتع هو تخيل الدمار.
إن مهمة أقلام العاملين في الإعلام الموالي للحكومة التركية هو الشتم والسب يمنة ويسرة، وربما تزودكم هذه الأقلام ببعض الأفكار. فهدفهم هو الاعتداء على خصومهم والحصول على استحسان قليل ممّن يقف وراءهم ويدعمهم. فهل يمكن لأصحاب هذه الأقلام أن يفهموا أن القضية ليست ما يكتبون بل هي أصحاب السلطة الذين ينزلون إلى مستوى ما يكتَب؟ لأن رؤساءهم في السياسة هم من يرسمون لهم إطار أعمالهم وأقوالهم وهم يمتثلون وكأنهم عبيد مأمورون لهم يَفعلون ما يُؤمرون.
إن نعت اللص بصفة “السرقة” ووضع صفة للظلم بينما نبحث عن الحق والقانون والهجوم باستمرار من خلال فرق شتم وسب كطريقة تتبعها السلطة الحاكمة هي أشياء مختلفة عن بعضها البعض. وباختصار أقول إننا في تركيا نشهد زيادة كبيرة في جرائم السب والإساءة وليس “الإساءة إلى رئيس الجمهورية”. وبما أن هذه التهمة تخاطب المشاعر لا المنطق، فعلينا أن نبحث عن حيلة للخروج من هذا المستنقع لدى أصحاب العقول السليمة.
وبغض النظر عن مصدر الإساءة التي استهدفت متظاهري متنزه جيزي بارك بعبارات من قبيل “المخربين” و”النهابين”، فإن هذه الإساءات تتضمن إهانة موجهة إلى قطاعات عريضة من الشعب التركي. والأدهى من ذلك أن مبادرتكم إلى وضع هؤلاء الأشخاص الذين وصفتموهم بتلك الصفات المسيئة في الكفة نفسها مع “أعداء الشرف الذين يقتلون الفتيات البريئات”، عن طريق الإشارة إلى جريمة قتل الشابة أوزججان أصلان، يعتبر إهانة لايمكن تحملها بأية حال. لاسيما إن كانوا يقولون ذلك في الوقت الذي انهارت فيه كذبة الاعتداء على المرأة المحجبة في منطقة كاباطاش بإسطنبول. فإذن من الذي يتعرض للإهانة بالله عليكم؟!